[size=48]سُورَةُ يونُس[/size]
هيَ السُورَةُ الحاديةُ والخَمْسونَ في تَرْتيبِ نُزُولِ السُّوَرِ. عَدَدُ آيِها مئةٌ وعَشْرُ آياتٍ في عَدِّ أَهْلِ الشامِ، ومِئةٌ وتِسْعُ آياتٍ في عَدِّ أَكْثَرِ الأَمْصارِ. نَزَلَتْ بعدَ سُورَةِ بَني إسرائيلَ (الإسْراءِ) وقَبْلَ سُورَةِ (هُودٍ). والأرجحُ أَنها نَزَلَتْ سَنَةَ إِحْدى عَشْرَةَ للبِعْثَةِ. وهي سُورَةٌ مَكِّيَّةٌ عِنْدَ الجُمْهورِ، وهُوَ الأَصَحِّ في المَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما. وفي (الإتْقانِ في عُلومِ القُرآنِ) للسُيُوطِيِّ، عَنْ عَطاء بْنِ رباحٍ، أَنَّها مَدَنِيَّةٌ. وفي (الجامعِ لأَحْكامِ القُرآنِ) للقُرْطُبيِّ، عَنِ ابْنِ عباسٍ أَنَّ ثَلاثَ آياتٍ مِنْها مَدَنِيَّةٌ، وهيَ قولُهُ تَعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} إلى قوله: {حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} الآيتان: 95 و 96. وجَزَمَ بِذَلِكَ أبو القاسِمِ النَيْسابورِيُّ. وفي (المحرَّرِ الوَجيزِ في تَفسيرِ الكتابِ العَزيزِ) لابْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ مُقاتلٍ هِيَ مكيَّةٌ إلاَّ آيَتَينِ مَدَنِيَّتَينِ، هما: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ} إلى قولِهِ: {مِنَ الْخَاسِرِينَ} الآيتان: 94 و 95. وفيهِ عَنِ الكَلْبيِّ أَنَّ آيةً واحِدَةً نَزَلَتْ بالمَدينةِ وهِيَ قولُهُ تَعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ} إلى {أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ} الآية: 40. نَزَلَتْ في شَأْنِ اليَهودِ، وما تبقَّى فإنَّهُ نَزَلَ في مَكَّةَ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قالتْ فِرْقَةٌ: نَزَلَ نحوٌ مِنْ أَرْبَعينَ آيَةً مِنْ أَوَّلِها بَمكَّةَ ونَزَلَ باقيها بالمَدينةِ. ولمْ يِنْسِبْهُ إلى مُعَيَّنٍ. ومَنْشَأُ هذِه الأَقوالِ ـ فيما أحْسَبُ، الظَنُّ بأَنَّ ما في القُرآنِ مِنْ مُجادَلَةِ أَهْلِ الكِتابِ لم يَنْزِلْ إلاَّ بالمَدينَةِ، وهو غيرُ قولٌ غيرُ صحيح.
وقد سُمِّيَتْ بهذا الاسْمِ في السُنَّةِ والمصاحِفِ وكُتُبِ التَفْسيرِ لأنها انْفَرَدَتْ بِذِكْرِ خُصوصِيَّةٍ لِقَومِ نبيِّ اللهِ يونُسَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وذلكَ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ تَوَعَّدَهم بِنُزولِ العذابِ آمَنُوا فَعفا اللهُ عَنهم. إكراماً لنَبيِّهم، قالَ تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} الآية: 98. مِنْ هذِهِ السُورَةِ المُبارَكَةِ. وليس فيها غيرَ ذلك ذِكْرٌ لِيُونُسَ. وقدْ ذُكِرَ في سُورةِ الصافَّاتِ بِأَوْسَعَ ممّا في هَذِهِ السُورَةِ.
والأَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ قَدْ أُضيفَتْ إلى يُونُسَ تَمْييزاً لها عَنْ أَخَواتها الأَرْبَعِ المُفْتَتَحَةِ بِذَاتِ الأَحْرُفِ "الر". وقد أُضِيفَتْ كلُّ واحِدَةٍ منْها إلى نَبيٍّ أوْ قَوْمِ نَبيٍّ حتى لا يُقالَ: "الر" الأولى، و "الر" الثانية، وهَكَذا. فإنَّ اشْتِهارَ السُوَرِ بأَسمائها أَوَّلُ ما يَشيعُ بَينَ المُسْلِمينَ بِأُولى الكَلِماتِ التي تَقَعُ فيها وخاصَّةً إذا كانتْ فواتحُها حُروفاً مُقَطَّعَةً، فكانوا يَدْعُون تِلْكَ السُورَ ب "حم" و "الر" ونحوِ ذلك من أسماءَ، حسبَ ما يكون في أوَّلها من حروف.
وقد ابْتُدِئَتْ هذه السورةُ بإثباتِ رِسالةِ محمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فتَحدَّى المُشْرِكينَ بمعارَضَةِ القُرآنِ وعجزِهم عَنْ ذَلِكَ، فنَبَّهَ عَلَيْه بِأُسْلوبٍ تَعْريضِيٍّ دَقيقٍ بُنيَ على الكِنايَةِ بِتَهْجِيَةِ الحُروفِ المُقَطَّعَةِ في أَوَّلِ السُّورةِ، كَما تَقَدَّمَ في مُفْتَتَحِ سُورَةِ البَقَرَةِ، ولِذلِكَ أُتْبِعَتْ تِلكَ الحُروفُ بِقَوْلِهِ تَعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} إشارَةً إلى أَنَّ إِعْجازَهُ لهم هُوَ الدَليلُ عَلى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ. وقدْ جاءَ التَصْريحُ بما كُنِّيَ عَنْهُ هُنا في قَولِهِ: {قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} الآية: 38. وأُتْبِعَ بإثْباتِ رِسَالَةِ محمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ. ثمَّ انْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ إلى إثباتِ انْفِرادِ اللهِ تَعالى بالإلهيَّةِ بِدَلالَةِ أَنَّهُ خالقُ العالمِ ومُدَبِّرُهُ، فأَفْضى ذَلِكَ إلى إبْطالِ أَنْ يَكونَ للهِ شُرَكاءَ في إلهيَّتِهِ، وإلى إبطالِ مَعاذيرِ المُشْرِكينَ بِأَنَّ أَصْنامَهم شُفَعاءَ لهم عِنْدَ اللهِ تعالى. ثمَّ أَتْبَعَهُ بإثباتِ الحَشْرِ للجَزاءِ والمثوبةِ. وفي ذلِكَ إبطالُ أُصُولِ الشِرْكِ. وتخلَّلَ ذَلِكَ ذِكْرُ دَلائلَ مِنَ المَخْلوقاتِ، وبيانُ حِكْمَةِ الجَزاءِ، وصِفَتِهِ، وما في دَلائلِ المَخْلوقاتِ مِنْ حِكَمٍ ومَنافِعَ للنَّاسِ. كما تخلَّلَهُ وعْدُ الذين آمَنوا، ووَعيدُ مُنْكِري البَعْثِ المُعْرِضينَ عَنْ آياتِ اللهِ. فكانَ مُعْظَمُ هَذِهِ السُّورَةِ يَدورُ حولَ مِحْوَرِ تَقريرِ هذِهِ الأُصولِ. فمنْ ذَلِكَ التَنْبيهُ على أَنَّ عدمَ تَعجيلِ العذابِ وإمْهالَ الكافرينَ هُوَ حِكْمَةٌ مِنْهُ. ومِنْ ذَلكِ التَذْكيرُ بما حَلَّ بِأَهْلِ القُرونِ الماضِيَةِ لما أَشْرَكوا وكَذَّبوا الرُسُلَ. والاعتبارُ بما خَلَقَ اللهُ للناسِ مِنْ مَواهِبَ كالقُدْرَةِ عَلى السَيرِ في البرِّ والبَحرِ، وما في ذلكَ مِنْ أَلْطافِهِ، سبحانَه وتعالى.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ
(1)
تقدَّمَ الكلامُ في أَوَّلِ سُورةِ البَقَرَةِ على الحُروفِ في فواتِحِ بَعْضِ السُّوُرَ. فهيَ بِمَنْزِلَةِ الأعْدادِ المَسْرودَةِ، ولا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْراب، عند بعضهم، ولا يُنْطَقُ بها إلاَّ عَلى حالِ السَّكْتِ، وحالُ السَكْتِ يُعامَلُ مُعامَلَةَ الوَقْفِ، فلذلكَ لا يُمَدُّ اسْمٌ مّا في الآيةِ، وإنْ كانَ هُوَ في اللُّغَةِ بهمزةٍ في آخِرِهِ لأنَّهُ بالسَكْتِ تُحْذَفُ الهَمْزَةُ كَما تُحْذَفُ في الوَقْفِ لِثِقَلِ السُكوتِ عليها في الوقفِ والسَّكْتِ، فبِذلكَ تَصيرُ الكَلِمَةُ على حَرْفَينِ فلا تُمَدُّ. ولذلكَ أَجمعَ القُرَّاءُ على عَدَمِ مَدِّ الحُروفِ: را. ها. يا. طا. حا. التي في أَوائِلِ السُوَرِ، وإنْ كانتْ تِلكَ الأَسماءُ ممْدودَةً في اسْتِعْمالِ اللُّغَةِ. فقَرأَ العامَّةُ "الر" بِتَفخيم الراءِ المفتوحَةِ، وهي الأصلُ، وقَرَأ أبو عمرٍو وبعضُ القرّاءِ بإمالَةِ ألِفِ المدِّ فيها إجراءً للأَصْلِيَّةِ مُجْرى المُنْقَلِبَةِ عَنِ الياءِ، وقرأَ ورشٌ بينَ بَيْنَ، وهُو إمَّا مَسْرودٌ على نَمَطِ التَعديدِ بِطَريقِ التَحَدّي على أَحَدِ الوَجْهَيْنِ المَذْكوريْن في فاتحةِ سُورَةِ البَقَرَةِ، فلا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإعْرابِ، كما تقدَّم. وإمَّا اسْمٌ للسُورَةِ كَما عليهِ الأَكْثَرُ فَمَحَلُّهُ الرَّفعُ على أَنَّهُ خَبرٌ لِمُبْتَدأٍ محذوفٍ، أَيْ هَذِهِ السُّورَةُ مُسَمَّاةٌ ب "الر"، وهُوَ أَظْهَرُ مِنَ الرَّفْعِ على الابْتِداءِ لِعَدَمِ سَبْقِ العِلْمِ بالتَسْمِيَةِ بَعْدُ، فحقُّها الإخبارُ بها، لا جَعْلُها عُنْوانَ المَوْضوعِ لِتَوَقُّفِهِ على عِلْمِ المُخاطَبِ بالانْتِسابِ كَما مَرَّ. والإشارةُ إلَيْها قَبْلَ جَرَيانِ ذِكْرِها لِما أَنَّها باعْتِبارِ كَوْنِها عَلى جَناحِ الذِكْرِ، وبِصَدَدِهِ صارَتْ في حُكْمِ الحاضِرِ، كَما يُقالُ: هذا ما اشْتَرى فُلانٌ، أَوْ النَصْبُ بِتَقْديرِ فِعْلٍ لائقٍ بالمَقامِ نحوُ "اذْكُرْ" أو "اقرأ".
و "تِلْكَ" إشارةٌ إلَيْها إمَّا عَلى تَقديرِ كَوْنِ "الر" مَسْرودَةً على نَمَطِ التَعْديدِ فَقَدْ نُزِّلَ حُضورُ مادَّتِها التي هِيَ الحُروفُ المَذْكورَةُ مَنْزِلَةَ ذِكْرِها فأُشيرَ إلَيْها كأنَّه قيلَ: هذِهِ الكَلِماتُ المُؤَلَّفَةُ مِنْ جِنْسِ هَذِهِ الحُروفِ المَبْسُوطَةِ .. الخ، وإمَّا على تَقديرِ كَوْنِهِ اسْماً للسُورَةِ، فَقَدْ نَوَّهَتْ بالإشارةِ إليْها بَعْدَ تَنْويهِها بِتَعيينِ اسْمِها، أَوِ الأَمْرِ بِذِكْرها أو بِقِراءتِها، وما في اسْمِ الإشارةِ مِنْ مَعْنى البُعْدِ للتَنْبيهِ عَلى بُعْدِ مَنْزِلَتِها في الفَخامَةِ، ومحلُّهُ الرَّفْعُ على أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبرُهُ قولُهُ تَعالى: "آيَاتُ الكِتابِ".
وعَلى تَقديرِ كَوْنِ "الر" مُبْتَدَأً فَهُوَ مُبْتَدَأٌ ثانٍ، أَوْ بَدَلٌ مِنَ الأَوَّلِ، والمعنى: هِيَ آياتٌ مخْصوصَةٌ مِنْهُ مُتَرْجَمَةٌ باسْمٍ مُسْتَقِلٍّ، والمَقْصودُ بِبَيانِ بَعْضِيَّتِها مِنْهُ وَصْفُها بما اشْتُهِرَ اتِّصافُهُ بِهِ مِنَ النُعوتِ الفاضِلَةِ والصِفَاتِ الكامِلَةِ.
والمُرادُ بِ "الكتاب" إمَّا جميعُ القُرآنِ العَظيمِ، وإنْ لمْ يَنْزِلِ الكُلُّ حِينَئِذٍ، إمَّا باعْتِبارِ تَعَيُّنِهِ وتَحَقُّقِهِ في عِلْمِ اللهِ ـ عَزَّ وعَلا، أَوْ في اللَّوْحِ المحفوظ، أَوْ باعْتِبارِ أَنَّهُ أُنْزِلَ جملةً إلى السَّماءِ الدُنْيا، كَما هُوَ المَشْهُورُ، فإنَّ فاتحةَ الكتَابِ كانَتْ مُسَمَّاةً بهذا الاسْمِ، وبِأُمِّ القَرآنِ في عَهْدِ النُبُوَّةِ، ولمّا يَحْصُلِ المجموعُ الشَخْصِيُّ إذْ ذاكَ، فَلا بُدَّ مِنْ مُلاحَظَةِ كُلٍّ مِنَ الكِتابِ والقرآنِ بأَحَدِ الاعْتِباراتِ المذكورَةِ. وأمَّا جميعُ القرآنِ النازلِ وقْتَئِذٍ المُتَفاهَمِ بَينَ النَّاسِ إذْ ذاكَ فإنَّهُ كَما يُطْلَقُ عَلى المجموعِ الشَخْصِيِّ يُطْلَقُ على مجموعِ ما نَزَلَ في كُلِّ عَصْرٍ، أَخرجَ البخاريُّ عَنْ جابرٍ بْنِ عبدِ اللهِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ: (كانَ النَبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، يَجْمَعُ بَينَ الرَجُلينِ مِنْ قَتْلى أُحُدٍ في ثوْبٍ واحِدٍ ثمَّ يَقولُ: ((أيُّهم أَكْثَرُ أَخْذاً للقُرآنِ؟)) فإذا أُشيرَ لَهُ إلى أَحَدِهِما قَدَّمَهُ في اللَّحْدِ)، فإنَّ مَا يَفْهَمُهُ النّاسُ مِنَ القُرآنِ في ذَلِكَ الوَقْتِ، ويحافِظونَ على التَفاوُتِ في أَخْذِهِ، إنَّما هُوَ المجموعُ النازِلُ حِينَئِذٍ مِنْ غَيرِ مُلاحَظَةٍ لِتَحَقُّقِ المجموعِ الشَخْصِيِّ في عِلْمِ اللهِ سُبْحانَهُ، أوْ في اللوحِ ولا لِنُزولِهِ جملَةً إلى السَماءِ الدُنيا.
و "الحكيمِ" ذِي الحِكْمَةِ، وُصِفَ بِهِ لاشْتِمالِهِ على فُنونِ الحِكَمِ الباهِرَةِ ونُطْقِهِ بها، أَوْ هُوَ مِنْ بابِ وَصْفِ الكَلامِ بِصِفَةِ صاحِبِهِ، أَوْ مِنْ بابِ الاسْتِعارَةِ المَكْنِيَّةِ المَبْنِيَّةِ على تَشْبيهِ الكِتابِ بالحَكيمِ النَّاطِقِ بالحِكْمَةِ، ويجوزُ أَنْ يَكونَ "الحكيم" مِنْ "حاكم" بمعنى "فاعِل"، ويجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى "مُفْعَلٍ"، أَيْ: مُحْكَمٍ، ومنه قولُ الأَعشى:
وغريبةٍ تأتي الملوكَ حكيمةً ................. قد قلتُها لِيُقالَ مَنْ ذا قالها
هذا وَقَدْ جُعِلَ "الكِتاب" عبارةً عَنْ نَفْسِ السُورةِ، وكلمةُ "تِلك" إشارةٌ إلى ما في ضِمْنِها مِنَ الآيات، فإنَّها في حُكْمِ الحاضِرِ، لا سِيَّما بعدَ ذِكْر ما يَتَضَمَّنُها مِنَ السُّورَةِ عِنْدَ بَيانِ اسمِها، أَوِ الأَمْرِ بِذِكْرِها، أَوْ بِقِراءتِها، ويَنْبَغي أَنْ يَكونَ المُشارُ إلَيْهِ حِينَئِذٍ كُلَّ واحِدَةٍ منها، لا جميعَها، مِنْ حَيْثُ هُوَ جميعٌ، لأنَّهُ عَينُ السُورةِ، فلا يَكونُ للإضافَةِ وَجْهٌ، ولا لِتَخْصيصِ الوَصْفِ بالمُضافِ إِلَيْهِ حِكْمَةٌ، فلا يَتَأَتّى ما قُصِدَ مِنْ مَدْحِ المُضافِ بما للمُضافِ إليْهِ مِنْ صِفاتِ الكَمالِ، ولأنَّ في بَيانِ اتِّصافِ كُلَ مِنْها بالكَمالِ مِنَ المُبالَغَةِ ما لَيْسَ في بَيانِ اتِّصافِ الكُلِّ بِذَلِكَ، والمُتَبادَرُ مِنَ الكِتابِ عِنْدَ الإطْلاقِ ـ وإنْ كانَ كُلُّهُ بِأَحَدِ الوَجْهَينِ المَذْكورَيْنِ، لكِنَّ صِحَّةَ إِطْلاقِهِ عَلى بَعْضِهِ أَيْضاً ممَّا لا رَيْبَ فيها، والمَعْهُودُ المَشْهُورُ ـ وإنْ كانَ اتِّصافُ الكُلِّ بِأَحَدِ الاعْتِباريْنِ بَما ذُكِرَ مِنْ نُعوتِ الكَمالِ، إلاَّ أَنَّ شُهْرةَ اتِّصافِ كُلِّ سُورةٍ مِنْهُ بِما اتَّصَفَ بِهِ الكُلُّ ممّا لا يُنْكَرُ، وعَلَيْهِ يَدورُ تحقُّقُ مَدْحِ السُورَةِ بِكَوْنها بَعْضاً مِنَ القُرآنِ الكَريمِ، إذْ لَوْلا أَنَّ بَعْضَهُ مَنْعوتٌ بِنَعْتِ كُلِّهِ داخِلٌ تحتَ حُكْمِهِ لما تَسَنّى ذَلِكَ، وفيهِ ما لا يَخْفى مِنَ التَكَلُّفِ والتَعَسُّفِ.
والمراد مِنْ "الر" على ما رَوَى جماعَةٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعالى عَنْهُما، أَنَا اللهُ أَرَى، وفي رِوايَةٍ أُخْرى أنها بَعْضُ اسمه: "الرحمنِ" وتمامُهُ "حم" و "ن"، وعَنْ قَتادَةَ أَنَّها بَعْضُ "الراحمِ" وهوَ مِنْ أسماءِ القُرآنِ، وقيلَ: هيَ أَسماءٌ للأحْرُفِ المَعْلومَةِ مِنْ حُروفِ التَهَجّي، أَتى بها مَسْرودَةً على نَمَطِ التَعْديدِ كما تَقَدَّمَ.
وقالَ الإمامُ القُشَيْرِيُّ: الأَلِفُ مِفْتاحُ اسْمِ "الله"، واللامُ مِفْتاحُ اسْمِ "اللطيف"، والراءُ مِفْتاحُ اسْمِ "الرحيم"، أَقْسَمَ بهذِهِ الأَسماءِ إِنَّ هَذا الكِتابَ هُوَ المَوعُودُ لَكمْ يَومَ المِيثاقِ.
والمَشهورُ عَنِ السَلَفِ الصالحِ ـ رضوانُ اللهِ عليهم، تَفْويضُ معنى "الر" وأَمثالِهِ إلى اللهِ تَعالى. وهذِهِ هِيَ آيَاتُ القُرْآنِ المُحْكَمِ الذِي أَحْكَمَهُ اللهُ فِي أُسْلُوبِهِ وَمَعَانِيهِ، وَبَيَّنَهُ لِعِبَادِهِ.
أَخْرجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنِ ابْنِ عباسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما في قولِهِ: "الر" قال: فواتحُ السُوَرِ، أَسماءٌ مِنْ أَسماءِ الله. وأخْرَجَ عنه ابْنُ جَريرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وأَبُو الشَيْخِ، والبَيْهَقِيُّ في الأسماءِ والصِفاتِ، وابْنُ النَجّارِ في تاريخِهِ أنَّه قال: "الر": (أَنَا اللهُ أَرَى). وأخرجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ سَعيدِ بْنِ جُبَيرٍ مثلَه، وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ، مثلَه.
وأَخرج ابْنُ أَبي حاتمٍ عَنِ ابنِ عباسٍ ـ رضي اللهُ عنهما، أيضاً أنَّه قال: ("الر" حُرُوفُ الرَّحْمَنِ مُفَرَّقَةٌ). وَرُوِيَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ـ رَضِيَ اللهُ عنه: "الر" و "حم" و "ن": اسْمُ الرَّحْمَنِ مُقَطَّعٌ.
واخْتَلَفُ القُرَّاءُ في إمالَةِ هذِهِ الحُروفِ إذا كان في آخرِها أَلِفٌ وهي : "را"، و "طا"، و "ها"، و "يا"، و "حا". فأَمالَ "را" مِنْ جميعِ سورِها إمالةً محضَةً الكُوفِيّونَ إلاَّ حَفْصاً، وأبو عَمْرٍ، وابْنُ عامرٍ. وأَمالَ الأَخَوَان (حمزةُ والكِسائيُّ) وأبو بَكْرٍ "طا" مِنْ جميعِ سُوَرِها، نحو: "طس"، و "طسم"، و "طه"، و "يا" مِنْ "يس". ووافَقَهم ابْنُ عامِرٍ والسُوسِيُّ على "يا" مِنْ "كهيعص"، بخلافٍ عَنِ السُوسِيِّ. وأَمَالَ الأَخَوانِ، وأَبو عَمْرٍو، وورْشٌ، وأَبو بَكْرٍ، "ها" مِنْ "طه"، وكَذلكَ أَمالها مِنْ "كهيعص" أَبو عَمْرٍو، والكِسائِيُّ، وأبو بكر، دونَ حمزةَ وورشٍ. وأَمالَ أَبو عَمْرٍو، ووَرْشٌ، والأَخَوَان، وأَبو بَكْرٍ، وابْنُ ذَكْوانَ، "حا" مِنْ جميعِ سُورِها السَبْعِ. إلاَّ أَنَّ أَبا عَمْروٍ ووَرْشاً يُميلانِ بَيْنَ بَيْنَ، وللقُراءِ في هذا عَمَلٌ كَثيرٌ.