قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ. (49)
قولُهُ ـ تعالى جَدُّه: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا} الخطابُ لحضرةِ النَبيِّ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم، قُلْ لِهَؤُلاَءِ المُسْتَعْجِلِينَ بِالعَذَابِ: إِنِّي بَشَرٌ مِثْلُكُمْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً، وَلاَ أَمْلِكُ إِنْزَالَ العَذَابِ بِالكُفَّارِ المُعَانِدِينَ، وَلاَ تَحْقِيقِ النَّصْرِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَإنَّ القَادِرَ عَلَى ذَلِكَ هُوَ اللهُ وَحْدَهُ، يُحَقِّقُهُ مَتَى شَاءَ، أَمّا أنا فلا أَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ مِنْها بِوَجْهٍ مِنَ الوُجوهِ، وتَقْديمُ الضُرِّ لما أَنَّ مَساقَ النَّظْمِ الكَريمِ لإظْهارِ العَجْزِ عَنْهُ، وأَمَّا ذِكْرُ النَّفْعِ فلِلْتَعْميمِ إِظْهاراً لِكَمالِ العَجْزِ، وما وَقَعَ في سُورَةِ الأَعْرافِ مِنْ تَقديمِ النَّفْعِ فللإشْعارِ بِأَهَمِّيَّتِهِ والمَقامُ هنا مَقامُهُ، والمعنى لا أَمْلِكُ شَيْئاً مِنْ شُؤوني رَدَّاً ولا إيراداً فكَيْفَ أَمْلُكُ شُؤونَكم حتى أَتَسَبَّبَ في إِتْيانِ عَذابِكُمُ المَوعودِ حَسْبَما تُريدونَ؟!.
قولُهُ: {إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ} فإنَّ اللهَ تَعالى لا يفعلُ إلاَّ ما يَشاءُ هُوَ ولا مَشيئَةَ مَعَ مَشِيئَتِهِ سبحانه، ولا مَنْ يعترضُ عَليه، ولا مَنْ يَثْنيه عَمّا شاءَ, لأنَّ كلَّ ما شاءَ فِعْلَهُ في مُلكِهِ، ويجريَهُ على خَلْقِهِ فلِحِكْمَةٍ أَرادَها، ولأمرٍ قدَّره، ولا فيما يَفْعَلُ لهوٌ ولا عَبْثٌ، قال سبحانَهُ: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِين} سورة الأنبياء، الآية: 17.
قولُهُ: {لِِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} لكنْ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ محدّدٌ، وموعدٌ مؤقَّتٌ، بدقَّةٍ، انْفَرَدَ اللهُ تَعالى بِعِلْمِ حَدِّهِ ووقْتِهِ، بحسَبِ ما اقتضتْ حكمتُهُ وارتضتْ مشيئتُهُ وصدرتْ إِرادَتُهُ ومضَت به قدرتُه.
قولُهُ: {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} فإذا جاءَ ذَلكَ الأَجَلُ في مَوْتِ أمَّةٍ أَوْ هَلاكها لمْ يَتَأَخّرْ ذلك ساعَةً ولا أقَلَّ ولا أكثرَ، ولا أَمْكَنَهم التَقَدُّمُ ولا التأخُّرُ عَنْ مَشيئَةِ اللهِ ـ عََزَّ وَجَلَّ، أَبَداً, وهوَ تَأْكيدٌ لما قَبْلَهُ، وتقريرٌ لِقُدْرَةِ اللهِ تَعالى النّافِذَةِ على الجميعِ، ومَشيئَتِهِ الناجزة.
قولُهُ تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا} قُلْ: فعلُ أَمْرٍ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ يَعودُ على النبيِّ محمَّد ـ صلى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ. و "لا" نافيةٌ، و "أَمْلِكُ" فعلٌ مُضارِعٌ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ يَعُودُ عليه ـ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، و "لِنَفْسِي" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِ "أملك"، و "ضَرًّا" مَفْعولُهُ منصوبٌ به. و "وَلا نَفْعًا" مَعْطوفٌ عَلَيْهِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ وهي قولُهُ: "لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا" في محلِّ نَصْبٍ بالقولِ.
قولُهُ: {إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ} إِلاَّ: أَداةُ اسْتِثْناءٍ. و "مَا" مَوصول بمعنى الذي، أَوْ نَكِرةٌ مَوْصُوفَةٌ في محلِّ النَّصْبِ على الاسْتِثْناءِ المُنْقَطِعِ عِنْدَ جَمْعٍ، أَيْ: ولكنْ ما شاءَ اللهُ تَعالى كائنٌ، وقيلَ: مُتَّصِلٌ على مَعْنى إِلاَّ ما شاءَ اللهُ تَعالى أَنْ أَمْلُكَهَ، وتُعُقِّبَ بأنَّه يأْباهُ مَقامُ التَبَرُّؤِ عَنْ أَنْ يَكونَ لَهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، دَخْلٌ في إِتْيانِ الوَعْدِ فإنَّ ذَلِكَ يَسْتَدْعي بَيانَ كَوْنِ المُتَنازَعِ فِيهِ ممَّا لا يَشاءُ أَنْ يَمْلُكَهُ ـ صلّى اللهُ عَلَيْه وسَلَّمَ: والمُعْتَزِلَةُ قالُوا باتِّصالِ الاسْتِثْناءِ واسْتَدَلّوا بِذَلِكَ عَلى أَنَّ العَبْدَ مُسْتَقِلٌّ بِأَفْعالِهِ مِنَ الطاعاتِ والمَعاصِي، و "شَاءَ اللهُ" هذه الجملةُ مِنَ الفِعْلِ وفاعِلِهِ ومفعولِهِ المُقدَّرِ، صِلَةٌ الموصول "مَا" أَوْ صِفَةٌ لها إذا أعربناها نكرةً موصوفةً، والعائدُ أَوْ الرابطُ محذوفٌ.
قولُه: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} لِكُلِّ أُمَّة: جارُّ ومجرورُه، مُتَعلقٌّ بخبرٍ مُقَدَّمٍ محذوفٍ، و "كلّ أمَّة" مُضافٌ ومضافٌ إليه. و "أَجَلٌ" مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ، والجُمْلَةُ في محَلِّ نَصْبٍ بالقولِ. و "إذَا" ظَرْفٌ لما يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَمانِ، مُتَعَلِّقٌ بالجَوابِ الآتي، و "جَاءَ أَجَلُهُمْ" فعلٌ وفاعلٌ في محَلِّ الخَفْضِ بإضافَةِ "إِذَا" إلَيْها على كونها فِعْلَ شَرَطٍ لها، و "فَلا" الفاءُ: رَابِطَةٌ لجواب الشرط, و "لا": نافيَةٌ، و "يَسْتَأْخِرُونَ" فِعْلٌ مضارعٌ مرفوع وعلامة رفعه ثبوت النون في آخره لأنه من الأفعالِ الخَمْسَةِ, وفاعلٌه واو الحماعة. و "سَاعَةً" منصوبٌ على الظَرْفيَّةِ النزمانيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِ "يستأخرون"، والجملةُ جَوابُ "إذَا" لا محلَّ لها مِنَ الإعْراب، وجملة "إذَا" في محلِّ نَصْبِ مَقولِ "قُلْ". و "وَلا يَسْتَقْدِمُونَ}: مثل: "لا يَسْتَأْخِرُونَ".
وقرأ العامَّةُ: {أَجَلُهم} بالإفراد، وقرأَ ابْنُ سِيرينَ: "آجالهم" جمعَ أَجَلٍ.