أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلامُ الْغُيُوبِ
(78)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} المرادُ بالعِلْمِ هُنا معرفةُ الخبرِ الذي لم يَكُنْ مَعروفاً قبلَ ذَلك. يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى النَّاسَ أَنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَ وَالنَّجْوَى، وَأَنَّهُ أَعْلَمُ بِضَمَائِرِ هَؤُلاَءِ المُنَافِقِينَ الذِينَ يُسِرُّونَ غَيْرَ مَا يُعْلِنُونَ، وَإِنْ أَظْهَرُوا لِلنَّاسِ أَنَّهُمْ إِنْ حَصَلَ لَهُمْ مَالٌ تَصَدَّقُوا وَشَكَرُوا عَلَيْهِ، فَاللهُ أَعْلَمُ بِهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. وللإخبارِ أساليبُ عديدَةٌ: الأوَّلُ منها أنْ يُخْبِرَ المُتَكَلِّمُ المُخاطَبَ بما عِنْدَهُ. كأنْ يقولَ له حَدَثَ كَذا، ورَأَيْتُ كذا، وسمعتُ، وقالَ وقِيلَ .. إلخ. والثاني: أَنْ يجعَلَ المُتَكَلِّمُ المخاطَبَ يقول الخبرَ بنفسِهِ، كقوله: أَلمْ أُحْسِنْ إِلَيْكَ؟ بدلاً من أَنْ يَقولَ له: أَنَا أَحْسَنْتُ إليكَ، فيُعْطِي بذلك للخَبرِ قُوَّةً بجعلِ الكلامِ مِنَ المُسْتَفهَمِ مِنْهُ، لثِقَتِهِ في أَنَّ المُخاطَبَ لَنْ يَجْدَ إلاَّ جَواباً واحداً هُوَ: نَعَمْ أَحْسَنْتَ إليَّ. فالخبرُ إمَّا أَنْ يَكونَ مجرَّداً عَنِ النَفْيِ، أَوْ معَ النَفيِ، أَوْ معَ الاستفهام. وأَقوى أَنْواعِ الإخْبارِ: الخبرُ معَ النَفْيِ، ومعَ النفيِ استفهامٌ؛ لأنَّ الخبرَ مِنَ المُتَكَلَِّمِ قابلٌ لأَنْ يَكونَ صادقاً، وأَنْ يكونَ كاذباً. ولكنَّ الاسْتِفْهامَ يَقْتَضي جَواباً مِن المخاطَب، ولا يجيب المخاطَبُ إلاَّ بما كانَ في نَفْسِ المُتَكَلِّمِ؛ ولو كان المتكلِّمُ يَعلَمُ أَنَّ المُخاطَبَ قدْ يُنْكِرُ فَلنْ يَسْأَلَهٌ. فالكلامُ تقريرٌ عَنِ المُخاطبينَ لأنَّ كونهم عالمينَ بِذلِكَ مَعروفٌ لَدى كُلِّ سامعٍ. و "سِرَّهُمْ" أيْ: مَا أَسَرُّوهُ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنَ النِّفَاقِ. والسِرُّ هو ما يُخفيهِ المَرْءُ مِنَ كَلامٍ وما يُضْمِرُهُ في نَفسِهِ فَلا يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النّاسُ. و "نَجْوَاهُمْ" مَا يَتَنَاجَوْنَ بِهِ مْنَ المَطَاعِنِ فِي الدِّينِ. والنَجْوى: المحادَثَةُ بخَفاءٍ، أَيْ: يَعلَمُ ما يُضْمِرونَهُ في أَنْفُسِهم، وما يَتَحادَثونَ بِهِ مِنْ حديثِ سِرٍّ لِئلاَّ يَطَّلِعَ عَليْه غيرُهم. وتَقْديمُ السِرِّ على النَجوَى لأنَّ العِلْمَ بِهِ أَعْظَمٌ، مَعَ ما في تقديمِهِ وتَعْليقِ العِلْمِ بِهِ مِنْ تَعْجيلِ إدْخالِ الرَوْعَةِ أَوْ السُرورِ.
قولُه: {وَأَنَّ اللهَ عَلامُ الْغُيُوبِ} الغيوب: جمعُ غَيْبٍ وهُوَ ما خَفِيَ وغابَ عَنِ العِيانِ. فَكَيْفَ يَكْذِبُونَ عَلَى اللهِ بِمَا يُعَاهِدُونَهُ عَلَيْهِ؟.
وإظهارُ اسْمِ الجَلالَةِ في الموقعين لإلْقاءِ الرَّوعَةِ وتَربِيَةِ المهابةِ، وفي إيراد العلم المتعلّق بِسِرِّهم ونجواهمْ بِصيغَةِ المبالَغِةِ "عَلامُ" الدالِّ على الحُدوثِ والتَجَدُّدِ، والعلمِ المُتَعَلِّقِ بالغُيوبِ الكَثيرةِ الدائمَةِ بِصيغَةِ الاسْمِ الدالِّ على الدَوامِ والمُبالَغَةِ مِنَ الفَخامَةِ والجَزالَةِ ما لا يَخْفى
وفي سببِ نزولِ هذه الآية الكريمة ما وردَ عن مُقاتِلٍ، قال: نَزَلَتْ هذِهِ الآيةُ في أَصْحابِ العَقَبَةِ حينَ همّوا بما لم يَنالوا.
قولُهُ تعالى: {ألم يعلموا أنَّ الله} المصدر المؤوَّلُ من "أنَّ الله" سَدَّ مَسَدَّ مَفْعولَيْ عَلِمَ، والمصدرُ المؤوّلُ الثاني مَعطوفٌ على المَصْدَرِ المُتَقَدِّمِ.
وقرأ الجمهورُ: {يَعْلموا} بالياءِ من تحتِ. وقرأَ عَلِيُّ بْنُ أَبي طالبٍ والحَسَنُ والسُّلَمِيُّ "تعلموا" بالتاءِ من فوق على الخِطابِ الْتِفاتاً للمُؤمنين دونَ المُنافقين.