وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84)
قولُهُ ـ جلَّ ثناؤهُ: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ} خطابٌ مِنْ سَيِّدِنا مُوسى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، إِلى مَنْ آمَنَ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ على تخوُفٍ من فرعونَ ومَلَئِهِ أنْ يبطشوا بهم لضعفهم، لأنَّهم آمنوا بموسى وما جاء به من عند ربِّه، قبل أنْ يأذنَ لهم فرعونُ بذلك، فهو قد ادَّعى الألوهيَّةَ وهو الحاكم المتصرِف بهم لذلك فإنَّه يرى في إيمانهم بموسى خروجاً عن طاعته ومخالفةً له وعصياناً لأمره، ومن الواجب عليه أن يؤدِّبهم بأشدِّ العقابِ ليتعظَ بهم غيرُهم، وإلاَّ ضعفت هيبتُه واضمحلَّ سُلْطانُهُ وذهَبَ مُلْكُهُ.
قولُهُ: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} فإذا كنتم أَعْلَنَتم لَهُمْ إِيمَانَكُمْ بِاللهِ وَبِرِسَالاَتِهِ إِيمَاناً حَقّاً، فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا، وَثقوا بِوُعُودِهِ لكم بالنَصرٍ، فإنَّ إيمانَكم باللهِ يرتِّبُ عليكم أنْ تسلموا له تعالى بتسليم أمورِكم له وكلِّ شؤنكم، إذْ لا يمسُّكم من سوء ولا يصيبُكم من خيرٍ إلاَّ بقضائه وقدره، لأنَّه المالكُ الوحيدُ لما خَلَقَ، ولا سُلْطانَ لِغَيرِهِ عَلى مُلْكِهِ، فلا حَرَكَةَ ولا سُكونَ إلاَّ بإرادَتِهِ وعِلْمِهِ. وإذا علمتم ذلك جيداً وآمنتم به، وإذا أسلمتم إليه أمركم، فعليكم الصبرَ على ما ينزل بكم من سوءٍ إذا قُدِّر ذلك عليكم فإنَّ فيه مَصْلَحتُكم، وسَيَجْزيكمُ الجنَّةَ إذا ما صَبَرْتمْ. وقالَ لهمْ ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ بإيمانهم وإسْلامِهم؛ إِنهاضاً لهِمَمِهم وتحريضاً لهم على الصَّبْرِ.
قال الإمامُ الحارثُ المُحَاسِبيُّ ـ رحِمَه اللهُ تعالى: قُلْتُ لأبي جعفرٍ محمَّدِ بنِ موسَى ـ رضي اللهُ عنه: إِنَّ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ، يقولُ: {وَعَلَى الله فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} سورة المائدة، الآية: 23. فما السَّبِيلُ إِلى هذا التوكُّل الذي نَدَبَ الله إِلَيْهِ، وكيف دُخُولُ الناس فيه؟ قال: إِنَّ الناسَ مُتُفاوِتُون في التوكُّل، وتوكُّلُهم علَى قَدْرِ إِيمانهم وقوَّةِ عُلُومهم، قُلْتُ: فما معنى إِيمانهم؟ قال: تصديقُهُم بمواعيدِ الله ـ عَزَّ وَجَلَّ، وثِقَتُهُم بضَمَانِ الله ـ تبارَكَ وتعالَى، قلْتُ: مِنْ أَيْنَ فَضَلَتِ الخاصَّةُ مِنْهم على العامَّةِ؟، والتوكُّل في عَقْدِ الإِيمان مَعَ كلِّ مَنْ آمَنَ بالله ـ عَزَّ وجلَّ؟ قال: إِنَّ الذي فَضَلَتْ به الخاصَّةُ على العامَّةِ دَوَامُ سُكُونِ القَلْبِ عَنِ الاضْطِرابِ، والهُدُوءِ عَنِ الحَرَكَةِ، فعندَها، يا فَتَى، اسْتَراحوا مِنْ عَذابِ الحِرْصِ، وفُكُّوا مِنْ أُسْرِ الطَمَعِ، وأُعْتِقُوا مِنْ عُبُودِيَّةِ الدُنْيا، وأَبْنائِها، وحَظُوا بالرَّوْحِ في الدَّارَيْنِ جميعاً، فطوبَى لهم وحُسْنُ مَآبٍ، قلْتُ: فما الذي يُولِّدُ هذا؟ قال: حَالَتَانِ: دَوَامُ لُزُومِ المعرفة، والاعتمادِ على اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ، وتَرْكُ الحِيَلِ. والثانيةُ: الممارسَةُ حَتى يَأْلَفَهَا إِلْفاً، ويختارَها اخْتِياراً، فيَصيرُ التَوَكُّلُ والهُدُوءُ والسُكونُ والرِضا والصَبْرُ لَهُ شِعاراً ودِثاراً.
قولُهُ تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إنْ كنتم آمنتم باللهِ} وَقالَ: الواو: استئنافية، و "قالَ موسى" فعلٌ وفاعِلٌ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، و "يَا قَوْمِ" أداةُ نداءٍ ومُنادى مُضَافٌ، وجملةُ النِداءِ في محَلِّ النَّصْبِ بالقولِ ل "قالَ"، و "إنْ" حرْفُ شَرْطٍ. "كُنْتُمْ" فعلٌ ناقِصٌ واسمُهُ في محلِ الجَزْمِ عَلى كَوْنِهِ فعلَ شَرْطٍ لها، و "آمَنْتُمْ" فعلٌ وفاعِلٌ، و "بِاللهِ" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، والجملةُ الفِعْلِيَّةُ في محَلِّ نَصْبِ خَبَرِ "كَانَ".
قولُه: {فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إنْ كنتم مسلمين} فَعَلَيْهِ: الفاءُ: رابِطَةٌ لجوابِ "إنْ" الشَرْطِيَّةِ، "عَلَيْهِ" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ ب "تَوَكَّلُوا"، و "تَوَكَّلُوا" فعلٌ وفاعلُهُ في محلِّ الجَزْمِ بِِ "إنْ"، على أَنَّهُ جوابًا لها، وجملةُ "إنْ" الشَرْطِيَّةُ في محلِّ نَصْبٍ بالقولِ ل "قال" كونَها جَوابَ النِداءِ. و "إِنْ" حَرْفُ شَرْطٍ، و "كُنْتُمْ" فعلٌ ناقِصٌ واسمُهُ في محلِّ الجَزْمِ بِ "إنْ" على كونِهِ فِعْلَ شَرْطٍ لها، و "مُسْلِمِينَ" خبرُ "كَانَ"، وجوابُ "إنْ" الشَرْطِيَّةِ مَعْلومٌ ممّا قَبْلَها، تَقْديرُهُ: إنْ كُنْتم مُسلِمينَ، فَعَلَيْهِ تَوَكَّلوا، وجملةُ "إنْ" الشَرْطِيَّةِ في محلِّ نَصْبٍ بالقولِ ل "قال". و "إِنْ كُنتُمْ آمَنتُمْ باللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلوا} جَوابُ الشَرْطِ الأوَلِ، والشَرْطُُ الثاني، وهوَ {إِنْ كنتم مسلمين} شَرْطٌ في الأَوَّلِ، وذَلِكَ أَنَّ الشَرْطَينِ مَتى لم يَتَرَتَّبا في الوُجودِ فالشَرْطُ الثاني شَرْطٌ في الأوَّلِ، ولذلك يجبُ تَقَدُّمُهُ على الأَوَّلِ.