وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
(102)
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ اللهُ
تَعَالَى حَالَ المُتَخَلِفِينَ عَنِ الجِهَادِ تَكْذِيباً وَشكّاً، شَرَعَ فِي بَيَانِ حَالِ المُتَخَلِّفِينَ عَنِ الجِهَادِ كَسَلاً، مَعَ إِيمَانِهِمْ وَتَصْدِيقِهِمْ بِالحَقِّ، فَقَالَ: وَهُنَاكَ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ، وَأَقرُّوا بِهَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ،
قولُهُ: {خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} لَهُمْ أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ خَلَطُوا بِهَا أَعْمَالاً سَيِّئَةً، هِيَ تَقَاعُسُهُمْ عَنِ الخُرُوجِ مَعَ النَّبِيِّ ـ صلَّى اللهُ علَيْهِ وسَلَّمَ، فِي غَزْوَةِ تبوك، وَقُعُودُهُمْ عَنِ الخُرُوجِ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ،
وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وابْنُ أَبي الدُنْيا في التوبة، وابْنُ جَريرٍ في التفسير، وابْنُ المُنْذِرِ، وأَبو الشَيْخِ، والبَيْهَقِيُّ في شُعَبِ الإِيمانِ، عَنْ أَبي عُثْمان النَهْدِيِّ، قال: ما في القُرْآنِ آيَةٌ أَرْجَى عِنْدي لهذِهِ الأُمَّةِ مِنْ قَوْلِهِ تعالى: "وآخَرونَ اعْتَرَفوا بِذُنوبِهم خَلَطوا عَمَلاً صالحاً وآخَرَ سَيِّئاً".
وأَخْرَجَ أَبو الشَيْخِ، والبَيْهَقِيُّ، عَنْ مُطَرِّفٍ قالَ: إني لأسْتَلْقي مِنَ الليلِ على فِراشِي، وأَتَدَبَّرُ القُرآنَ، فأَعْرِضُ أَعْمالي عَلى أَعْمالِ أَهْلِ الجَنَّةِ فإذا أَعْمالُهم شَديدَةٌ {كانوا قليلاً مِنَ اللَّيلِ ما يَهْجَعون} سورة الذاريات الآية: 17. و {يَبيتونَ لِربهم سُجَّداً وقِياماً} سورة الفُرْقانَ، الآية: 64. و{أَمَّنْ هُو قانِتٌ آناءَ الليلِ ساجداً وقائماً} سورة الزمر، الآية: 9. فلا أَراني مِنْهم! فأَعْرِضُ نَفْسِي عَلى هَذِهِ الآيةِ: {ما سَلَكَكُمْ في سَقَر} و {قالوا لم نَكُ مِنَ المُصَلِّين} إلى قوله: {نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} سورة المدثر، الآيات: 42 ـ 46. فأَرَى القَوْمَ مُكَذِّبين فَلا أَراني مِنْهُم، فأَمُرُّ بهذِهِ الآيَةِ: "وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً" فأَرْجو أَنْ أَكونَ أَنا وأَنْتم يا إخوَتاهُ مِنْهم.
قولُهُ: {عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فَهَؤُلاَءِ تَحْتَ عَفْوِ اللهِ وَغُفْرَانِهِ، وَقَدْ يُوَفِّقُهُمْ إلى التَّوْبَةِ الصَّحِيحَةِ، فَيَقبلُ تَوبتَهم المَفهومةَ مِنِ اعْتِرافِهم بِذُنوبهم ويَغْفِرُ لَهُمْ لأنَّهُ تَعَالَى هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، فيَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِ التائبِ، ويَتَفَضَّلُ عَلَيْهِ، وهُوَ تَعليلٌ لما تُفيدُهُ كَلِمَةُ "عسى" مِنْ وُجوبِ القَبولِ، فإنَّها للإطْماعِ الذي هُوَ مِنْ أَكْرَمِ الأَكْرَمين إيجابٌ وأَيُّ إيجابٍ.
وَرُوِيَ في أَسبابِ نزولِ هذه الآيةِ أَنَّ هَذِه ِالآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَلَمَّا رَجَعَ الرَّسُولُ مِنْ غَزْوَتِهِ، رَبَطُوا أَنْفُسَهُمْ بِسَوارِي المَسْجِدِ، وَحَلَفُوا لاَ يَحُلُّهُمْ إِلاَّ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَة أَطْلَقَهُمْ رَسُولُ اللهِ، وَعَفَا عَنْهُمْ. فقد أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وابْنُ مِرْدُوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ، في الدَلائلِ، عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، في قولِهِ: "وآخَرونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهم خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وآخَرَ سَيِّئاً" قال: "كانُوا عَشَرَةَ رَهْطٍ تَخَلَّفوا عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، في غَزْوَةِ تَبوكٍ، فلَمَّا حَضَرَ رُجُوعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، أَوْثَقَ سَبْعَةٌ مِنْهم أَنْفُسَهُم بِسَواري المَسْجِدِ، وكانَ مَمَرَّ النَبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، إذا رَجَعَ في المَسْجِدِ عَلَيْهم ، فلما رَآهُم قالَ: مَنْ هَؤلاءِ المُوثِقُونَ أَنْفُسَهم؟ قالوا: هذا أَبو لُبابَةَ وأَصحابٌ لَهُ تَخَلَّفوا عَنْكَ يا رَسُولَ اللهِ، أَوْثَقوا أَنْفُسَهم وحَلَفوا أَنَّهم لا يُطْلِقُهم أَحَدٌ حَتى يُطْلِقَهُمُ النَبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ويَعْذُرَهم. قالَ: وأَنَا أُقْسِمُ باللهِ لا أُطْلِقُهم ولا أَعْذُرُهُم حتّى يَكونَ اللهُ تَعالى هُوَ الذي يُطْلِقُهم. رَغِبوا عَنّي وتَخَلَّفوا عَنِ الغَزْوِ مَعَ المُسْلِمين، فلَما بَلَغَهم ذَلِكَ قالوا: ونَحنُ لا نُطْلَقُ أَنْفُسَنا حتَى يَكونَ اللهُ هُوَ الذي يُطْلِقُنا. فأَنْزَلَ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ: "وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إنه هو التوّاب الرحيم"، فلَمَّا نَزَلَتْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ النَبِيُّ ـ صَلَّى الله عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فأَطْلَقَهم وعَذَرَهُم، فجاؤوا بِأَموالِهمْ فَقالوا: يا رَسُولَ اللهِ هَذِهِ أَمْوالُنا فَتَصَدَّقْ بها عَنَّا واسْتَغْفِرْ لَنا. قال: ما أُمِرْتُ أَنْ آَخُذَ أَمْوالَكم. فأَنْزَلَ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ: {خُذْ مِنْ أَمْوالِهِم صَدَقَةً تُطَهِّرُهم وتَزَكِّيهمْ بِها وصَلِّ عَلَيْهِمْ} يَقولُ: اسْتَغْفِرْ لَهُم {إنَّ صَلَواتِكَ سَكَنٌ لهم} يَقولُ: رَحمةُ لهم، فأَخَذَ مِنْهُمُ الصَدَقَةَ واسْتَغْفَرَ لهمْ، وكانَ ثَلاثَةُ نَفَرٍ مِنْهم لم يُوثِقوا أَنْفُسَهم بالسَّواري فأُرْجِئوا سَنَةً لا يَدْرونَ أَيُعَذَّبونَ أَوْ يُتابَ عَلَيْهم؟ فَأَنْزَلَ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ {لَقْد تابَ اللهُ على النَبيِّ والمُهاجرين والأَنْصارِ الذَينَ اتَّبَعوهُ في ساعَةِ العُسْرَةِ} الآية: 117. إلى آخَرِ الآيةِ {وعلى الثلاثة الذين خلفوا} الآية: 118. إلى {ثمَّ تابَ عَلَيْهم لِيَتُوبوا إنَّ اللهَ هُوَ التَوَّابُ الرَحيمُ} الآية: 118. يَعْني إنِ اسْتَقامُوا. وأَخْرَجَ أَبو الشَيْخَ مثلَ ذلك عَنِ الضَحَّاكِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، والبَيْهَقِيُّ في الدَلائلِ عَنْ مجاهِدِ في قولِهِ: "فاعْتَرَفوا بِذُنُوبهم" قال: هُوَ أَبُو لُبابَةَ إذْ قالَ لِقُرَيْظَةَ ما قالَ، وأَشارَ إلى حَلْقِهِ بِأَنَّ مُحَمَّداً يَذْبَحُكم إنْ نَزَلْتُم على حُكْمِهِ. وأَخرجَ البَيْهَقِيُّ عَنْ سَعيدِ بْنِ المُسَيّبِ. أَنَّ بَني قُرَيْظَةَ كانوا حُلَفاءَ لأَبي لُبابَةَ فَأَطْلَعوا إلَيْهِ وهُوَ يَدْعُوهم إلى حُكْمِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فقالوا: يا أَبَا لُبابَةَ أَتَأْمُرُنا أَنْ نَنْزِلَ؟ فأَشارَ بِيَدِهِ إلى حَلْقِهِ أَنَّهُ الذَبْحُ، فأُخْبِرَ عَنْهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، بِذَلِكَ، فقالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ: ((أَحَسِبْتَ أَنَّ اللهَ غَفَلَ عَنْ يَدِكَ حَينَ تُشيرُ إِلَيْهِمْ بها إلى حَلْقِكَ؟ فَلَبِثَ حِيناً حَتى غَزا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ تَبوكَ، وهيَ غَزْوَةُ العُسْرَةِ، فتَخَلَّفَ عَنْهُ أَبو لُبابةَ فِيمَنْ تَخَلَّفَ، فلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، مِنْها جاءَهُ أَبو لُبابَةَ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، ففزِعَ أَبو لُبابَةَ، فارْتَبَطَ بِسارِيَةِ التَوْبَةِ التي عِنْدَ بابِ أُمِّ سَلَمَةَ سَبْعاً مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ ولَيْلَةٍ في حَرٍّ شَديدٍ لا يَأْكُلُ فِيهِنَّ ولا يَشْرَبُ قَطْرَةً، قال: لا يَزالُ هَذا مَكاني حَتَّى أُفارِقَ الدُنْيا أَوْ يَتُوبَ اللهُ عَليَّ. فَلَمْ يَزَلْ كَذَلْكَ حَتّى ما يَسْمَعُ الصَوْتَ مِنَ الجُهْدِ ورَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، يَنْظُرُ إليْهِ بُكْرَةً وعَشِيَّةً، ثمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِ، فَنُودِيَ أَنَّ اللهَ قَدْ تابَ عَلَيْكَ، فأَرْسَلَ إليْهِ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، لِيُطْلِقَ عَنْهُ رِباطَهُ، فأَبى أَنْ يُطْلِقَهُ أَحَدٌ إلاَّ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فجاءَهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فأَطْلَقَهُ عَنْهُ بِيَدِهِ، فقالَ أَبو لُبابَةَ حِينَ أَفاقَ: يا رَسُولَ اللهِ إني أَهْجُرُ دَارَ قَوْمِي التي أَصَبْتُ فيها الذَنْبَ وانْتَقِلُ إلَيْكَ فأُساكِنُكَ، وإني أَخْتَلِعُ مِنْ مالي صَدَقَةً إلى اللهِ ورَسولِهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ. فقال: ((يَجْزي عَنْكَ الثُلُثُ)). فهَجَرَ أَبو لُبابةَ دارَ قَوْمِهِ وساكَنَ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وتَصَدَّقَ بِثُلِثِ مالِهِ ثمَّ تابَ، فَلَمْ يُرَ مِنْهُ في الإِسْلامِ بَعدَ ذَلِكَ إلاَّ خَيراً حتى فارَقَ الدُنيا.
وأَخْرَجَ أَبو الشَيْخِ، وابْنُ مَنْدَهْ، وأَبو نُعَيم في المَعْرِفةِ، وابْنُ عَساكِرَ، بِسَنَدٍ قَوِيٍّ عَنْ جابرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قالَ: كانَ ممَّنْ تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَليْهِ وسَلَّمَ في غَزْوَةِ تَبوكٍ سِتَّةٌ: أَبو لُبابَةَ، وأَوْسُ بْنُ خذام، وثَعْلَبَةُ بْنُ وَديعَةَ، وكَعْبُ بْنُ مالِكٍ، ومُرارَةُ بْنُ الرَبيع، وهلالُ بْنُ أُمَيَّة. فجاءَ أَبو لُبابةَ، وأَوسُ بْنُ خُذام، وثَعلبةُ بنُ وَديعَةَ، فرَبَطوا أَنْفُسَهم بالسَواري، وجاؤوا بأَموالهم فقالوا: يا رَسُولَ اللهِ، خُذْ هَذا الذي حَبَسَنا عَنْكَ. فقالَ رَسولُ اللهِ ـ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((لا أَحُلُّهم حتى يَكونَ قِتالٌ)). فنَزلَ القُرآنُ: "خَلَطوا عَمَلاً صالحاً وآخَرَ سَيَِّئاً" الآية. وكان ممّنْ أُرْجئَ عَنِ التَوْبَةِ، وخُلِّفَ: كَعْبُ بْنُ مَالِك، ومُرارَةُ بْنُ الرّبيع، وهِلالُ بْنُ أُمَيَّةَ. فأُرْجِئوا أَرْبَعين يَوْماً، فخَرَجوا وضَرَبوا فَساطِيطَهم، واعْتَزَلهم نِساؤهم، ولمْ يَتَوَلَّهُمُ المُسْلِمونَ، ولم يَقْرُبوا مِنْهم، فَنَزَلَ فيهم {وعلى الثلاثة الذين خلفوا} التَوبَة، الآية: 118. إلى قولِهِ {التوّاب الرَّحيم}. فبَعَثَتْ أُمُّ سَلَمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنها إلى كَعْبٍ فَبَشَّرَتْهُ.
وأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وابْنُ مِرْدُوَيْهِ عِنِ اْبنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قالَ: إنَّ رَسولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، غَزا غَزْوَةَ تَبُوكٍ، فَتَخَلَّفَ أَبْو لُبابَةَ ورَجُلانِ مَعَهُ عَنِ النَبيِّ ـ صلَّى اللهُ عَلَيه وسَلَّمَ، ثمَّ إِنَّ أَبا لُبابَةَ ورَجُلَينِ مَعَهُ تَفَكَّروا فنَدِموا وأَيْقَنوا بالهَلَكَةِ، وقالوا: نحنُ في الظِلِّ والطُمَأنينَةِ مَعَ النِساءِ، ورَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ والمؤمِنونَ مَعَهُ في الجِهادِ، واللهِ لَنُوثِقَنَّ أَنْفُسَنا بالسَواري فَلا نُطْلِقُها حَتى يَكونَ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، هُو الذي يُطْلِقُنا ويَعْذُرُنا، فانْطَلَقَ أَبو لُبابَةَ فأَوْثَقَ نَفْسَهُ ورَجُلان مَعَهُ بِسَواري المَسْجِدِ وبَقيَ ثَلاثةٌ لم يُوثِقوا أَنْفُسَهم، فَرَجَعَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، مِنْ غَزْوَتِهِ وكانَ طَريقَهُ في المَسْجِدِ، فَمَرَّ عَلَيْهم فقالَ: مَنْ هؤلاءِ المُوثِقونَ أَنْفُسَهُم بالسَواري؟ فقالَ رَجُلٌ: هذا أَبو لُبابَةَ وصاحِبانِ لَهُ تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْه وسَلَّمَ، فعاهَدوا اللهَ لا يُطْلِقونَ أَنفُسَهم حَتى تَكونَ أَنْت الذي تُطْلِقُهُم وتَرْضَى عَنْهم، وقَدِ اعْتَرَفوا بِذُنوبِهم. فقالَ: واللهِ لا أُطْلِقُهم حَتى أُؤْمَرَ بإطْلاقِهِم، ولا أَعْذُرُهم حَتى يَكونَ اللهُ يَعْذُرُهم، وقَدْ تَخَلَّفوا، ورَغِبوا عَنِ المُسْلِمينَ بِأَنْفُسِهم وجِهادِهم، فأَنْزَلَ اللهُ تَعالى "وآخَرونَ اعْتَرَفوا بِذُنوبِهم".
وعَسى مِنَ اللهِ واجِبٌ، فلَمَّا نَزَلَتِ الآيةُ أَطْلَقَهم رسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ، وعَذَرَهم، فانْطَلَقَ أَبو لُبابَةَ وصاحِباهُ بِأَمْوالِهم، فأَتَوْا بها رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فقالوا: خُذْ مِنْ أَمْوالِنا فَتَصَدَّقْ بها عَنَّا وَصَلِّ عَلَيْنا. يَقولونَ: اسْتَغْفِرْ لَنا وَطَهِّرْنا. فقال: لا آخُذُ مِنْها شَيْئاً حَتّى أُومَرَ بِهِ. فأَنْزَلَ اللهُ {خذ من أموالهم صدقة ...} الآية. قال: وبَقِيَ الثلاثةُ الذين خالَفوا أَبَا لُبابَةَ ولم يَتُوبوا ولم يُذْكُروا بِشَيْءٍ ولم يَنْزِلُ عُذْرَهُم، وضاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بما رَحُبَتْ، وهُمُ الذين قالَ اللهُ فيهم: {وآخَرونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللهِ} الآية: 106. فجَعَلَ النّاسُ يَقولون: هَلَكوا إذا لم يَنْزِلْ لهم عُذْرٌ، وجَعَلَ آخَرونَ يَقولون: عَسى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلََيْهِمْ. فصاروا مُرْجَئين لأَمْرِ اللهِ حتَّى نَزَلَتْ {لقد تابَ اللهُ على النَبِيِّ} الآية : 117. إلى قولِهِ: {وعلى الثلاثة الذين خُلِّفوا} الآية : 118. يَعْني المُرْجَئين لأمْرِ اللهِ، نَزَلَتْ عَلَيْهمُ التَوْبَةُ فَعَمِلوا بها.
قولُهُ تُعالى: {وَآخَرُونَ} عطفَ نَسَقٍ على {منافقون} أَيْ: وممّنْ حَوْلَكم آخَرونَ، أَو وَمِنْ أَهلِ المدينةِ آخَرون. ويجوزُ أَنْ يَكونَ مُبْتَدَأً، و "اعترفوا" صِفَتَه، والخبرَ قولُهُ: "خلطوا". وكلُّ واحِدٍ مخلوطٌ ومخلوطٌ بِهِ، لأنَّ المعنى: خَلَطَ كُلَّ واحدٍ مِنْهُما بالآخَرِ كَقَوْلِكَ: خَلَطْتُ الماءَ واللبَنَ. تريدُ: خَلَطْتُ كلَّ واحِدٍ مِنْهُما بِالآخر، وفيه ما ليس في قولِكَ: خَلَطْتُ الماءَ باللبنِ. لأنَّكَ جَعَلْتُ الماءَ مخلوطاً واللبنَ مخْلوطاً بِهِ. وإذا قلتَهُ بالواوِ "خلطتُ الماءَ واللبَنَ" جَعَلْتَ الماءَ واللبنَ مخلوطَينِ ومخلوطاً بهِما، كأنَّكَ قلتَ: خَلَطْتُ الماءَ باللَّبنِ واللبنَ بالماءِ. ويجوزُ أَنْ يكونَ مِنْ قولهم: "بِعْتُ الشاءَ: شاةً ودرهماً" بمعنى: شاةً بِدِرْهَمٍ. وليستِ الواوُ بمعنى الباءِ، وإنَّما هو تَفسيرُ معنى. وجازَ أَنْ تَقولَ: خَلَطْتُ الحِنْطة والشعيرَ، وخَلَطْتُ الحِنْطَةَ بالشَعير.
قولُهُ: {خَلَطوا عَمَلاً صالحاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} آخَرَ: عطفَ نَسَقٍ على "عملاً". و "عَسَى اللهُ" يَجوزُ أَنْ تَكونَ الجملةُ مُسْتَأْنَفةً، ويجوزُ أَنْ تَكونَ في محلِّ رَفْعٍ خَبَراً لِ "آخَرونَ"، ويَكونُ قولُهُ: "خلطوا" في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ، و "قد" مَعَهُ مُقدَّرةٌ، أيْ: قد خلطوا. فَتَلخَّصَ في "آخرون" أنَّهُ معطوفٌ عَلى "منافقون"، أَوْ مُبْتَدأٌ مخبَّرٌ عَنْهُ بِ "خلطوا" أوْ بالجُمَلَةِ الرَجائِيَّةِ "عسى الله".