قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ
(59)
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالاً} الخطابُ هنا لِكفَّارِ العَرَبِ ومشركيهم يُنْكِرُ اللهُ ـ تَبارَكَ وتَعالى، عليهم في هذِهِ الآيَةُ، مَا كَانُوا يُحِلُّونَهُ وَيُحَرِّمُونَهُ، مِنَ البَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ وَالوَصَائِلِ، ويَنْعَى على كلِّ مَنْ حَرَّمَ مَا أَحَلَّ اللهُ، وأَحَلَّ مَا حَرَّمَ اللهُ، بِرَّأْيِهِ وَهَوَاه، دوَنَ مُسْتَنَدَ لَهُ عَلَي ذلك وَلاَ دَلِيلَ، لأنَّ حَقَّ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ لاَ يَكُونُ إِلاَّ للهِ تعالى. وإنزالُ الرِزْقِ، إمَّا أَنْ يَكونَ بالمآلِ في ضِمن إنزالِ المَطَرِ، أَوْ نُزولِ الأمرِ بِهِ الذي هوَ ظُهورُ الأَثرِ في المَخلوقِ المُخْتَرعِ منه.
قولُهُ: {قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ} وَيَسْأَلُهُم اللهُ تَعَالَى عَمَّنْ أَذِنَ لَهُمْ بِهِ؟ هَلْ جَاءَهُمْ بِهِ وَحْيٌ مِنَ اللهِ، أَمْ أَنَّهُمْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ. وَبِمَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِهِ فَهُمْ مُفْتَرُونَ.
وأخرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ، والبَيْهَقَِيُّ في سُنَنَهَ، وابْنُ عَساكِرَ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ مَوْلَى أَبِي أُسَيْدٍ الأَنْصَارِيِِّ قَالَ: سَمِعَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ وَفْدَ أَهْلِ مِصْرَ قَدْ أَقْبَلُوا فَاسْتَقْبَلَهُمْ فَلَمَّا سَمِعُوا بِهِ أَقْبَلُوا نَحْوَهُ، قَالَ وَكَرِهَ أَنْ يَقْدَمُوا عَلَيْهِ الْمَدِينَةَ فَأَتَوْهُ فَقَالُوا لَهُ: ادْعُ بِالْمُصْحَفِ وَافْتَتَحِ السَّابِعَةَ، وَكَانُوا يُسَمُّونَ سُورَةَ يُونُسَ السَّابِعَةَ، فَقَرَأَهَا حَتَّى أَتَى عَلَى هَذِهِ الآيَةِ "قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ" قَالُوا لَهُ: قِفْ. أَرَأَيْتَ مَا حَمَيْتَ مِنَ الْحِمَى آللهُ أَذِنَ لَكَ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرِى فَقَالَ: امْضِهِ نَزَلَتْ فِي كَذَا وَكَذَا. فَأَمَّا الْحِمَى فَإِنَّ عُمَرَ حَمَى الْحِمَى قَبْلِي لإِبِلِ الصَّدَقَةِ فَلَمَّا وُلِّيْتُ زَادَتْ إِبِلُ الصَّدَقَةِ فَزِدْتُ فِي الْحِمَى لَمَّا زَادَ فِي الصَّدَقَةِ.
قولُهُ تَعالى: {قل أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكم مِّن رِّزْقٍ} قُلْ: فعلُ أَمرٍ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ يَعودُ على محمَّدٍ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، "أَرَأَيْتُمْ" فعلٌ وفاعلٌ بمعنى أَخبروني، و "مَا" الأَظْهَرُ أَنْ تكونَ موصولةً بمعنى الذي، والعائدُ محذوفُ أيْ: ما أَنْزَلَهُ، وهي في محل نَصْبٍ مَفْعولاً أوّل، ويجوزُ أنْ تكونَ الجملةُ من قولِهِ: "آللهُ أَذِنَ لَكُمْ" والعائدُ مِنْ هذِهِ الجملةِ على المفعولِ الأوَّلِ محذوفٌ تقديرُهُ: اللهُ أَذِن لكم فيه. واعتُرِضَ على هذِهِ بِأَنَّ قولَهُ "قُلْ" يمنعُ مِنْ وُقوعِ الجُمْلَةِ بعدَهُ مَفْعولاً ثانياً. وأُجيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ كُرِّرَ تَوكيداً. ويجوزُ أَنْ تَكونَ "ما" اسْتِفْهامِيَّةً مَنْصوبَةَ المحلِّ بِ "أَنْزَلَ" وهي حينئذٍ مُعَلِّقَةٌ ل "أَرَأَيْتم". ويجوزُ أَنْ تَكونَ "ما" الاسْتِفْهامِيَّةُ في محلِّ رَفْعٍ بالابتداء، والجملةُ مِنْ قولِهِ: "آللهُ أَذِنَ لَكُمْ" خبرُه، والعائدُ محذوفٌ كما تقدَّم، أي: أَذِنَ لَكُمْ فيهِ، وهذه الجملةُ الاستفهاميَّةُ مُعَلِّقَةٌ ل "أَرَأَيتم"، والظاهرُ مِنْ هَذِهِ الوُجوهِ هوَ الوَجْهُ الأَوَّلُ كما تقدَّم، لأَنَّ فيهِ إِبْقاءَ "أرأيت" على بابها مِنْ تَعَدِّيها إلى اثنين، وأَنَّها مُؤَثِّرَةٌ في أَوَّلِِهِما بخلافِ جَعْلِ "ما" اسْتِفْهامِيَّةً فإنها مُعَلِّقَةٌ ل "أرأيت" وسادَّةٌ مَسَدَّ المفعولين. و "أَنْزَلَ اللهُ" فعل وفاعل. و "لَكُمْ" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِ "أنزل"، والجُمْلَةُ صلَةٌ ل "مَا" الموصُولَةِ والعائدُ محذوف، تقديرُهُ: ما أَنْزَلَهُ اللهُ لَكُمْ. و "مِّن رِّزْقٍ" جارٌّ ومجرورٌ حَالٌ مِنْ "مَا" أَوْ مِنَ الضَميرِ المحذوف.
قولُه: {فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وحَلالاً} فَجَعَلْتُمْ: فعلٌ وفاعلٌ مَعطوفٌ على "أَنْزَلَ"، و "مِنْهُ" جارٌّ ومجرورٌ في محلِّ المَفْعولِ الأَوَّلِ ل "جعل" و "حَرَامًا" مفعولٌ ثانٍ ل "جَعَلْ" و "حَلالاً" مَعْطوفٌ عَلَيْهِ؛ لأنَّ المَعنى: فجَعَلْتم بَعْضَهُ حرامًا، وبعضَه حلالاً. ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنَ المَوْصولِ، وأَنْ تَكُونَ "مِنْ" لِبَيانِ الجِنْسِ، و "أنزل" على بابها وهو على حَذْفِ مُضافٍ، أيْ: أَنْزَلَهُ مِنْ سَبَبِ رِزْقٍ وهوَ المَطَرُ. وقيلَ: تُجُوِّزُ بالإِنزالِ عَنِ الخَلْقِ كَما قال في سورة الحديد: {وَأَنزْلْنَا الحديد} الآية: 25. وكما قالَ في سورةِ الزمَرِ: {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام} الآية: 6.
قولهُ: {قل آللهُ أذِنَ لكم أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ} قُلْ: تقدَّمَ إعرابُهُ، والجملة الفعليَّةُ مُؤَكِّدَةٌ لجُمْلَةِ "قُلْ" الأُولى، مُعْتَرِضَةٌ بينَ الفِعْلِ ومفعولِهِ، أَعْني: "أَرَأَيْتُم" ومفعولِهِ الثاني، "آللهُ" الهمزَةُ للاسْتِفهامِ الإنْكارِيِّ، بمعنى: النَفْيِ "الله" مُبْتَدَأٌ. و "أَذِنَ" فعلٌ ماضٍ، وفاعلُهُ ضَميرٌ يَعودُ على "اللهِ". و "لَكُمْ" مُتَعَلِّقٌ بِهِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ في محَلِّ رَفْعِ خبرِ المُبتَدَأِ، والجُملةُ الاسميَّةُ في محلِّ نَصْبِ مفعولٍ ثانٍ ل "أرأيتم" و "أَمْ" مُتَّصِلَةٌ مُعادِلَةٌ للهَمْزَةِ عاطفةٌ والتقديرُ: أَخْبروني: آللهُ أَذِنَ لكم في التحليلِ والتحريم، فإنهم يفعلونَ ذلك بإذْنِهِ أَمْ يَكْذِبونَ عَلى اللهِ في نِسْبَةِ ذَلك إِلَيْهِ. ويجوزُ أَنْ تَكونَ مُنْقَطِعةً. والهمزَةُ للإِنكارِ و "أم" بمعنى: بَلْ أَتَفْترون على اللهِ، تقريراً للافْتِراءِ. والظاهرُ هُوَ الأَوَّلُ إذِ المُعادَلَةُ بين هاتينِ الجُمْلَتينِ اللَّتَينِ بمَعنى المُفْرَدَينِ واضحةٌ، فالتقديرُ: أَيُّ الأَمْرَيْنِ وَقَعَ: إذْنُ اللهِ لَكمْ في ذَلِكَ أَمْ افْتِراؤكم عَلَيْهِ؟. و "عَلَى اللهِ" الجارُّ مُتَعَلِّقٌ ب "تَفْتَرُونَ". وجملَةُ "تَفْتَرُونَ" مَعْطوفَةٌ على جملةِ: "آللهُ أَذِنَ لَكُمْ" والمعنى: أَخْبروني أَحَصَلَ إِذْنٌ مِنَ اللهِ لَكمْ أَمْ ذلك افتراءٌ مَنْكم على اللهِ وكَذبٌ، وهو اسْتِفهامٌ لِطَلَبِ التَعْيينِ، وهُوَ الأَوَّلُ.