بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)
قولُهُ ـ تعالى شأْنُهُ: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} بَلْ سَارَعَ هَؤُلاَءِ المُشْرِكُونَ إِلَى تَكْذِيبِ القُرْآنِ، قَبْلَ أَنْ يَتَدَبَّرُوا مَا فِيهِ، وَيَقِفُوا عَلَى مَا احْتَوَاهُ مِنَ الأَدِلَّةِ، وَالحُجَجِ الدَّالَّةِ عَلَى سُمُوِّهِ وَكَمَالِهِ وَإِعْجَازِهِ، متسرِّعينَ في إصدارِ أَحْكامِهم عليهِ قَبْلَ أَنْ يَقِفُوا عَلَى تَفْسِيرِهِ وَبَيَانِ أَحْكَامِهِ بِسُؤَالِ غَيْرِهِمْ، ولم ينتظروا أنْ يبيِّنَ لهم أحدٌ ذلك أَو يَفَسِّرَهُ لهم. والتَكْذيبُ: النِسْبَةُ إلى الكَذِبِ، أَوِ الوَصْفُ بالكَذِبِ سَواءٌ كانَ عَنِ اعْتِقادٍ أَمْ لم يَكُنْهُ. والإحاطَةُ بالشيء: الكَوْنُ حَوْلَهُ كالحائِطِ، والمقصودُ هنا الإحاطةُ العلميَّةُ.
وفي هذا إِضْرابٌ عَنْ إظهارِ بُطْلانِ ما قالوا في حَقِّ القَرآنِ العَظيم وانتقالٌ عَنْهُ بالتَحَدِّي إلى إظهارِهِ بِبَيانِ أَنَّهُ كلامٌ ناشئٌ عَنْ جَهْلِهِم بِشَأْنِهِ الجَليلِ. وأَنَّ حالهم في المُبادَرَةِ بالتَكْذيبِ له قبلَ التَأَمُّلِ فيه أَعْجَبُ مِنْ التَكْذيبِ نفسِهِ، إذْ فقد بادَروا إلى تَكْذيبِهِ دُونَ نَظَرٍ في أَدِلَّةِ صِحَّتِهِ التي أَشارَ إِلَيْها من قبلُ في قولِهِ: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللهِ} الآية: 37. من هذه السورةِ. والتَأْويلُ: مُشْتَقٌّ مِنْ "آلَ" إذا رَجَعَ إلى الشَيْءِ. ويُطلَقُ على تَفْسيرِ اللَّفْظِ الذي خَفِيَ مَعْناهُ، تَفْسيراً يُظْهِرُ المَعْنى، فيَؤولُ واضحاً بَعْدَ أَنْ كانَ خافياً، ومِنْ ذلك قولُهُ تعالى في سورةِ آل عمران: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ} الآية: 7.
وثمَّةَ احْتِمالٌ أَنْ يَكونَ المَقْصودُ بِ "ما لم يحيطوا بعلمِه" هو ما توَعَّدَهُمُ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ، بِهِ مِنْ عَذابٍ، عَلى الكُفْرِ، وتَأْويلُه عَلى هَذا يُرادُ بِهِ ما يَؤولُ إليْهِ أَمْرُهُ، كما هُو في قولُهُ تعالى في سورةِ الأَعْرافِ: {هل يَنظُرونَ إلاَّ تَأْويلَه} الآية: 53، والآيةُ بجُمْلَتِها عَلى هذا التأويلِ تَتَضَمَّنُ وعِيْداً ، فإنَّ هذا اللفْظَ يحتَمِلُ المَعْنيَيْنِ.
قولُهُ: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} وَقَدْ كانَ في الأُمم السابقةِ مشركون أَيْضاً فكَذَّبوا بِكُتُبِ اللهِ ورِسالاتِهِ، وكَذَّبَوا أَنْبياءَهُ وخاصموهم وعادوهم، وتسرعوا أيضاً في أحكامهم، بِلاَ تَبَصُّرٍ وَلاَ تَدَبُّرٍ، كما يَفْعلُ اليومَ هؤَلاءِ المشركونَ المكْذِّبون، فَعَاقَبَهُمُ اللهُ تَعَالَى عَلَى كُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ، وَدَمَّرَهُمْ تَدْمِيراً، فَانْظُرْ يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ كَانَتْ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ لأَنْفُسِهِمْ بِتَكْذِيبِهِمْ، رَسُولَ رَبِّهِمْ، لِتَعْلَمَ مَصِيرَ مَنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ بَعْدِهِمْ، لأنَّ هَذِهِ هِيَ سُنَّةُ اللهِ فِي خَلْقِهِ.
قولُهُ تَعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} جملةُ "بل كذَّبوا" مُسْتَأْنَفَةٌ لا محَلَّ لها، وجملةُ "لَمَّا يَأْتِهِمْ" عَطْفٌ على الصِلَةِ مِنْ قولِهِ "لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ" أَوْ حالٌ مِنَ المَوْصولِ "ما"، أَيْ: سارَعوا إلى تكذيبِهِ حَالَ عَدَمِ إِتْيانِ التَأْويلِ. أيْ أَنهم كذَّبوا بِهِ على البَديهةِ قبلَ التَدَبُّرِ ومَعْرِفَةِ التَأْويلِ، ونُفِيَتْ جملةُ الإِحاطةِ ب "لم" ونُفِيَتْ جملةُ إتْيانِ التَأْويلِ بِ "لمَّا" لأن "لم" للنَفْيِ المُطْلَقِ على الصَحيحِ، و "لَمَّا" لِنَفْيِ الفِعْلِ المُتَّصِلِ بِزَمَنِ الحالِ، فالمعنى: أَنَّ عَدَمَ التَأْويلِ مُتَّصلٌ بِزَمَنِ الإِخْبارِ.
قولُهُ: {كذلك} الكافُ نائبُ مَفْعولٍ مُطْلَقٍ، والتقديرُ: كذَّبوا تَكذيبًا مِثْلَ ذَلْكَ التَكْذيبِ، واسمُ الإشارةِ "ذا" نَعْتٌ لَهُ، واللامُ، للوقايةِ، والكافُ للخطاب.
وقولُهُ: {فانْظُرْ كَيْفَ كَانَ} كيفَ: اسْمُ اسْتِفْهامٍ مَنْصوبٌ عَلى أَنَّهُ خَبَرٌ لِ "كانَ"، والاسْتِفْهامُ مُعَلِّقٌ للنَظَرِ. ولا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ "انْظُرْ" في "كيفَ" لأنَّ الاسْتِفْهامَ لا يَعْمل فيهِ ما قبلَه، وهذا قانونُ النَّحْوِيّينَ لأنَّهم عامَلوا "كيف" في كلِّ مَكانٍ مُعامَلَةَ الاسْتِفْهامِ المَحْضِ. وقالَ أَبُو حَيَّان الأندَلُسيُّ: ل "كَيْفَ" مَعْنَيانِ، أَحَدُهما: الاسْتِفْهامُ المحضُ، وهُوَ سُؤالٌ عَنِ الهَيْئَةِ إِلاَّ أَنْ يُعَلَّقَ عَنْها العامِلُ، فمَعْناها مَعْنى الأَسماءِ التي يُسْتَفْهَمُ بها إذا عُلِّقَ عَنْها العاملُ. والثاني: الشَرْطُ كَقَوْلِ العَرَبِ: (كيفَ تَكونُ أَكُونُ). و "كيف" هنا في هذا المثالِ ليس كما قال أبو حيّان إذ ليس فيها اسْتفْهامٌ، وإنَّما هِيَ شَرْطِيَّةٌ، وهُوَ المَعنى الثاني الذي لها، وجوابها محذوفٌ، التَقديرُ: كيفَ شِئْتَ فَكُنْ، كما تَقولُ: "قُمْ مَتى شِئْتَ" ف "متى" اسْمُ شَرْطٍ ظَرفٌ لا يَعْمَلُ فيهِ "قم" والجوابُ محذوفٌ تَقْديرُهُ: مَتى شِئتَ فَقُمْ، وحُذِفَ الجوابُ لِدَلالَةِ ما قَبْلِهِ عَلَيْهِ.
وجملَةُ "فانظر" مَعْطوفةٌ على جملة "بل كذبوا" المُسْتَأْنَفَةُ فهي مثلها لا محلَّ لها من الإعراب. وجملةُ "كيف كان" مَفعولٌ للنَظَرِ المُعَلَّقِ بالاسْتِفْهامِ المُضَمَّنِ معنى العِلْمِ.
قولُهُ: {الظالمين} مِنْ وَضْعِ الظاهِرِ مَوْضِعَ المُضْمَرِ، ويجوزُ أَنْ يُرادَ بِهِ ضَميرُ مَنْ عادَ عَلَيْهِ ضَميرُ "بل كَذَّبوا"، وأَنْ يُرادَ بِهِ "الذين مِن قَبْلِهِمْ".