وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
(12)
قولُهُ ـ سُبحانَهُ مِنْ حَليمٍ: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا} عِتابٌ مِنَ اللهِ تَعالى لِعِبادِهِ على سُوءِ خُلقِ بعْضٍ مِنهم، بلِ الأكْثَرينَ مِنهم لقولِهِ تعالى في سورة سبأ: {وقليلٌ مِنْ عِباديَ الشَكُورُ} الآية: 13. ويتضمّن هذا العتابُ النَهْيَ عَنْ هذا الخُلُقِ السَيِّءِ، والأَمْرَ بالتَسْليمِ إليْهِ سُبْحانَهُ، والضَرَاعَةِ لَهُ تَعالى على جميعِ الأَحْوالِ، وقدْ جاءتْ هَذِهِ الآيَةُ الكَريمَةُ لِتُبَيِّنَ أَنَّ المُشْرِكينَ كاذبونَ فيما ادَّعُوهُ مِنِ اسْتِعْجالِهُمُ العَذَابَ، وقد رَدَّ عليهم في الآيَةِ السابِقَةِ بأنَّه لو اسْتَجابَ لهم اسْتِعْجالهم الشرَّ كما يَسْتَجيبُ لهمُ اسْتِعْجالهمُ الخَيرَ لَهَلَكوا جميعاً، وهنا في هذه الآيةِ يبرهنُ سبحانه بأنهم غيرُ جادِّينَ في طَلَبِهم، بِدَليلِ أَنَّهم، ما إنْ ينزلُ بهم كرب أو شدَّة فسرعان ما تراهم يجأرون بالدعاء ويَتَضَرَّعونَ إليه تعالى ويَسْتَغيثونَه في جميعِ أَوْقاتهم، وعلى كُلِّ حالٍ يكونونَ فيه، مَضطّجعينَ، قاعدين، قائمين، لِيَكْشِفَ عَنْهم ما نَزَلَ بهم، فإنَّ القلقَ والتَضَجُّر وقِلَّةَ الصَبرِ عَلى الشَدائدِ مِنْ طَبيعَةِ الإِنْسَان وصفاتِهُ إِذَا ما مَسَّهُ ضُّرٌّ أوْ أصابه شَّرٌّ، وإِذا مَا نَزلَ بساحتِه السُّوءُ تاب وأَنابَ وأَكْثَرَ مِنَ التَّضَرُّعِ إليه تعالى وَالدُّعَاءِ، رَاجِياً كَشْفَ مَا نزلَ بِهِ مِنْ ضُرٍّ، وما أَحاطَ بِهِ مِنْ شَرٍّ، وما أَسْرَعَ ما يَعودُ إلى ما كانَ عَلَيْهِ مِنْ غَفْلَةٍ عَنِ اللهِ ومَعْصِيَةٍ، وكأَنَّ شَيْئاً لمْ يَكُنْ، وكَأَنَّهُ ما دَعاهُ ولا رَجَاهُ أَبَداً.
وقد بيَّنَ هذا في مَواضِعَ أُخَرَ مِنْ كِتابِهِ العَزيزِ، فقالَ في سُورَةِ الزُمَر: {وَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ} الآية: 8، وقال بعد ذلك في الآية 49. منها: {فَإِذَا مَسَّ الإنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ}، وقال في سُورَةِ فُصِّلَتْ: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الأِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} الآية: 51.
والمرادُ بالإنسانِ هُنا الجِنْسُ، ولامُ التعريفِ فيهِ للاسْتِغْراقِ العُرْفيَّ، يَعني: الإنسانَ الكافِرَ، لأنَّ عامَّةَ النَّاسِ إذْ ذاكَ كافرون. والمسلمون حينها لا يَعُدُّونَ إلاَّ القليلَ. وبهذا يَكونُ المَنْظُورَ إِلَيْهم في هذا الحُكْمِ هُمُ الكافرونَ، وهوَ كَقولِهِ تَعالى في سورة مريم: {ويَقولُ الإنْسانُ أَئِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً} الآية: 66. وكقولِهِ في سورة الانفطار: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} الآيات: 6 ـ 8. وحظُّ المُسْلِمينَ مِنْ هذا الحكمِ يَتَناسَبُ مع مِقْدارِ مَا بقيَ في نفوسِهِمْ مِنْ هَذِهِ الحالِ الجاهِلِيَّةِ.
قولُهُ: {لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا} يُبَيِّنُ رَبُّ العزَّةِ سُبْحانَهُ هَلَعَ الإنْسانِ وشِدَّةَ ضَعْفِهِ، وضِيقَ صَدْرِهِ، وقلَّةَ صَبرِهِ، فتَراهُ يجأرُ بالضَراعَةِ لا يَفْتُرُ، ويَرْفَعُ عَقيرَتَهُ بالدُعاءِ طِيلَةَ وَقْتِهِ وعلى كافَّةِ أَحْوالِهِ، مُضطَّجِعاً عَلى جَنْبِهِ، أَوْ قاعِداً وحدَهُ، أَوْ قائماً في سِرْبِهِ، أوْ ماشِياً في دَرْبِهِ، في كلِّ وقتٍ وآنِ، لا يَسكُن لَهُ جَنانٌ، ولا يَعيا لَهُ لِسانٌ، ولا يَقرَّ بِهِ مَكان.
قولُهُ: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} فَإِذَا فَرَّجَ اللهُ كَرْبَهُ، وأَزالَ عَنْهُ ضُرَّهُ، نَسِيَ ما كانَ يُعانيهِ، وأَعْرَضَ عَنْ ربِّهِ الذي طالما باتَ يَدْعُوهُ ويرجوهُ ويُناجيه، وعادَ يَرْتَعُ في نِعْمَةِ الله، غافلاً عَنْ رَبِّهِ ومَوْلاهُ، وكأنَّه ما تَضَرَّع إليْهِ يَوْماً ولا دَعاهُ.
والمرورُ: هُنا مجازِيٌّ بمَعْنى اسْتِبْدالِ حالَةٍ بِغيرِها. فقد شَبَّهَ الاسْتِبْدالَ بالانْتِقالِ مِنْ مَكانٍ إلى آخَرَ، لأنَّ الانْتِقالَ اسْتِبْدالٌ، أَيْ: انْتَقَلَ إلى حَالٍ كَحالِ مَنْ لمْ يَسْبِقْ لَهُ دُعاءٌ، أي: نَسِيَ حالَةَ اضطِّرارِهِ، وظروفَ احْتياجِهِ إلى ربِّه، فصَارَ كأَنَّه لم يَقَعْ يوماً فريسةً لمرضٍ أو فَقْرٍ أو مُصِيبَةٍ أَوْ حاجَةٍ، ولا نزلتْ به جائحةٌ أو شدَّةٌ.
قولُهُ: {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} الإسْرافُ: الإفْراطُ في شَيْءٍ غيرِ محمودٍ أو الإكثارُ منه. والمُرادُ به هُنا الكفر. فالمسرفونَ المَعْنيُّ بهم هنا الكافرون. وقد اخْتيرَ لَفْظُ: "الْمُسْرِفِينَ" لدَلالَتِهِ على مُبالَغَتِهم في كُفْرِهم، والتَعريفُ في "المسرفين" للاسْتَغْراقِ، فيَشْمَلُ المُتَحَدَّثَ عَنْهم وغَيرَهُم. وأُسْنِدَ فِعْلُ التَزْيينِ إلى المجهولِ لأنَّ المُسلمين يَعْلَمونَ أَنَّ المُزَيِّنَ للمُسْرِفينَ خَواطِرُهم الشَيْطانِيَّةِ، فقدْ أُسْنِدَ فعلُ التَزيينِ إلى الشَيْطانِ غيرَ مرَّةٍ، أَوْ لأنَّ مَعْرِفَةَ المُزَيِّنِ لهم غَيرُ مُهْمَّةٍ هاهنا، وإنَّما المهُمُّ الاعْتِبارُ والاتِّعاظُ باسْتِحْسانهم أَعْمالَهُمُ الذَميمَةَ اسْتِحْساناً شَيْطانيّاً. ومن شأنِ الأَعْمالِ الذَميمَةِ القَبيحةِ إذا تَكَرَّرَتْ مِنْ أَصْحابها أَنْ تَصيرَ لهم دُرْبَةٌ تُحْسُنُ عِنْدَهم قَبائحُها فلا يَكادونَ يَشْعُرونَ بِقُبْحِها، فكيفَ يُقْلِعونَ عَنْها، وعندها يصدُقُ فيهم قولُ العباسُ بْنْ أَحنَف:
يُغْمَى على المَرْءِ في أَيَّامِ مِحْنَتِهِ ....... حتى يَرى حَسَناً ما لَيسَ بالحَسَنِ
فقد ذَمَّ اللهُ تَعَالَى في هذه الآيةِ المباركةِ مَنْ كَانَ مِنَ النَّاسِ هَذِهِ صِفَتُهُ، ونَعى عليه سَرَفه وسوء صُنعه. واغترارَه بمولاه وغفلته عن الله، وَقَدْ حَسَّنَ مَسْلَكُ هَؤُلاَءِ الدَّاعِينَ للهِ فِي الشِّدَّةِ، وَالنَّاسِينَ لَهُ فِي الرَّخَاءِ، لِمُشْرِكِي مَكَّةَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ مِنْ أَعْمَالِ السُّوءِ وَالشِّرْكِ، حَتَّى إِنَّهُمْ اسْتَعْجَلُوا بِالعَذَابِ الذِي أَنْذَرَهُمْ بِهِ رَسُولُ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلم. وَمِنْ صِفَاتِ المُؤْمِنِ الصَّبْرُ عَلَى الشَّدَائِدِ، وَالشُّكْرُ عَلَى اليُسْرِ، وَفِي كِلاَ الحَالَيْنِ خَيْرٌ لَهُ. يقولُ ـ صلى اللهُ عليه وسلّم، فيما أخرج الشيخان عن صهيب بن سنان ـ رضي الله عنه: ((عَجَباً لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ، إِذَا أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ فَشَكَرَ، فَكَانَ خَيْراً لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ ، صَبَرَ ، فَكَانَ خَيْراً لَه)). وهذا نَصُّ رِوايَةِ مُسْلِمٍ: 4/2295 برقم (2999). وأخرجه أيضاً أحمدُ والدارميُّ وابْنُ حَبَّانٍ. وروى الترمذيُّ والثعالبي عن سَلْمَانِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْه، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ: ((مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُسْتَجَابَ لَهُ عِنْدَ الكُرَبِ، وَالشَّدَائِدِ، فَلْيُكْثِرِ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ))، ورواهُ الحاكمُ أَيضاً، وقال: صَحيحُ الإِسنادِ. وأَخْرَجَ أَبو الشَيْخِ عَنْ أَبي الدَرْداءِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قالَ: (ادْعُ اللهَ يومَ سَرَّائِكَ يَسْتَجِبْ لَكَ يَوْمَ ضَرَّائكَ). فإنَّ الأصلحَ للمؤمِنِ أنْ يكون دائمَ الذلِّ والانكسارِ لحضرة الجبارِ، دائباً على الارتماء في أعتابه، مسابراً على قَرْعِ بابِهِ مُلِحّاً بالدُعاءِ فإنَّ ((الدُعاءَ مُخُّ العِبادَةِ). كما روى الترمذيُّ عن سيدنا رسول الله ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ، من حديثِ أنسٍ ـ رضي اللهُ عنه. وعنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رضي اللهُ عنهما، عن رسولِ الله ـ صَلَّى الله عَلَيْهِ وسَلَّمَ، قال: ((مَنْ فُتِحَ لَهُ بابٌ مِنَ الدُعاءِ، فُتِحَتْ لَهُ أَبوابُ الرَّحمةِ، وما سُئِلَ اللهُ شَيئاً أَحَبَّ إليْهِ مِنْ أَنْ يُسْأَلَ العافيِةَ، وإنَّ الدُعاءَ يَنْفَعُ مما نَزَلَ ومما لم يَنْزِلْ)) أَخْرَجَهُ التِرْمِذِيُّ وابْنُ أَبي شَيْبَةَ، والحاكمُ (1/675، رقم 1833) وقال صحيحُ الإسناد. وعَنْ أُمِّ المؤمنينَ السيِّدة عائشةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنها، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى الله عليه وسَلَّمَ: ((لاَ يُغْنِي حَذَرٌ مَنْ قَدَرٍ، وَالدُّعَاءُ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ، وَإنَّ البَلاَءَ لَيَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، فَيَتَلَقَّاهُ الدُّعَاءُ، فَيَعْتَلِجَانِ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ)) رواهُ الحاكِمُ في مستدركه، وقال: صحيحُ الإِسنادِ، وقولُهُ؛ "فَيَعْتَلِجَانِ"، أَيْ: يَتَصارَعانِ.
وأَمّا كيفيَّةِ الدُعاء فقد أخرج الترمذيُّ وصحّحَهُ عنْ فُضالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سمع النَبيُّ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، رَجُلاً يَدْعُو في صَلاتِهِ فلمْ يُصَلِّ عَلى النَبيِّ ـ صَلىَّ اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ، فقال: ((عَجَّلَ هَذا. ثمَّ دَعاهُ فقالَ لَهُ، أَوْ لِغَيرِهِ: ((إذا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بحَمْدِ اللهِ والثَناءِ عَلَيْهِ، ثمَّ لِيُصَلِّ عَلى النَبيِّ ـ صلَّى اللهُ عَليْهِ وسَلَّمَ، ثمَّ لِيَدْعُ بما شاءَ)). وأَخْرَجَهُ أيضاً أبو داوود، والنَّسائيُّ، والبزّار وابْنُ المنذر في الأوسط وابْنُ ماجه، وأخْرَجَهُ ابْنُ خُزيمَةَ، وابْنُ حبَّانَ في صَحيحَيْهِما، وقالَ الحاكم أَبو عبد الله: حديثٌ صَحيحٌ على شَرْطِ الشَيْخيْنِ، ولا نَعْرِفُ لَهُ عِلَّةً، ولَهُ شاهدٌ صحيحٌ على شَرْطِهِما. شرح ابن ماجه لمُغْلَطاي بْنِ قُليحٍ بنُ عبدِ اللهِ البَكْجَري المتوفى سنة: 762/هـ رحمهُ اللهُ: (ص: 1533).
قولُهُ تَعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا} إذا: هنا لمجرَّدِ الظَرْفِيَّةِ، وتَوقيتُ جوابها "دعانا" بِشَرْطِها "مسَّ"، ولَيْسَتْ للاسْتِقْبالِ، كما هُو غالبُ أَحوالها، لأنَّ المَقصودَ هُنا حِكايَةُ حالِ المُشْرِكينَ في دُعائهِمُ اللهَ عِنْدَ الاضطِّرارِ، وإعراضُهم عنهُ إلى عِبادَةِ آلهتِهم عِنْدَ الرَخاء.
قولُه: {لِجَنبِهِ} في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ، ولذلك عَطَفَ الحالَ الصريحةَ، والتَقديرُ: دَعانا مُضطَّجِعاً لجنبه، أَوْ مُلْقِياً لجَنْبه. واللامُ على بابها عِنْدَ البَصْريّين، وزَعَمَ بعضُهم أَنها بمعنى "على"، ولا حاجةَ إليه.
واختُلِفَ في ذِي الحالِ، فقِيلَ: "الإِنسان"، والعاملُ فيها "مَسَّ" قالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. ونَقَلَهُ أَبو البَقاءِ عَنْ غَيرِهِ أيضاً، واسْتَضْعَفَهُ مِنْ وجهين، أَحدُهما: أَنَّ الحالَ على هذا واقعةٌ بعدَ جوابِ "إذا" وليسَ بالوَجْهِ. (وكأنَّه عنى أَنَّه يَنْبَغي أَلاَّ يجابَ الشرطُ إلاَّ إذا اسْتَوْفى مَعْمُولاتِهِ، وهذِهِ الحالُ مَعْمولَةٌ للشَرْطِ، وهوَ "مَسَّ"، وقدْ أُجيبَ قبلَ أَنْ يَسْتوفيَ معمولَهُ.) ثمَّ قالَ: والثاني: أَنَّ المَعنى: كَثْرَةُ دُعائِهِ في كُلِّ أَحْوالِهِ لا عَلى أَنَّ الضُرَّ يُصيبُهُ في كُلِّ أَحْوالِهِ، وعَلَيْهِ جاءَتْ آياتٌ كثيرةٌ في القرآن.
قال أبو حيَّان الأندلسيُّ: وهذا الثاني يَلْزَمُ فيهِ مِنْ مَسِّهِ الضُرُّ في هذِهِ الأَحْوالِ دُعاؤه في هذه الأحوالِ، لأنَّهُ جَوابُ ما ذُكِرتْ فيهِ هَذِهِ الأَحوالُ، فالقَيدُ في الشَرْطِ قَيْدٌ في الجوابِ، كما تَقولُ: إذا جاءنا زَيدٌ فقيراً فقد أَحْسَنَّا إليهِ فالمعنى: أَحْسَنَّا إليْهِ في حالِ فَقْرِه.
وقيلَ: صاحِبُ الحالِ هو الضميرُ الفاعلُ في "دعانا" وهو واضحٌ، أي: دَعانا في جميعِ أحوالهِ لأنَّ هذِهِ الأَحْوالَ الثلاثةَ لا يخلو الإِنسانُ عَنْ واحدَةٍ منها. ثمَّ قيلَ: المُرادُ بالإِنسانِ الجِنْسُ، وهذِهِ الأَحْوالُ بالنسبة إلى المجموعِ، أيْ: مِنْهم مَنْ يَدْعو مُسْتلقياً، ومنهم مَنْ يَدْعو قائماً، أوْ يُراد به شخصٌ واحدٌ جَمَعَ بينَ هذِهِ الأحوالِ الثَلاثَةِ بحسَبِ الأوقاتِ، فيَدْعو في وقتٍ على هذِهِ الحالِ، وفي وقتٍ آخر يدعوا على حالٍ أُخْرى.
قولُهُ: {كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} كأن: مخفَّفَةٌ عن "كأنَّ"، واسمُها ضَميرُ الشَأْنِ، وحُذِفَ على ما هو الغالِبُ. فَحَذفَ ضميرَ الشَأْنِ كَما في قَوْل الشاعر:
وَوَجْه مُشْرِقِ النَّحْرِ ................................ كأنْ ثَدْياهُ حُقَّانِ
يعني على روايةِ مَنْ رواه "ثَدْيان" بالألف، والشّاهدُ فيه: (كَأنْ ثدياهُ حُقّانِ) حيثُ خُفّفَتْ (كأنّ) وبَطلَ عَمَلُها، وحُذِفَ اسمُها، وَوَقَعَ خَبرُها جملَةً اسميّةً؛ وأَصْلُهُ: كأَنَّهُ ثَدْياهُ حِقّانِ؛ ويُروى "كأَنْ ثَدْيَيْهِ" بالياءِ على أَنَّها أُعْمِلَتْ في الظاهِرِ وهوَ شَاذٌّ. و "إِلَى ضُرٍّ" عُدِّيَ الدُعاءُ بحرْفِ "إلى" دون اللامِ كما هوَ الغالبُ. وهذه الجملةُ التَشْبيهِيَّةُ في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ فاعل "مرَّ"، أيْ: مَضى على طريقتِهِ مُشْبِهاً مَنْ لم يَدْعُ إلى كَشْفِ ضُرِّ. و "مَسَّه" صِفةٌ ل "ضُرّ".
وقال: "وَإِذَا مَسَّ الإنسانَ" وَصْفُه للمستقبل، و "فلمَّا كشفنا" للماضي، فهذا النَّظْم يَدُلُّ على معنى الآيةِ أَنَّهُ كان هكَذا فيما مَضَى، وهَكذا يَكونُ مما يُستقبل، فدَلَّ ما في الآيةِ مِنَ الفِعْلِ المُستقبلِ على ما فيهِ مِنَ المَعنى المُستقبل.
قولُهُ: {كذلك زُيِّن} الكافُ مِنْ في مَوْضِعِ نَصْبٍ على المَصدَرِ، أي: مِثْلَ ذَلكَ التَزْيينِ والإِعراضِ عَنِ الابْتِهالِ. وفاعل "زُيِّن" المحذوف: إمَّا اللهُ تَعالى وإمَّا الشَيْطانُ خزاهُ اللهُ.
قولُهُ: {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} في محل رفعٍ لِقيامِهِ مَقامَ الفاعلِ. و "ما" يجوزُ أَنْ تَكونَ مَصْدَرِيَّةً، ويجوزُ أَنْ تَكونَ موصولةً بمعنى "الذي".