قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ
يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ
(34)
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} اسْتِئْنافٌ لِقَوْلِهِ قبل ذلك: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} الآية: 31. من هذه السورةِ تَقْريراً وتَعْديداً للاسْتِدْلالِ، وسُؤالٌ فيه تَبْكيتٌ وإلزامٌ، واحْتِجاجٌ آخَرُ عَلى حَقِّيَّةِ التَوحيدِ وبُطلانِ الإشْراكِ بإظْهارِ كَونِ شُركائِهم بِمَعْزِلٍ مِنِ اسْتِحْقاقِ الإلهيَّةِ بِبيانِ اخْتِصاصِ خَواصِّها مِنْ بِدْءِ الخلقِ وإعادَتِهِ بِهِ ـ سُبْحانَهُ وتَعالى، وإنّما لم يُعْطف على ما قبله إيذاناً باستقلاله في إثبات المطلوبِ. فقد أَمَرَ اللهُ تَعالى في هذه الآيةِ الكريمةِ نَبِيَّهُ: قُلْ لَهُمْ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ: هَلْ أَحَدٌ مِنْ شُرَكَائِكُمْ الذِينَ عَبَدْتُمُوهُمْ مَعَ اللهِ، أَوْ مِنْ دُونِ اللهِ، مِنَ الأَصْنَامِ وَالأَنْدَادِ، مَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْشِئَ الخَلْقَ ابْتِدَاءً، ثُمَّ يُعِيدُهُ مَرَّةً أُخْرَى بَعْدَ فَنَائِهِ؟ ف "بدء الخلق" يُريدُ بِهِ إنْشاءَ الإنْسانِ في أَوَّلِ أَمْرِهِ، و "إعادته" هيَ البَعْثُ مِنَ القُبُورِ. وقد جُعلت أَهْلِيَّةُ الإعادةِ وتحقُّقِها لِوُضوحِ مَكانِها وسُنوحِ بُرهانِها بمَنْزِلَةِ بِدْءِ الخَلْقِ فنُظِمَتْ في سِلْكِهِ حَيْثُ قِيلَ: "مَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ" إيذاناً بِتَلازُمِهِما وُجوداً وعَدَماً يَسْتَلْزِمُ الاعْتِرافَ بها وإِنَّ صَدَّهم عَنْ ذَلِكَ ما بهم مِنَ المُكابَرَةِ والعِنادِ.
قولُه: {قُلِ اللهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} أمْرٌ آخرُ منهُ سبحانَه لِنَبِيِّهِ ـ صلّى اللهُ عليه وسَلَّم، فَإِذَا عَجَزُوا عَنِ الإِجَابَةِ أيُّها النَبيُّ فَقُلْ لَهُمْ: اللهُ هُوَ الذِي أَنْشَأَ الخَلْقَ ابْتِدَاءً، وَهُوَ القَادِرُ عَلَى إِعَادَتِهِ، لأَنَّ الإِعَادَةَ أَسْهَلُ مِنَ الابْتِدَاءِ. وهو تَوْقيفٌ أَيْضاً عَلى قُصُورِ الأَصْنامِ وعَجْزِها، وتَنْبيهٌ على قُدْرَةِ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ. فقد صارَ مجموعُ الجُمْلَتَينِ قَصْراً لِصِفَةِ بِدْءِ الخَلْقِ وإعادَتِهِ عَلى اللهِ تَعالى قَصْرَ إِفْرادٍ، أَيْ دُونَ شُرَكائكم، والمُرادُ أنَّ هذه الأَصْنَامَ التي تعبدونها لا تَسْتَحِقُّ الإلهيَّةِ، واللهُ تعالى هو وحدهُ المنْفَرِدُ بها.
قولُهُ: {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} وَبِمَا أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنْ شُرَكاَءَهُم لاَ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيءٍ مِنَ الخَلْقِ، وَلاَ على إِعَادَةِ الخَلْقِ، فَقُلْ لَهُمْ كَيْفَ تُصْرَفُونَ عَنِ الإِيمَانِ بِاللهِ، وَهُوَ الحَقُّ وَالرَّشَادُ، إِلَى عِبَادَةِ الأَصْنَامِ وَالأَنْدَادِ وَهِيَ البَاطِلُ وَالضَّلاَلَةُ؟. ومعنى "تُؤْفَكون" أيْ: تُصْرَفونَ وتُحْرَمونَ، فهو مِنَ الأَفْكِ بالفَتْحِ: وهو مَصْدَرُ قَوْلِكَ أَفَكَهُ يَأْفِكُهُ أَفْكاً، أَيْ: قَلَبَهُ وَصَرَفَهُ عَنِ الشَيْءِ، ومِنْهُ قولُهُ تَعالى في سورة الأحقاف: {قالوا أجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عن آلهتِنا} الآية: 22. وقال عُرْوَةُ بْنُ أُذَيْنَة:
إنْ تَكُ عَنْ أَحْسَنِ الصَنيعَةِ مَأْ ............ فوكاً ففي آخَرينَ قد أُفِكوا
يقول: إنْ لم توفَّقْ للإَحسان فأَنْتَ في قومٍ قدْ صُرِفوا عَنْ ذَلِكَ أيضاً. وائْتَفَكَتِ البَلْدَةُ بِأَهْلها، أَيْ: انقلبتْ. والمؤْتَفِكاتُ: الرياحُ تختَلِفُ مَهابُّها. تَقُولُ العَرَبُ: إذا كَثُرَتِ المُؤْتَفِكاتُ زَكَتِ الأَرْضُ. وتقولُ أيضاً: أَرْضٌ مَأْفوكَةٌ إذا لمْ يُصِبْها مَطَرٌ فهي بمعنى الخَيْبَةِ والقَلْبِ. والإفْكُ: بِكَسْرِ الهَمزةِ، الكَذِبِ. ورَجلٌ أَفَّاكٌ، أَيْ: كَذّابٌ، والجمعُ أَفَّاكونَ وأَفَكَةٌ. وكَذلكَ الأَفيكَةُ، والجَمْعُ الأَفائِكُ.
قولُهُ تَعالى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ} الجارُّ في "مِنْ شُرَكائكم" مُتَعَلِّقٌ بخَبَرِ المُبْتَدَأِ "مَنْ" وجملةُ "يَبْدَأُ الخلقَ". خبرُ المبتدأِ، وجملةُ "قل" مُسْتَأْنَفَةٌ.
قولُهُ: {قُلِ الله يَبْدَأُ الخلق} هذِهِ الجملةُ جوابٌ لِقولِهِ: "هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ" وإنَّما أَتى بالجوابِ جملةً اسميَّةً مُصَرَّحاً بجزأيها مُعَاداً فيها الخبرُ مُطابِقاً لخبرِ اسْمِ الاسْتِفْهامِ للتَأْكيدِ والتَثْبيتِ، ولمَّا كان الاستفهام قبلَ هذا لا مَنْدوحةَ لهم عَنِ الاعْترافِ بِهِ جاءَتِ الجُملةُ محذوفاً مِنْها أَحَدُ جُزْأَيْها في قولِهِ {فَسَيَقُولُونَ اللهُ} سورة يونس، الآية: 31، ولم يَحْتَجْ إلى التَأْكيدِ بِتَصْريحِ جُزْأيْها.
قولُهُ: {فأنّى تُؤْفَكون} الفاءُ مًستأنفةٌ، و "أنّى" اسْمُ اسْتِفْهامٍ في محلِّ نصبٍ على الحالِ، وهذه الجملةُ مُسْتَأْنَفَةٌ.