فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ
(76)
قولُهُ ـ تعالى جَدُّهُ: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا} فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى وَهَارُونُ بِالحَقِّ الوَاضِحِ، وَالدَّلِيلِ القَاطِعِ، عَلَى صِدْقِ نُبُوَّتِهِمَا، ويريد بِ "الحقّ" آيَتيْ العَصا واليَدِ، ويَدُلُّ على ذلك قولُهم عِنْدَما عاينوهما: {هذا سِحْرٌ} ولم يقولوا ذَلِك إلا عِنْدَما عاينوهما، ولا تعاطَوْا إلاَّ مُقاومَةَ العَصا فهيَ معجزةُ مُوسى ـ عليه السلام، التي وقع فيها عَجْزُ المُعارضِ. وقيل: "الحق" الآيات التِسْعُ التي جاءَ بها موسى ـ عليه السلامُ. أي لما رَأَوْا المُعْجِزاتِ التي هي حَقٌّ ثابتٌ وليستْ بِتَخَيُّلاتٍ وتمويهاتِ، وعَلِمُوا أَنَّ مُوسى صادِقٌ فيما ادَّعاهُ، تَدَرَّجوا مِنْ مُجَرَّدِ الإباءِ المُنْبَعِثِ عَنِ الاسْتِكْبارِ إلى البُهتانِ المُنبَعِثِ عَنِ الشٌعورِ بالهزيمة. ويطلَقُ الحقُّ اسماً على ما قابَلَ الباطِلَ وهوَ العَدْلُ، ويُطْلَقُ وَصْفاً على الثابِتِ الذي لا رِيبَةِ فيه، كما يُقالُ: أَنْتَ الصَديقُ الحَقُّ. ويُلازِمُ الإفْرادَ دائماً لأنَّهُ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ. والذي أَثْبَتَ لَهُ المجيءَ ههُنا هوَ الآياتُ التي أَظْهَرَها مُوسى إِعْجازاً لهم لِقَوْلِهِ قبْلَ ذلك في سورة الأعراف: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآياتِنَا} الآية: 103.
قولُهُ: {قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ} مبينٌ: وَاضِحٌ لِمَنْ رَآهُ وَعَايَنَهُ، أَيْ: لمّا بَهَرَتْهمُ المُعجزاتُ، وهي آياتُ موسى، وأَبْطَلَتْ إِفْكَهم قالوا "إِنَّ هذا لسحر مبين" تخلُّصاً مِنْ عار الهزيمةِ الذي لحِقَ بهم. وَهُمْ يَعْلَمُونَ فِي قَرَارَةِ نُفُوسِهِمْ أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا شَيْئاً آخَرَ يَنْسُبُونَ إِلَيْهِ المُعْجِزَاتِ التِي أَرْسَلَ اللهُ بِهَا مُوسَى إِلَيْهِمْ. وإذْ قدِ اشْتُهِرَ بينَ الدَهماءِ مِنْ ذَوِي الأَوْهامِ أَنَّ السِحْرَ يُظْهِرَ الشَيْءَ في صُورَةِ ضِدِّهِ، ادَّعى هؤلاءِ أَنَّ ما ظَهَرَ مِنْ دَلائلِ صِدْقِ موسى هو سِحْرٌ ظَهَرَ بِهِ الباطلُ في صُورَةِ الحَقِّ بِتَخْييلِ السِحْرِ.
ومعنى ادِّعاءِ الحَقِّ سِحْراً أَنَّ دَلائلَهُ مِنْ قَبيلِ التَخَيُّلاتِ والتَمْويهاتِ، فَكَذلِكَ مَدْلولُهُ هوَ مَدْلولُ السِحْرِ، وهوَ إِنْشاءُ تخَيُّلٍ باطِلٍ في نُفوسِ المَسْحورينَ، وقدْ حمَلَهم اسْتِشْعارُهم وَهْنَ مَعْذِرَتهم عَلى أَنْ أَبْرَزوا دَعْواهمْ في صُورَةِ الكَلامِ المُتَثَبِّت صاحبُهُ فأَكَّدوا الكلامَ بما دَلَّ عَلَيْهِ حَرَّفُ التَوْكِيدِ ولامُ الابْتِداءِ: "إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ"، وزادوا ذلكَ تَرويجاً بِأَنْ وَصَفُوا السِحْرَ بِأَنَّهُ مُبينٌ، أَيْ شديدُ الوُضوح.
قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا} الفاءُ: الفَصيحةُ؛ لأنها أَفْصَحَتْ عَنْ جوابِ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ، تَقديرُهُ: إذا عَرَفْتَ أَنَّهُمُ اسْتَكْبَروا عَنْ آياتِنا، وأَرَدْتَ بَيانَ كَيْفِيَّةِ اسْتِكْبارِهم .. . و "لمّا" حَرْفُ شَرْطٍ غيرِ جازِمٍ، و "جَاءَهُمُ" فعلٌ ومفعولُهُ الهاءُ والميم علامةُ المذكَّر، و "الْحَقُّ" فاعلُهُ، و "مِنْ عِنْدِنَا" جارٌّ وظرفٌ مجرورٌ مضافٌ، و "نا" مضافٌ إِلَيْهِ مُتَعَلِّق ب "جاء" أوْ حالٌ مِنَ: "الْحَقِّ".
قولُهُ: {قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ} قَالُوا: فعلٌ وفاعِلٌ والجملةُ جوابُ "لمّا" وجملةُ "لمّا" مَقولٌ لجَوابِ "إذا" المُقَدَّرَةِ، وجمْلَةُ "إذا" المُقَدَّرَةِ مُسْتَأْنَفَةٌ، و "إِنَّ هَذَا" ناصبٌ ناسخٌ واسمُهُ، و "لَسِحْرٌ" خَبَرُهُ. و "مُبِينٌ" صِفَةُ سِحْرٍ وجملةُ "إنَّ" واسمُها وخبرُها في محلِّ نَصْبٍ مقولَ "قالوا".
قرأَ الجُمهورُ: {لَسِحْرٌ مُبينٌ} وقرأَ مجاهِدٌ وسعيدُ بْنُ جُبيرٍ والأَعمَشُ "لَساحِرٌ" اسم فاعل، والإِشارةُ بِ "هذا" حينئذٍ إلى موسى، أُشِيرَ إِليهِ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ، وفي قراءةِ الجماعةِ المشارُ إِليهِ الشَيْءُ الذي جاءَ بهِ موسى مِنْ قَلْبِ العِصِا حَيَّةً وإِخْراجِ يَدِهِ بَيْضاءَ كالشَمْسِ. ويجوزُ أَنْ يُشارَ بْ "هذا" في قراءةِ ابْنِ جُبيرٍ إلى المعنى الذي جاءَ بِهِ مُوسى مُبالَغَةً، حيثُ وَصَفوا المعانيَ بِصفاتِ الأَعْيانِ كَقَوْلهم: "شعرٌ شاعرٌ" و "جَدَّ جَدُّهُ".