وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ
(36)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا} بَيانٌ لعَدَمِ فَهْمِ المشركين مَضمونَ ما أَفْحَمَهم وأَلْقَمَهُمُ الحَجرَ في الآيةِ السابقةِ مِنَ البُرْهان النَيِّرِ المُوجِبِ لاتِّباعِ الهادي إلى الحَقِّ والذي نعى عَليهم فيه بُطلانَ حُكمِهم وعَدَمَ تَأَثُّرِهم مِنْ ذَلِكَ واهْتِدائِهم إلى طَريقِ العِلْمِ أَصْلاً. أَيْ ما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهم في مُعْتَقَداتهم ومُحاوراتِهم، فإِنَّ أَكْثَرَ المُشْرِكِينَ لاَ يَتَّبِعُونَ فِي شِرْكِهِمْ، وَعِبَادَتِهِمْ لغَيْرِ اللهِ، وَلاَ فِي إِنْكَارِهِمْ البَعْثَ، وَتَكْذِيبِ الرَّسُولِ، إِلاَّ ضَرْباً مِنْ ضُرُوبِ الظَّنِّ الواهي وَالتَخْمِينِ الذِي لاَ دَلِيلَ لَهُمْ عَلَيْهِ، كَتَقْلِيدِ الآَبَاءِ، وَالاعْتِقَادِ بِأَنَّ الآَبَاءَ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا عَلَى خَطَأٍ وَضَلاَلٍ فِيمَا يَعْتَقِدُونَ وَفِيمَا يَعْمَلُونَ.
ووَجْهُ تخصيصِ هَذا الاتِّباعِ بِأَكْثَرِهم الإشْعارُ بِأَنَّ بَعْضَهم قَدْ يَتَّبِعونَ العِلْمَ فَيَقِفون على حَقِيَّةِ التَوْحيدِ وبُطلانِ الشَرْكِ، ولا يَقْبَلونَهُ مُكابَرَةً منهم وعِناداً.
وجُوِّزَ أَنْ يَكونَ المعنى ما يَتَّبِعُ أكثرُهم مُدَّةَ عُمْرِهِ إلاَّ ظَنّاً، ولا يَتَرُكونَهُ أَبَداً، فإنَّ حَرْفَ النَفْيِ الداخِلِ عَلى المُضارِعِ يُفيدُ اسْتِمرارَ النَفْيِ بحسَبِ المقامِ، فالمُرادُ بالاتِّباعِ هُوَ الإذْعانُ والانْقيادُ، والقَصْرُ باعْتِبارِ الزَمانِ.
وقيلَ: المعنى وما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهم في قولهم للأَصْنامِ أَنَّها آلهةٌ وأَنَّها شُفَعاءُ لهم عِنْدَ اللهِ إلاَّ الظَنَّ، والأَكْثُرُ هنا بمعنى الجميعِ وهو كما وَرَدَ القَليلُ بمعنى العَدَمِ في قولِهِ تعالى: {فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} سورة البقرة الآية: 88. وكما هو في قول الشاعر المُخضرمُ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّة يرثي أخاهُ عبدَ اللهِ:
قليلُ التَشَكّي في المُصِيباتِ حافِظٌ .. مِنَ اليَوْمِ أَعْقابَ الأَحاديثِ في غَدِ
فالمرادُ أّنَّهُ مُنْعَدِمُ الشَكوَى. وحمْلُ النَقيضِ على النَقيضِ حَسَنٌ، ولا يَتَعَيَّنُ على القولين الأخيرين حملُ الأَكْثَرِ عَلى الجَميعِ بَلْ يُمْكِنُ حملُهُ عَلى ما يَتَبادَرُ مِنْهُ أَيْضاً.
قولُهُ: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} وَلَكِنَّ الظَّنَّ مُطْلَقاً لاَ يَقُومُ مَقَامَ اليَقِينِ فِي شَيءٍ، وَلاَ يُنَتَفَعُ بِهِ حِينَ يَحْتَاجُ الأَمْرُ إِلى يَقِينٍ. فكيف إذا كانَ فاسداً؟. وَقَلِيلٌ مِنْ هَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ مَا جَاءَهُمْ بِهِ الرَّسُولُ ـ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، حَقٌّ، وَأَنَّ أَصْنَامَهُمْ لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ، إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ، وَجَحَدُوا آيَاتِهِ، وَكَذَّبُوا رَسُولَهُ اسْتِكْبَاراً وَعِنَاداً.
قولُه: {إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُهُ رُؤُوسُ الكُفْرِ وَأَتْبَاعُهُمُ الذِينَ يُقَلِّدُونَهُمْ ، وَسَيُجَازِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ. فهو وعيدٌ لهم على أَفْعالهمُ القَبيحَةِ فيَنْدَرِجُ تحتَها ما حُكِيَ عَنْهم مِنَ الإعْراضِ عَنِ البراهينِ القَاطِعَةِ والاتِّباعِ للظُنونِ الفاسَدَةِ انْدِراجاً أَوَّلِيّاً.
قولُهُ تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا} ظنًا: نائبُ مَفْعولٍ مُطْلَقٍ؛ أيْ: إلاَّ اتِّباعَ ظَنٍ.
قوله: {إنَّ الظنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحقِّ شيئاً} إنَّ الظنَّ: هي الناسخةُ واسمُها، وخبرُها "لاَ يُغْنِي"، و "شيئاً" مَنْصوبٌ على المَصْدَرِ، أيْ: شَيْئاً مِنَ الإِغْناءِ. وقيلَ: نائبُ مَفْعولٍ مُطْلَقٍ؛ أيْ: لا يُغْني إِغْناءً قَليلاً أو كثيراً. و "من الحق" في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ مِنْ "شيئاً" لأنَّهُ في الأَصْلِ صِفَةٌ لَهُ. ويجوز أن تكونَ "مِنْ| بمعنى "بَدَلَ"، أيْ: لا يُغنْي بَدَلَ الحقِّ.
وقرأ الجمهور: {يَفْعلون} على الغَيْبَةِ. وقرَأَ عَبْدُ اللهِ ابْنُ مسعودٍ ـ رضي اللهُ عنه: "تَفْعلون" خطاباً وهو الْتِفاتٌ بَليغٌ.