ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75)
قولُه ـ تعالى شأنُه: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ} ثُمَّ اللهُ بَعَثَ أولئكَ الرُّسُلِ ـ عليهِمُ السلامُ، الذِينَ أَتَوا بَعْدَ نُوحٍ، خُصَّ "مُوسى وهارونُ" عَلَيْهِما السَّلامُ، بالذِكْرِ مَعَ شَيْءٍ مِنَ التَفْصيلِ علماً بِأَنَّ خبرَهما مُنْدَرِجٌ فيما أُشيرَ إِلَيْهِ إجمالاً مِنْ أَخْبارِ الرُسُلِ مَعَ أَقوامِهم، نَظَراً لخَطَرِ شَأْنِ القِصَّةِ وعِظَمِ وَقْعِها، كما كانَ مِنْ أَمْرِ نَبَأِ نُوحٍ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ.
قولُهُ: {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا} إِلَى فِرْعَوْنَ وَأَشْرَافِ قَوْمِهِ، وَقَدْ خَصَّهُمُ اللهُ تَعَالَى بِالذِّكْرِ لأنَّ الدَهْمَاءَ إنَّما يكَنُون في العادةِ تَبَعاً لَهُمْ. وَلكَونهم رَاسِخِينَ فِي الإِجْرَامِ وَالظُّلْمِ وَالفَسَادِ، وَقَدْ أَيَّدَ اللهُ تَعَالَى مُوسَى وَهَارُونَ بِآيَاتٍ وَحُجَجٍ وَبَرَاهِينَ، عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللهِ، وَعَلَى صِدْقِ نُبُوَّتِهِمَا، فَاسْتَكْبَرُ فِرْعَوْنُ وَمَلَؤُهُ عَنِ اتِّبَاعِ الحَقِّ، وَالانْقِيَادِ لَهُ، وَارْتَكَبُوا إِثْماً عَظِيماً بِرَفْضِهِم الاسْتِجَابَةِ لِدَعْوَّةِ اللهِ. مع أنَّ موسى وهارونَ عليهما السلامُ قد لبثا يدعوانهم إلى اللهِ ثمانين سنة كما أخرج ابْنُ أبي حاتمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، قَالَ: "عَاشَ فِرْعَوْنُ ثَلاثَ مِئَةِ سَنَةٍ، مِئَتَانِ وَعِشْرُونَ لَمْ يَرَ فِيهَا مَا يُقْذِي عَيْنَهُ، وَدَعَا مُوسَى ثَمَانِينَ سَنَةً". والملأُ: الجَماعةُ مِنْ قَبيلَةٍ وأَهْلِ مَدينَةٍ، ثمَّ يُقالُ للأَشْرافِ والأَعْيانِ مِنَ القَبيلَةِ أَوِ البَلَدِ مَلأٌ، أَيْ هُمْ يَقومونَ مَقامَ الملأِ، وعلى هذا الحَدِّ هِيَ في قولِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَليْهِ وسَلَّمُ، في قَرَيْشِ بَدْرٍ: ((أُولئكَ الملأُ من قريش)) وكذلكَ هيَ في قولِهِ تَعالى: {إنَّ المَلأَ يَأْتَمِرونَ بِكَ} سورةُ القَصَصِ، الآية: 20. وأمَّا في هَذِهِ الآيَةِ فهيَ عامَّةٌ لأنَّ بِعْثَةَ موسى وهارونَ كانَتْ إلى فِرْعونَ وجميعِ قومِهِ مِنْ شَريفٍ ومَشْروفٍ وقد مَضى في أوَّلِ سورةِ الأَعْرافِ ذِكْرُ ما بُعِثَ إِلَيْهم فيهِ. والآياتُ: البراهينُ والمُعْجِزاتُ وما في مَعْناها.
قولُهُ: {فاسْتَكْبَروا وكانوا قوماً مجرمين} أَيْ تَعَظَّمُوا وكَفروا بها، ومعنى "مجرمين" أنهم كانوا يَرْتَكبونَ ما لمْ يُبِحِ اللهُ، ويَجْسُرون مِنْ ذَلِكَ على الخَطِرِ الصَعْبِ.
قولُهُ تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ} ثمَّ حرف عطفٍ، "بَعَثْنا" فعلٌ وفاعلُه "نا" العظمةِ، و "مِنْ بَعْدِهِمْ" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِ "بعثنا"، و "مُوسَى" مفعولٌ بِهِ، و "هَارُونَ" مَعْطوفٌ عَلَيْهِ، و "إِلَى فِرْعَوْنَ" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِهِ أَيْضًا، و "مَلَئِهِ" مَعْطوفٌ على "فِرْعَوْنَ" والهاء، مضافٌ إليه. و "بآياتنا" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلقٌ بمَحذوفِ حالٍ مِنْ "مُوسَى وَهَارُونَ" أَيْ: حالةَ كونِهِما مُؤَيَّدينَ بِآياتِنا، و "نا" في محلِّ جرِّ مضافٍ إِلَيْهِ، وجملةُ "ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ" معطوفةٌ على قولِه: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ} في الآيةِ التي قبلها عَطْفَ القِصَّةِ على القصَّةِ، وهذا مِنْ قَبيلِ ذِكْرِ الخاصِّ بَعدَ العامِّ، لما في الخاصِّ مِنَ الغَرابَةِ.
قولُه: {فَاسْتَكْبَرُوا وكانوا قوماً مجرمين} الفاءُ: للعطف والترتيبِ، و "استكبروا" فعلٌ وفاعِلٌ مَعْطوفٌ على محذوفٍ مُرَتَّبٌ عَلَيْهِ، والتقدير: فَأَتَياهُم فَبَلَّغاهُمُ الرِسالَةَ، فاسْتَكْبَروا عَنِ اتِّباعِها، فالجُمْلَةُ المحذوفَةُ مَعْطُوفَةٌ على جملَةِ "بَعَثْنَا"، و "كَانُوا" فِعْلٌ ناقِصٌ واسمُهُ، و "قَوْمًا" خبرُها، و "مُجْرِمِينَ" صِفَةٌ لَهُ، وهذه الجملةُ معطوفةٌ على جملة "استكبروا".