هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ
(30)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ} فِي ذَلِكَ المَوْقِفِ العَصيبِ، والمقامِ الدَهِشِ، تَعْلَمُ كُلُّ نَفْسٍ: مُؤمِنَةً كانَتْ أَوْ كافرَةً، سَعيدَةً كانَت أَوْ شَقِيَّةً، تعلم مَا سَبَقَ لها أَنْ قَدَّمَتْ مِنَ العَمَلِ، وتُعايِنُهُ مُسْتَتْبِعاً لآثارِهِ مِنْ نَفْعٍ أَوْ ضَرٍّ، خَيرٍ أَوْ شَرِّ، وَتَلْقَى جَزَاءَهُ المناسبَ لَهُ، في ذَلِكَ المكانِ، أَوْ في ذَلِكَ الوَقْتِ ـ على اسْتِعارَةِ ظَرْفِ المَكانِ للزَمانِ. فإنَّ هؤلاءِ المشركين يتْبًعُونَ الآلهةَ التي عبدوها من دونِ اللهِ حتى تُدخلهم النارَ.
فقد أَخْرْجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قال: قال رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((يُمَثَّلُ لهم يَومَ القِيامَةِ ما كانوا يَعْبُدونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَتْبَعونهم حتى يُورِدوهُمُ النَّارَ، ثمَّ تَلا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "هُنالِكَ تَبْلوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ". وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ عَنِ الحَسَنِ البصريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْه: "هُنالِكَ تَبْلوا كلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ" قال: عَمِلَتْ. أَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وابْنُ جَريرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وأَبو الشَيْخِ، عَنْ مُجاهدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "هنالِكَ تَبْلوا" يَقولُ: تَختَبِرُ. وأَخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ كانَ يَقْرَأُ "هُنالِكَ تَتْلو" بالتاءِ، قالَ: هُنَالِكَ تَتْبَعُ. وأَخْرَجَ أَبو الشَيْخِ، عَن ِالسُدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، "هنالِكَ تَتْلُو" يُقالُ: تَتْبَعُ. ومِنْ هَذا قولُهُ:
إنَّ المُريبَ يَتْبَع المُريبا ................... كما رأيت الذِّيبَ يتلو الذِّيبا
أَيْ: يَتْبَعُهُ ويَتَطَلَّبُهُ. ويجوزُ أَنْ يَكونَ مِنَ التِلاوَةِ المُتَعارَفَةِ، أَيْ: تَقْرَأُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْه مُسَطَّراً في صُحُفِ الحَفَظَةِ لِقَوْلِهِ تَعالى في سورة الكهف: {وقالوا يا ويْلَتَنا مَالِ هذا الكِتابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} سورةُ الكَهْفِ، الآية: 49، وقولِهِ في سورة الإسراءِ: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً اِقْرِأِ كِتابَكَ كَفى بِك اليومَ عَلَيْكَ حَسِيباً} الآية: 13.
قولُهُ: {وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} فقد رُدَّ الجميعُ، أَخْياراً وأَشْراراً، عُصاةً وطائعينَ، إلى مَوْلاهُمُ الحَقِّ المُسْتَحِقِّ للعُبوديَّةِ والطاعةِ، بما أنَّه الخالق الموجدُ، والمنعِمُ المتفضِّلُ، والمهيمنُ المتحكمُ. وبطلَ كلُّ أُولئكَ الموالي المصطنعون الذين عُبدوا من دونِ اللهِ زيفاً وباطلاً، وَفِي هَذا المَوْقِفِ المَهُولِ يُوقِنُ المُشْرِكُونَ بِوَحْدَانِيَّةِ اللهِ تَعَالَى، وبأنَّ ما عبدوه من دونِه لا شيءَ، فلا ينفعُ شيئاً ولا يضُرُّ شيئاً ولا حولَ لهُ ولا طَوْلَ ولا قُوَّةَ ولا فتوَّة. فقد أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وأَبو الشَيْخِ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْه: "هنالك تَبْلُوا" قال: تُعايِنُ "كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ" قال: عَمِلَتْ "وَضَلَّ عنهم ما كانوا يَفتَرون" قال: ما كانُوا يَدْعُونَ مَعَهُ مِنَ الأَنْدادِ.
قولُهُ: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} وَقد بَطلُ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَهُ، واضمحلَّ ما كانوا يَدَّعونَهُ، وافتُضحَ ما كانوا يفترونه، على مولاهم وخالقهم، فَلاَ يَجِدُونَ اليومَ أَحَداً يُنْجيهم ويُنْقِذُهُمْ، أَوْ يَشْفَعُ لهم أو يَنْصُرُهُمْ مِنْ غضب اللهِ بَأْسِهِ، ولا من يخلِّصهم من سوء المآلِ وبؤسِه.
قولُهُ تَعالى: {هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ} الظاهرُ بقاءُ "هُنالك" على أَصْلِه مِنْ دَلالَتِهِ عَلى ظَرْفِ المكان، أيْ: في ذَلِكَ المَوْقِفِ الدَّحْضِ والمكانِ الدَّهِشِ. وقيلَ: هُوَ هُنا ظَرْفُ زَمانٍ على سَبيلِ الاسْتِعارَةِ، وهو مثلُهُ في قولِهِ تعالى: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المؤمنون} سورة الأحزاب، الآية: 11، أَيْ: في ذلك الوقتِ كَما هو في قَوْلِ الأفوهِ الأوديِّ:
وإذا الأمورُ تعاظَمَتْ وتشاكَلَتْ ........... فهناك يَعْترفون أينَ المَفْزَعُ
والأَوْلى بَقاءُ الشَيْءِ عَلى مَوْضُوعِهِ ما أَمْكَنَ. و "كلُّ" مرفوعٌ على الفاعليَّةِ ب: "تَبْلو"، أَوْ مَنصوبٌ على المفعوليَّةِ ب: "تتلو" كما هو في القراءةِ الأخرى. وقولُهُ: "ما أَسْلَفَتْ" على هذِهِ القِراءَةِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكونَ في محلِّ نَصْبٍ على إسقاطِ الخافِضِ، أيْ: بما أَسْلَفَتْ، فلمَّا سَقَطَ الخافِضُ انْتَصَبَ مجرورُهُ كما في قولِ جرير:
تمرُّون الديار ولم تعوجوا .................... كلامُكمُ عليَّ إذنْ حَرامُ
ويحتمل أن يكونَ منصوباً على البَدَلِ مِنْ "كُلَّ نَفْسٍ" ويكونُ مِنْ بَدَلِ الاشْتِمالِ. ويجوزُ أَنْ يَكونَ "نَبْلو" مِنَ البَلاءِ، وهوَ العذابُ، أيْ: نُعَذِّبها بِسَبَبِ مَا أَسْلَفَتْ. و "ما" يجوزُ أَنْ تَكونَ مَوْصولَةً اسْمِيَّةً أَوْ حَرْفِيَّةً أَوْ نَكِرَةً مَوْصوفَةً، والعائدُ محذوفٌ على التقديرِ الأَوَّلِ والآخِرِ دُونَ الثاني على المشهورِ.
وقولُهُ: {ورُدّوا إِلَى الله} لا بدَّ مِنْ مُضافٍ، أَيْ: ورُدّوا إلى جَزاءِ اللهِ، أَوْ مَوْقِفِ جَزائِه. والجمهورُ عَلى "الحقِّ" جَرَّاً. وقرئ مَنْصوباً عَلى أَحَدِ وَجهينِ: إمَّا القَطْعِ، وأَصْلُهُ أَنَّهُ تابعٌ فقُطِعَ بإضْمَارِ "أمدح" كقولهم: الحمدُ للهِ أَهلِ الحمْدِ، وإمَّا أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَضْمونِ الجُمْلَةِ المُتَقَدِّمَةِ، وهوَ "وردوا إِلَى الله" وإلَيْهِ نحا الزَمَخْشَرِيُّ، قال: كقولك: هذا عَبْدُ اللهِ الحَقِّ لا الباطِلِ. على التَأْكيد لِقولِهِ: "وردوا إِلَى الله". وقال مكي: ويجوزُ نَصْبُهُ على المَصْدَرِ ولم يُقْرأ به، وكأنَّه لمْ يَطَّلِعْ عَلى هذِه القراءة.
وقوله: {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} "ما" تحتمل الأوْجُهَ الثَلاثةَ.
قرأ العامَّةُ: {تَبْلو} مِن البَلاء وَهو الاخْتِبارُ، أَيْ: تَعْرِفُ عَمَلَها: أَخيرٌ هوَ أَمْ شَرٌّ. وقرَأَ الأَخَوان (حمزةُ والكسائيُّ) "تَتْلو" بتاءَيْن منقوطتين من فوق، أي: تَطْلُبُ وتَتَّبِعُ ما أَسْلَفَتْهُ مِنْ أَعْمالها. وقرأَ عاصم في رِوايةٍ "نَبْلو" بالنون والباءِ الموحَّدَةِ، أَيْ: نَخْتَبْرُ نحن.
وقرأ الجمهورُ: {ورُدوا إلى الله}، بِضَمِّ الراءِ، وقرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ "ورِدُّوا" بِكَسْرِ الراءِ تَشْبيهاً للعَيْنِ المُضَعَّفَةِ بالمُعْتَلَّةِ، نحو: "قيل" و "بيع"، ومثلُهُ قولُ الفرزدق:
وما حِلَّ مِنْ جَهْلٍ حُبا حُلَمائِنا ........... ولا قائِلُ المعروفِ فينا يُعنَّفُ
بِكَسْرِ الحاءِ، وقدْ تَقَدَّمَ بَيانُ ذَلِكَ بِأَوْضَحَ مِنْ هذا.