ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ
(14)
قولُهُ ـ تعالى جَدُّهُ: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ
بَعْدِهِمْ} الخلائفُ: جمعُ خَليفةٍ. وقد تَقَدَّمَ. أَيْ: ثُمَّ اسْتَخْلَفَكُمْ اللهُ تَعَالَى فِي الأَرْضِ، بَعْدَ أَنْ أَهْلَكَ السَّابِقِينَ، وَذَلِكَ بِمَا آتَاكُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا مِنْ أَسْبَابِ السَّعَادَةِ، فِي الدِّينِ وَالدُّنْيا. ومِنْ ذَلِكَ قولهم للسُلْطانِ الأَعْظمِ: خليفة؛ لأنَّه خَلَفَ الذي كان قبْلَهُ، فقامَ بالأَمْرِ مَقامَهُ، فَكانَ مِنْه خَلَفًا.
قيلَ الخَطابُ هُنَا لأَهْلِ مَكَّةَ، وقيلَ للعرَبِ لأنَّ التعريف في الأَرْضِ"، للعَهْدِ فإنَّ المُخاطَبينَ خَلَفوا عاداً وثموداً وطِسْماً وجَدِيساً وجُرْهُماً في مَنازِلِهم على الجُملَةِ. ونَراهُ عامّاً شاملاً لِكُلِّ البَشَرِ الذين جاؤوا مِنْ بَعْدِ أَنْ أَهْلَكَ اللهُ القُرونَ الأُولى، مَوْضوعَ الآيةِ التي قبلَها، لأنَّهُ سبحانه تعرَّضَ لمَبْدأِ الاسْتِخلافِ في الأرضِ الذي هُوَ للإنسانِ مُطْلَقاً، وإنّما يَسْتَخْلِفُ اللهُ الإنْسانَ قوْماً بَعدَ قومٍ وقَرْناً بعد قَرْنٍ. وقد كان في الأرضِ الكثيرُ من الأممِ، عند بعثتِهِ والنبيُّ محمّدٌ ـ صَلَى اللهُ عليه وسَلَّمَ، مُرْسَلٌ لِجَميعِ الأُمَمِ، وهو مأْمورٌ بمخاطَبَةِ الجميعِ. والقضيَّةُ هنا مما يَشْمَلُ البشريَّةَ عامَّةً وليستْ في أَمْرٍ يخُصُّ أَهْلَ مَكَّةَ، أَوِ العَرَبَ وحدهم. واللهُ أعلم.
قولُهُ: {لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} لِنَنْظُرَ: هنا بمعنى لِنَعْلَمَ، أَيْ لِنَعْلَمَ عِلْماً مُتَعَلِّقاً بِأَعٍمالِكم. فالمُرادُ بالعِلْمِ تَعَلُّقُهُ التَنْجيزيِّ. فالنَظرُ مُسْتَعْمَلٌ هنا في العِلْمِ المُحَقّقِ، لأنَّه أَقْوى طُرُقِ المَعْرفَةِ. والمعنى لِيَنْظُرَ سُبْحانَهُ كَيْفَ تَكُونُ أَعْمَالُكُمْ فِي خِلاَفَتِكُمْ، وَيَظْهَرُ مَا تَخْتَارُونَهُ لأَنْفُسِكُمْ مِنْ طَاعَةٍ أَوْ عِصْيَانٍ بَعْدَ أَنْ عَرَفْتُمْ مَا حَلَّ بِمَنْ سَبَقَكُمْ، أَيْ: لِيُبَيِّنَ في الوُجودِ ما عَلِمَهُ أَزَلاً، لكنْ جَرَى القولُ على طَريقِ الإيجازِ والفَصاحَةِ والمجازِ.
أخرجَ ابْنُ جَريرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتم، وأَبو الشيخِ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِ اللهِ تعالى: "ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ" ذُكِرَ لَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ـ رضي الله عنه، قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ، فَقَالَ: صَدَقَ رَبُّنَا مَا جَعَلَنَا خَلائِفَ الأَرْضِ إِلاَّ لِيَنْظُرَ إِلَى أَعْمَالِنَا، فَأَدُّوا اللهَ خَيْرَ أَعْمَالِكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالسِّرِ وَالْعَلانِيَةِ". وأخرج ابنُ أبي حاتمٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، قَالَ عُمَرُ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: "ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لَنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ" قَالَ: "فَقَدِ اسْتُخْلِفْتَ يَا ابْنَ أُمِّ عُمَرَ فَانْظُرْ كَيْفَ تَعْمَلُ؟". وكانَ يقولُ أَيَضاً: قدِ اسْتُخْلِفْتَ يا ابْنَ الخَطَّابِ فانْظُرْ كيْفَ تَعْمَلُ؟.
وَفِي ذَلِكَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الخِلاَفَةَ مَنُوطَةٌ بِالأَعْمَالِ لِكَيْلا يَغْتَرَّ النَّاسُ بِمَا سَيَنَالُونَهُ، وَيَظُنُّوا أَنَّهُ بَاقٍ لَهُمْ، وَأَنَّهُمْ سَيَكُونُونَ بِمَنْجَاةٍ مِنْ مُقْتَضَى سُنَّةِ اللهِ فِي الظَّالِمِينَ.
أخرج ابنُ جريرٍ الطبريُّ، وابْنُ كثيرٍ، عَنْ عبدِ الرَحمنِ ابْنِ أَبي لَيلى: أَنَّ عَوْفَ ابْنَ مالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ لأَبي بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: رَأَيْتُ فيما يَرَى النائمُ كأَنَّ سَبَبًا دُلِّيَ مِنَ السَمَاءِ، فانتُشِطَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، (أي جُذبَ وانتُزِعَ) ثمَّ دُلِّيَ فانْتُشِط أَبو بَكْرٍ، ثمَّ ذُرِعَ الناسُ حَوْلَ المِنْبَرِ، ففَضَل عُمَرُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِثَلاثِ أَذْرُعٍ إلى المِنْبرِ. فقالَ عُمَرُ: دَعْنا مِنْ رُؤْياك، لا أرَبَ لَنَا فيها! فلَمَّا اسْتُخْلِفَ عُمَرُ قال: يا عَوْفُ، رُؤْياك! قالَ: وهلْ لَكَ في رُؤيايَ مِنْ حاجةٍ؟ أَوَ لمْ تَنْتَهِرْني! قال: وَيْحَكَ! إني كَرِهْتُ أَنْ تَنْعَى لخَليفَةِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى الله عليه وسلمَ، نَفْسَهُ! فَقَصَّ عليه الرُؤْيا، حتى إذا بَلَغَ: "ذُرِعَ الناسُ إلى المِنْبَرِ بهذِهِ الثلاثِ الأَذْرُعِ"، قالَ: أَمَّا إِحْداهُنَّ، فإنَّهُ كائنٌ خَليفَةً. وأَمَّا الثانيةُ، فإنَّهُ لا يَخافُ في اللهِ لَوْمَةَ لائمٍ. وأَمَّا الثالثةُ، فإنَّهُ شَهيدٌ. قالَ: فقالَ يَقولُ اللهُ: "ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون"، فقدِ اسْتُخْلِفْتَ يا ابْنَ أُمِّ عُمَرَ، فانْظُرْ كَيْفَ تَعْمَلُ. وأَمَّا قولُه: "فإني لا أخافُ في اللهِ لَوْمَةَ لائمٍ" فما شاءَ اللهُ. وأَمَّا قولُهُ: "فإني شَهيدٌ" فأنَّى لِعُمَرَ الشَهادَةَ، والمُسْلِمون مُطِيفون به! ثمَّ قالَ: إنَّ اللهَ على ما يَشاءُ قدير. وقد ذكر هذا الحديثَ الخطابيُّ في غريب الحديث، له، وشرحَ بعضَ معانيه.
قولُهُ تَعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خلائفَ في الأرضِ مِنْ بَعْدِهم} عَطْفٌ على {أَهْلَكْنَا} من الآيةِ التي قبلها، وحرف "ثم" مُؤْذِنٌ بِبُعْدِ ما بَيْنَ الزَمَنَيْنِ، أَيْ ثمَّ جَعَلْناكم تَخْلُفونَهم في الأَرْضِ. وكونُ حَرْفِ "ثم" هُنا عاطفاً جملةً على جملةٍ يَقتَضي التَراخي الرُتَبي لأنَّ جَعْلَهم خَلائفَ أَهَمُّ مِنْ إِهْلاكِ القُرونِ قبلَهم لما فيهِ مِنَ المِنَّةِ عَلَيْهم، ولأنَّهُ عَوَّضَهم بهم. و "في الأَرْضِ" الجارُّ مُتَعَلِّقٌ بِنَعْتٍ ل "خلائف".
قولُهُ: {لِنَنظُرَ كَيْفَ تعملون} الجارُّ في "لِنَنظُرَ" مُتَعَلِّقٌ بالجَعْل. و "كَيْفَ" اسْمُ اسْتِفْهامٍ مُعَلِّقٍ لِفِعْلِ العِلْمِ عَنِ العَمَلِ، وهوَ مَنْصوبٌ ب "نَنْظُرَ" والمعنى في مِثْلِهِ: لِنَعْلَمَ جوابَ كَيْفَ تَعملونَ، ومثلُه قولُ إياسِ ابْنِ قُبَيْصَةَ الطائيُّ:
وأَقْبَلْتُ والخَطِّيُّ يَخْطُرُ بَيْنَنا ............ لأَعْلَمَ مَنْ جَبَانُها مِنْ شُجاعِها
أي: "لأعْلَمَ" جَوابَ مَنْ "جبانُها". لِيَظْهَرُ الجَبانِ مِنَ الشُجاعِ. وقيل هو مَنْصوبٌ بِ "تعملون" على المَصْدَرِ، أَيْ: أَيَّ عَمَلٍ تَعْمَلونَ، وهِيَ مُعَلِّقَةٌ للنَظَرِ.
قرأ العامّةُ: {لننظُرَ} بِنُونَيْنِ، وقرأَ يحيى يحي بْنُ الحارثِ بِنونٍ واحدةِ وتشديدِ الظاءِ. وقالَ: (هكذا رأيتُه في مُصْحَفِ عُثْمانَ) يَعْني أَنَّهُ رَآها بِنونٍ واحدَةٍ، ولا يَعني أَنَّه رآها مُشَدَّدَةً؛ لأَنَّ هَذا الشَكْلَ الخاصَّ إنَّما حَدَثَ بَعدَ عُثْمانٍ ـ رضي اللهُ عنه. وخَرَّجوها على إدْغامِ النونِ الثانيَةِ في الظاءِ، وهو رَديءٌ جِدّاً، وأَحسَنُ ما يُقالُ فيهِ: إنَّه بالغَ في إخْفاءِ غُنَّةِ النونِ الساكِنَةِ فَظَنَّه السامعُ إدْغاماً، ورُؤيتُهُ لَهُ بِنُونٍ واحدةٍ لا يَدُلُّ على قراءتِهِ إيَّاه مُشَدَّدَةَ الظاءِ ولا مخفَّفَها. قال أبو حيّان الأندلسيُّ: ولا يَدُلُّ على حَذْفَ النون مِنَ اللَّفْظِ. وفيهِ نَظَرٌ لأنَّهُ كَيْفَ يُقْرَأُ ما لم يَكُنْ مَكتوباً في المُصْحَفِ الذي رآهُ؟.