ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ
(74)
قولُهُ ـ تَباركَتْ أَسماؤهُ: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ} ثُمَّ ضَلَّ النَّاسُ الذِينَ أَتَوْا بَعْدَ نُوحٍ، وَعَبَدُوا الأَصْنَامَ وَالأَوْثَانَ، فَأَرْسَلَ اللهُ إِلَيهِمْ رُسُلاً بِالحِجَجِ وَالآيَاتِ الدَّالَةِ عَلَى صِدْقِ نُبُوَّتِهِمْ، وَعَلَى مَا جَاءَهُمْ بِهِ الأَنْبِيَاءُ. فقد أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ـ رضي اللهُ عنه، فِي قَوْلِهِ تعالى: "ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ" قال: "كَانَ فِي عِلْمِهِ يَوْمَ أَقَرُّوا مَنْ يُصَدِّقُ، وَمَنْ يَكَذِّبُ بِهِ، فَكَانَ عِيسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، مِنْ تِلْكَ الأَزْوَاجِ الَّتِي أُخِذَ عَلَيْهَا الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ فِي زَمَانِ آدَمَ.
وقدْ أَبْهَمَ الرُسُلَ في هَذِهِ الآيَةِ. بينما صرحَ في آياتٍ أُخْرى بِأَنَّهم: هُود، وصالح، وإبراهيم، ولوطٌ، وشُعَيْبٌ. وقد يَكونُ هُنالِكَ رُسُلٌ آخَرونَ لقولِهِ تِعالى في سورة النساء: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ ورُسُلاً لم نَقْصُصْهم عَلَيْكَ} الآية: 164، ويَتَعَيَّنُ أَنْ يَكونَ المقصودُ هُنا مَنْ كانوا قبلَ مُوسى لِقَوْلِهِ تعالى في الآية التي تلي هذه الآية: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى}. وفي الآيَةِ إِشارةٌ إلى أَنَّ نُوحاً أَوَّلَ الرُسُلِ ـ عَلَيْهِمُ السلامُ.
قولُهُ: {فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} وهؤلاءِ الرُسُلُ الكرامُ قد جاؤوا أقوامَهم بِ "البَيِّناتِ" أي: بالمُعْجزاتِ الباهراتِ والبراهين الواضِحَة، وقدْ قُوبِلَ جمْعُ الرُسُلِ بجَمْعِ "البينات" فكانَ صادقاً بِبَيِّناتٍ كَثيرةٍ مُوَزَّعَةٍ على رُسُلٍ كَثيرين، فقد يَكونُ لِكُلِّ نَبيٍّ مِنَ الأَنْبِياءِ آياتٌ كَثيرةٌ، وقَدْ يَكونُ لِبَعْضِ الأَنْبِياءِ آيةٌ واحدَةٌ كنبيِّ اللهِ صالحٍ ـ عَلَيْهِ السَلامُ، فقد كانت له ـ فيما نَعْلَمُ، بيِّنةٌ واحدةٌ وهيَ النَّاقَةُ، واللهُ أعلم.
قولُهُ: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} فَمَا اسْتَقَامَ لِقَوْمٍ مِنْ أُوْلَئِكَ الأَقْوَامِ أَنْ يُؤْمِنَ المُتَأَخِّرُ مِنْهُمْ بِمَا كَذَّبَ بِهِ المُتَقَدِّمُ، لأَنَّ التَّكْذِيبَ سَبَقَ التَّبَصُّرَ وَالاعْتِبَارَ. روى ابْنُ أَبي حاتمٍ عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَوْلَهُ: "فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ" قَالَ: "ذَلِكَ يَوْمَ أُخِذَ مِنْهُمُ الْمِيثَاقَ آمَنُوا كُرْهًا".
وفي الآيةِ بَيَانٌ لاسْتِمْرارِ عَدَمِ إيمانهم في الزَمانِ الماضِي لا لِعَدَمِ اسْتِمْرارِ إِيمانِهم كما مَرَّ مِثْلُهُ في هَذِهِ السُورَةِ الكَريمَةِ غَيرَ مَرَّةٍ، أَيْ فَما صَحَّ وما اسْتَقامَ لِقَوْمٍ مِنْ أُولئكَ الأَقْوامِ في وَقْتٍ مِنَ الأَوْقاتِ أَنْ يُؤمِنوا بَلْ كانَ ذَلِكَ ممْتَنِعاً مِنْهم لِشِدَّةِ شَكيمَتِهم في الكُفْرِ والعِنادِ، ثمَّ إنْ كانَ المحْكِيُّ آخِرَ حالِ كُلِّ قومٍ حَسْبَما يَدُلُّ عَلَيْهِ حِكايةُ قومِ نُوحٍ، فالمُرادُ بِعَدَمِ إيمانِهِمُ المُذكورِ ههُنا إِصرارُهم عَلى ذَلِكَ بَعْدَ اللَّتَيّا والتي، وبما أَشِيرَ إِلَيْهِ في قولِهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ: "بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ" تَكْذيبُهم مِنْ حيثُ مجيءِ الرُسُلِ إلى زَمانِ الإصْرارِ والعِنَادِ، وإنَّما لم يُجْعَلْ ذَلِكَ مَقْصوداً بالذاتِ كالأَوَّلِ حيْثُ جُعِلَ صِلَةً للمَوْصولِ إِيذاناً بِأَنَّهُ بَيِّنٌ بِنَفْسِهِ غَنيٌّ عَنِ البَيانِ، وإنَّما المحتاجُ إلى ذلكَ عَدَمُ إيمانِهم بَعْدَ تَواتُرِ البَيِّناتِ الظاهِرَةِ، وتَظاهُرِ المُعْجِزاتِ الباهِراتِ التي كانتْ تَضْطَرُّهم إلى القَبولِ لَوْ كانوا مِنْ أَصْحابِ العُقولِ، والمَوصُولُ الذي تَعَلَّقَ بِهِ الإيمانُ والتَكْذيبُ سَلْباً وإيجاباً عِبارَةٌ عن جميعِ الشَرائعِ التي جاءَ بها كُلُّ رَسُولٍ أَصُولِها وفُروعِها.
وإنْ كانَ المحكيُّ جميعَ أَحْوالِ كلِّ قومٍ مِنْهم فالمُرادُ بما ذُكِرَ أَوَّلاً كُفرُهم المُسْتَمِرُّ مِنْ حين مجيءِ الرُسُلِ إلى آخِرِهِ، وبما أَشيرَ إِلَيْهِ آخِراً تَكذيبُهم قبلَ مجيئِهم فلا بُدَّ مِنْ كَوْنِ المَوْصُولِ المَذْكورِ عِبارةً عَنْ أُصُولِ الشَرائعِ التي أَجمعَتْ عَلَيْها الرُسُلُ قاطبةً ودَعَوا أُممَهم إِلَيْها آثَرَ ذي أَثَرٍ لاسْتِحالَةِ تَبْدلِها وتَغيرِها مِثْلُ مِلَّةِ التَوْحيدِ ولَوازِمِها. ومعنى تَكذيبِهم بها قَبْلَ مجيءِ رُسُلِهم أَنَّهم ما كانوا في زَمَنِ الجاهِلِيَّةِ بحيثُ لم يَسْمَعوا بِكَلِمَةِ التَوْحيدِ قَطُّ بَلْ كانَ كُلُّ قوْمٍ مِنْ أُولئكَ الأَقْوامِ يَتَسامَعونَ بها مِنْ بَقايا مَنْ قَبْلَهم كَثَمودَ مِنْ بَقايا عادٍ، وعادٍ مِنْ بَقايا قومِ نُوحٍ ـ عليهما السلامُ، فيُكذِّبونها، ثمَّ كانَتْ حالَتُهم بَعْدَ مجيءِ الرُسُلِ كَحالَتِهم قبلَ ذَلِكَ كأَنْ لم يُبْعَثْ إِلَيْهم أَحَدٌ، وتخصيصُ التكذيبِ وعَدَمِ الإيمانِ بما ذُكِرَ مِنَ الأُصولِ لِظُهورِ حالِ الباقي بِدَلالَةِ النَصِّ، فإنهم حيْثُ لم يُؤْمِنوا بما أَجمَعَتْ عَلَيْهِ كافَّةُ الرُسُلِ فَلأَنَّ لا يُؤمِنوا بما تفرَّدَ بِهِ بَعْضُهم أَوْلى، وعدمُ جَعْلِ هذا التَكْذيبِ مَقْصوداً بالذاتِ لِما أَنَّ عَلَيْهِ يَدورُ أَمْرُ العذابِ والعقابِ عند اجْتِماعِ المكذِّبين، هوَ التَكْذيبُ الواقعُ بعدَ الدَعْوَةِ حَسْبَما يُعْرِبُ عَنْهُ قولُهُ تَعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} وإنما ذَكَرَ ما وَقَعَ قَبْلَها بَياناً لِعَراقَتِهم في الكُفْرِ والتَكْذيبِ، وعلى التَقْديرَيْنِ فالضَمائرُ الثَلاثَةُ مُتَوافِقَةٌ في المَرْجِعِ، وقيلَ: ضَميرُ كَذَّبوا راجعٌ إلى قومِ نَوْحٍ ـ عليهِ السَّلامُ، والمعنى فما كان قومُ الرُسُلِ لِيُؤْمِنوا بما كَذَّبَ بمِثْلِهِ قومُ نَوحٍ.
قولُهُ: {كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ} وَكَمَا طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِ مَنْ سَبَقَهُمْ مِنَ الأُمَمِ، حَتَّى حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ العَذَابِ، كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ المُعْتَدِينَ مِمَّنْ خَلَفُوا قَوْمَ نُوحٍ، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً. ويكونُ ذَلِكَ بِخِذْلانهم وتخْلِيَتِهم وشَأْنَهم، لانْهِماكِهم في الغِوايةِ والضَلالِ، وإنَّ أَمْثالَهم في كلِّ قومٍ كَقَومِكَ إذْ كانوا مِثْلَهم في اللّجاجِ والعُتُوِّ والاسْتِكْبارِ في الأَرْضِ فإنَّ الطَبْعَ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ قُلوبَهم قَدْ وَرَدَ عَلَيْها ما لَوْ خَلَتْ عِنْدَ وُرودِهِ عَنِ الطَبْعِ عَلَيْها لَكانَ من شَأْنِهِ أَنْ يَصِلَ بهم إلى الإيمانِ، ولكنَّ الطَبْعَ عَلى قلوبهم حالَ دونَ تَأْثيرِ البَيِّناتِ في قلوبهم.
وقدْ جُعِلَ الطَبْعُ الذي وَقَعّ على قلوبِ هؤلاءِ مَثَلاً لِكَيْفِيَّاتِ الطَبْعِ عَلى قُلوبِ المُعتدينَ فقولُهُ: "كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ"، أيْ مِثْلَ هذا الطَبْعِ العَجيبِ نَطْبَعُ على قُلوبِ المُعْتَدينَ، فَتَأَمَّلوهُ واعْتَبِروا بِهِ.
والطبعُ: معناه الخَتْمُ. وهوَ اسْتِعارَةٌ لِعَدَمِ دُخولِ الإيمانِ قلوبَهم. وقد تَقَدَّمَ عند قولِهِ تَعالى في سورة البقرة: {خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} الآية: 7. و "المعتدين" هُنا هُمُ المُتَجاوِزونَ عَنِ الحُدودِ المَعْهودَةِ في الكُفْرِ والعِنادِ، وهُمُ المُتَجافون َعنْ قَبولِ الحَقِّ، وسُلوكِ طَريقِ الرَشادِ.
قولُهُ تَعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ} ثمَّ: حَرْفُ عَطْفٍ، وهيَ هُنا للتَراخَي الرُتَبي وَلَيْسَتْ للتَراخي الزَمَانِيِّ للاسْتِغْناءِ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: "مِنْ بَعْدِهِ". و "بَعَثْنَا" فِعْلٌ وفاعِلٌ مَعْطوفٌ على قولِهِ: "فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ"، و "مِنْ بَعْدِهِ" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ ب "بَعَثْنَا"، والهاءُ مضافٌ إليه. و "رُسُلاً" مَفْعولٌ بِهِ، والتَنْكيرُ للتَفْخيمِ ذاتاً ووَصْفاً، أَيْ: رُسُلاً كِراماً ذَوِي عَدَدٍ كَثيرٍ، و "إِلَى قَوْمِهِمْ" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِ "بَعَثْنَا"، والهاء: مضافٌ إليه، والميمُ علامةُ جمعِ المذكَّرِ.
قولُهُ: {فَجَاؤوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} الفاءُ: للتَعْقيبِ، أَيْ: أَظْهَروا لهمُ المُعْجِزاتِ إِثْرَ إِرْسالِهم. و "جاؤوهم" فِعْلٌ وفاعِلٌ، والهاءُ: مَفعولٌ بهِ، والجملةُ عطفٌ على "بَعَثْنَا". و "بِالْبَيِّنَاتِ" الباء: للمُلابَسَةِ، أَيْ: جاؤوا قومَهمْ مُبَلِّغينَ الرِّسالَة مُلابِسين البَيِّناتِ. والجارُّ والمجرورُ مُتَعَلِّقٌ ب "جاؤُوهم"، أَوْ بمَحذوفٍ على أَنَّهُ حالٌ، أَيْ: مُلْتَبِسينَ بالبَيِّنات.
قولُه: {فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} الفاءُ: حَرْفُ عَطْفٍ، وهي هُنا للتَفْرِيعِ، أَي: فَتَرَتِّبَ عَلى ذَلِكَ أَنَّهم لم يُؤمِنوا. وهذا مِنْ إِيجازِ الحَذْفِ لِجُمَلٍ كَثيرةٍ. وهذا يَقْتَضي تَكَرُّرَ الدَعْوَةِ وتَكَرُّرَ البَيِّناتِ، وإلاَّ لما كانَ لِقَوْلِهِ: "فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ" وَقْعٌ، لأنَّ التَكْذيبَ الذي حَصَلَ أَوَّلَ مَرَّةٍ إذا لمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ ما مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُقْلِعَهُ كانَ تَكْذيباً واحداً مَنْسِيّاً. وهذا مِنْ بَلاغَةِ مَعاني القُرْآنِ. و "ما" نافية. و "كَانُوا" فِعْلٌ ناقِصٌ وواوُ الجماعةِ اسمُهُ، و "لِيُؤْمِنُوا" اللام: حرفُ جَرٍّ وجُحودٍ، و "يؤمنوا" فِعْلٌ مضارعٌ مَنْصوبٌ بِ "أن" مُضْمَرَةٍ وُجوبًا بَعْدَ لامِ الجُحودِ. وأَتى بِلامِ الجُحُودِ للتَأْكيدِ. وواوُ الجماعةِ فاعِلُه والألفُ فارقةٌ، والضَميرُ في "كَذَّبوا" عائدٌ على مَنْ عادَ عَلَيْهِ الضَميرُ في "كانوا" وهمْ قَوْمُ الرُسُلِ. والمعنى: أَنَّ حالَهم بعدَ بَعْثِ الرُسُلِ كَحالِهم قبْلَها في كونهم أَهلَ جاهِلِيَّةٍ، وقالَ مكيٌّ و أَبو البَقاءِ: إنَّ الضَميرَ في "كانوا" يَعودُ على قومِ الرُسُلِ، وفي "كَذَّبوا" يَعودُ عَلى قومِ نُوحٍ، والمَعنى: فما كانَ قومُ الرُسُلِ لِيُؤْمِنوا بما كَذَّبَ بِهِ قومُ نُوحٍ، أيْ: بمثلِهِ. ويجوزُ أَنْ تَكونَ الهاءُ عائدةً عَلى نُوحٍ نَفْسِهِ مِنْ غيرِ حَذْفِ مضافٍ، والتقديرُ: فما كانَ قومُ الرُسُلِ بَعْدَ نُوحٍ لِيُؤمِنُوا بِنُوحٍ، إذْ لَوْ آمَنوا بِهِ لآمَنوا بِأَنْبِيائهم. و "بِمَا" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِ "يُؤْمِنُوا"، و "كَذَّبُوا" فعلٌ وفاعلُهُ والجملةُ صِلَةٌ ل "مَا" أَوْ صِفَةٌ لها. و "بِهِ" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِ "كَذَّبُوا" وهوَ العائدُ عَلى "مَا" الموصولَةِ، و "مِنْ قَبْلُ" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِ "كَذَّبُوا" أَيْضًا، وجملَةُ "يُؤْمِنُوا" صِلَةُ "أن" المُضْمَرَةِ، و "أن" مَعَ صِلَتِها في تَأْويل ِمَصْدَرٍ مجرورٍ باللامِ، عَلى مَذْهَبِ البَصْرِيّينَ، الجارُّ والمجرورُ مُتَعَلِّقٌ بمَحْذوفِ خَبَرِ "كَانَ" تَقديرُهُ: فما كانوا مُريدينَ للإيمانِ بما كَذَّبوا بِهِ مِنْ قَبْلُ، وجملةُ "كَانَ" مَعْطُوفَةٌ عَلى جملةِ "جاؤوا" وأَمَّا عَلى مَذْهَبِ الكُوفِيّينَ فلامُ الجُحودِ زائدةٌ، والتَقْديرُ: فما كانوا مؤمنين بما كَذَّبوا بِهِ مِنْ قَبْلُ. وقد صِيغَ النَفْيُ بِصيغَةِ لامِ الجُحودِ مُبالَغَةً في انتِفاءِ الإيمانِ عَنْهم بِأَقْصى أَحْوالِ الانْتِفاءِ. حتى كأَنَّهم لمْ يُوجَدوا لأنْ يُؤْمِنوا بما كَذَّبوا بِهِ، أَيْ: لم يَتَزَحْزَحوا عَنْهُ. ودَلَّتْ صِيغةُ الجُحُودِ على أَنَّ الرُسُلَ حاوَلوا إيمانهم محاوَلاتٍ مُتَكَرِّرَةً.
وقيل: الباءُ للسَبَبَيَّةِ أَيْ بِسَبَبِ تَعَوُّدِهم تَكْذيبَ الحَقِّ وتَمَرُّنِهم عليْهِ قَبلَ بِعْثَةِ الرُسُلِ، و "مِنْ قبلُ" مُتَعَلِّقٌ بِ "كَذَّبوا" أيْ: مِنْ قَبْلِ بِعْثَةِ الرُسُلِ. وقيل: الضمائرُ كلُّها تعودُ على قومِ الرُسُلِ بمعنى آخَرَ: وهوَ أَنَّهم بادَروا رُسَلَهُم بالتَكْذيبِ، كلَّما جاءَ رَسُولٌ لَجُّوا في الكُفْرِ وتمادَوْا عَلَيْهِ فَلَمْ يَكونُوا لِيُؤْمِنوا بما سَبَقَ بِهِ تَكْذيبُهم مِنْ قَبْلِ لَجِّهم في الكُفْرِ وتمادِيهم فيه. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويَحْتَمِلُ اللّفظُ عِنْدي مَعنى آخَرَ، وهوَ أَنْ تَكونَ "ما" مَصْدَرِيَّةً، والمعنى: فكَذَّبوا رُسُلَهم فكانَ عِقابهم مِنَ اللهِ أَنْ لم يَكونوا لِيُؤمِنوا بِتَكْذيبِهم مِنْ قبلُ، أَيْ: مِنْ سَبَبِهِ ومِنْ جَزائهِ، ويُؤَيِّدُ هذا التَأْويلَ "كذلك نطبع"، وهوَ كلامٌ يحتاجُ لِتَأَمُّلٍ. وقالَ أبو حيّان الأندلُسيُّ: والظاهرُ أَنَّ "ما" مَوْصولةٌ، ولذلكَ عادَ الضَميرُ عَلَيْها في قولِهِ: "بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ" ولو كانَتْ مَصْدَرِيَّةً بَقِيَ الضَميرُ غَيرَ عائدٍ على مَذْكورٍ، فتَحْتَاجُ أَنْ يُتَكلَّفَ ما يَعودُ عَليْهِ الضَميرُ. وقالَ السمينُ: الشيخُ بَناهُ على قَوْلِ جمهورِ النُحاةِ في عَدَمِ كونِ "ما" المَصْدَرِيَّةِ اسماً فيَعودُ عَلَيْها ضَميرٌ، وقدْ نَبَّهْتُكَ غيرَ مَرَّةٍ أَنَّ مَذْهَبَ الأَخْفَشِ وابْنِ السَّراجِ أَنها اسْمٌ فيَعودُ عَلَيْها الضَميرُ.
قولُهُ: {كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ} والكافُ نَعْتٌ لِمَصْدَرْ محذوفٍ، أَوْ حالٌ مِنْ ضَميرِ ذَلِكَ المَصْدَرِ على حَسَبِ ما عَرَفْتَهُ مِنْ الخِلافِ، أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ الطَّبْعِ المُحْكَمِ المُمْتَنِعِ زَوالُهُ نَطْبَعُ عَلى قُلوبِ المُعْتَدينَ عَلى خَلْقِ اللهِ. و "ذا" مجرورٌهُ، اللامُ للبُعدِ والكافُ للخطابِ، و "نَطْبَعُ" فعلٌ مُضارعٍ وفاعلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيه يَعودُ على "الله تعالى"، و "عَلَى قُلُوبِ" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، والتَقْديرُ: نَطْبَعُ على قَلْبِ كُلِّ مُعْتَدٍ طَبْعًا مِثْلَ طَبْعِنا عَلى هؤلاءِ، و "الْمُعْتَدِينَ" مضافٌ إليه، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ.
قرَأَ العامَّةُ: {نَطْبع} بالنُونِ الدالَّةِ على تَعْظيمِ المُتَكَلِّمِ. وقرَأَ العبَّاسُ بْنُ الفَضْلِ "يطبعُ" بِياءِ الغَيْبَةِ وهوَ اللهُ تعالى، وقد صرَّحَ بِهِ في سورة الأعرافِ فقال: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله} الآية: 101.