وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)
قولُهُ ـ تَعالى شَأْنُهُ: {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} وَيُذْهِبَ اللهُ بِنَصْرِكُمْ عَلَى الكَافِرِينَ، مَا فِي قُلُوبِ هَؤُلاَءِ المُؤْمِنِينَ مِنْ غَيْظٍ عَلَى جَمَاعَةِ الكُفْرِ، ويُزِيلَ كَرْبَها وغَمَّها، بِسَبَبِ غَدْرِهِمْ بهم وَظُلْمِهِمْ وَاعْتِدَائِهِمْ عليهم، لأنَّ مَنْ طالَ أَذَى خَصْمِهِ لَهُ. ثمَّ مَكَنَّهُ اللهُ مِنْهُ على أَحَسَنِ الوُجوهِ، يَعُظُمُ سُرورِهِ، ويَفْرَحُ قَلْبُهُ، وترتاحُ نفسُه. والظاهرٌ من عَطْفِ ذَهابِ الغَيْظِ على شفاءِ الصُدورُ، أنهما مختلفان، فشفاءُ الصدورِ يَكونُ بِقَتْلِ الأَعْداءِ وخِزْيِهم، وذَهابُ غَيِظِ القلوبِ يكونُ بالنَصْرِ عليهم. وقيلَ: إذْهابُ الغيظِ كالتأْكيدِ لِشِفاءٌ الصدْرِ، ويفيدُ المُبالَغَةَ في جعلِهم مَسْرورينَ بما يعذِّبُ اللهُ بِهِ أَعداءهم، ونُصرتِهِ لهم عليهم. ولعلَّ إذْهابَ الغيظِ مِنَ القَلْبِ أَبْلَغُ، فيَكونُ ذِكْرُهُ منْ بابِ التَرَقِّي.
والمؤمنون المقصودون بهذه الآية هم بنو خزاعةَ لما أَخْرَجَ أَبو الشيخِ عَنْ قَتادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: "ويُذْهِبُ غيظَ قُلوبهم" ذُكِرَ لَنا أَنَّ هذِهِ الآيَة نَزَلَتْ في خُزاعَةَ حين جَعَلوا يَقْتُلونَ بَني بَكْرٍ بِمَكَّةَ. وأخرجَ أبو حاتمٍ أيضاً عن عِكْرِمَةَ ـ رضي اللهُ عنه، أَنَّهم: خُزاعَةُ.
قولُه: {وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} أَيْ: ويَتُوبُ اللهُ على مَنْ يَشاءُ أَنْ يَتوبَ عليْهِ مِن عِبادِهِ فيُوفِّقُهُ للإيمانِ، ويَشْرَحُ صَدْرَهُ للإسلامِ، وَيَتَقَبَّلَهُ مِنْهُمْ، وهوَ كلامٌ مُسْتَأْنَفٌ يُنْبئُ عَمّا سَيَكونُ مِنْ إسلامِ بَعْضِ أَهلِ مَكَّةَ مِنَ التَوْبَةِ المَقبولَةِ بحَسَبِ مَشيئَتِهِ المَبْنِيَّةِ على الحِكَمِ البالِغَةِ، وبَيانٌ لِشُمولِ قُدْرَةِ الله تَعالى، وواسِعِ رَحمتِهِ، وبالغِ حِكْمَتِهِ فكانَ أَنْ أَسْلَمَ أُناسٌ كثيرونَ مِنْهم وحَسُنَ إِسْلامُهُم.
قولُهُ: {وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} وَاللهُ عَلِيمٌ بِسائرِ شُؤونِ خَلْقِهِ، وبِمَا يُصْلِحُ عِبَادَهُ، حَكِيمٌ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وسائرِ تَصَرُّفاتِهِ، فامْتَثِلوا أَمْرَهُ، واجَْتَنِبوا نهيَهُ، لِتَنالوا رضاهُ وإسعادَهُ في الدنيا والآخرة.
وهذه الآيةُ الكريمةُ دليلٌ على كوْنِ الصَحابَةِ ـ رضوانُ اللهِ عليهم، مؤمنين صادقين في عِلْمِ اللهِ تعالى؛ لأنَّهُ مطّلعٌ على أَنَّ قُلوبهم كانَتْ ممْلوءَةً غَضَباً وحميةً مِنْ أَجْلِ دينِهِ، وهي شديدةُ الرَغْبَةِ في عُلُوِّ شأنِ هذا الدين، وهذِهِ الأَحوالُ لا تكونُ إلاَّ في قلوبِ المؤمنين الصادقين.
وهذه إحدى المُعجزاتِ، لأنَّهُ إخبارٌ بالغيبِ منه ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ، عنْ أَحْوالِ هذِهِ القلوبِ وما تنطوي عليه، هذا من جهة، ولأنّهُ قَدْ وقعَ ما أَخْبرَ اللهُ عَنْهُ، فقَدِ انْتَصَرَ المؤمِنونَ، وأَسْلَمَ كثيرٌ مِنَ المُشْرِكينَ، من جِهَةٍ ثانيَةٍ.
قولًهً تَعالى: {وَيُذْهِبْ} الجمهورُ على ضمِّ الياءِ وكسرِ الهاءِ مِنْ أَذْهَبَ. و "غَيْظ" مفعولٌ بِهِ. وقرأت طائفةٌ: "ويَذْهَبْ" بفتحِ الياءِ والهاءِ، جَعَله مضارعاً لِذَهَبَ، "غيظ" فاعل بِهِ. وقرأَ زيدُ بْنُ عَلِيٍّ كذلك، إلاَّ أَنَّهُ رَفَعَ الفِعْلَ مُسْتَأْنِفاً ولم يَنْسُقْهُ على المجْزومِ قبلَه، كما قرؤوا: "ويتوبُ" بالرَفْعِ عِنَدَ الجُمهورِ. وقرأَ زَيْدُ بْنُ عليٍّ، والأعرجُ، وابْنُ أَبي إسْحاقَ، وعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، وعَمْرُو بْنُ فائد، وعيسى الثقفي، وأبو عَمْرٍو في روايةٍ، ويعقوبُ: "ويتوبَ" بالنصب.
فأمَّا قراءةُ الجمهورِ فإنها استئنافُ إخبارٍ، وكذلك وقع فإنَّه قد أَسْلَمَ ناسٌ كثيرون. قالَ الزَجَّاجُ وأَبُو الفَتْحِ: وهذا أمرٌ موجودٌ سواءً قوتلوا أم يُقاتَلوا، ولا وَجْهَ لإِدخالِ التوبةِ في جوابِ الشَرْطِ الذي في "قاتِلوهم". يَعْنيان بالشَرْطِ ما فُهِمَ مِنَ الجُمْلَةِ الأَمْرِيَّةِ.
وأَمَّا قِراءَةُ زَيْدٍ وَمَنْ ذُكِر مَعَهُ، فإنَّ التوبةَ تَكونُ داخلةً في جوابِ الأَمْرِ مِنْ طَريقِ المعنى. وفي توجيهِ ذلك غموضٌ: فقالَ بعضُهم: إنَّه لمَّا أَمَرَهُمْ بالمُقاتَلَةِ شَقَّ ذلك على بعضِهم، فإذا أَقْدَموا على المقاتلةِ، صار ذلك العملُ جارياً مَجْرى التوبةِ مِنْ تِلْكَ الكَراهَةِ. فيَصيرُ المعنى: إنْ تُقاتلوهم يُعَذِّبْهم ويَتُبْ عَليكم مِنْ تلكَ الكَراهةِ لِقِتالهم. وقالَ آخرون في توجيهِ ذلك: إنَّ حصولَ الظَفَرِ وكَثْرةِ الأَمْوالِ لَذَّةٌ تُطْلَبُ بِطَريقٍ حَرامٍ، فلمَّا حَصَلَتْ لهم بطريقٍ حلالٍ، كانَ ذلك داعياً لهم إلى التوبةِ ممَّا تَقَدَّمَ، فصارتِ التَوْبَةُ مُعَلَّقةً على المُقاتَلَةِ. وقال ابْنُ عطيَّةَ في توجيهِ ذلك أيضاً: يتوجَّهُ ذلك عندي إذا ذُهِب إلى أَنَّ التوبةَ يُرادُ بها هنا أَنَّ قَتْلَ الكافرين والجِهادَ في سبيلِ اللهِ هُوَ تَوْبةٌ لَكُمْ أيُّها المُؤْمنونَ وكَمالٌ لإِيمانِكم، فتَدْخُلُ التَوْبَةُ على هذا في شَرْطِ القِتالِ.
قالَ الشَيْخُ أبو حيّان: وهذا الذي قدَّرَهُ مِنْ كونِ التوبةِ تَدْخُلُ تحتَ جَوابِ الأَمْرِ، وهوَ بالنِسْبَةِ للمُؤمنينَ الذينَ أُمِرُوا بِقِتالِ الكُفَّارِ. والذي يَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ بالنِسْبَةِ إلى الكُفَّارِ، والمعنى: على مَنْ يَشاءُ مِنَ الكُفَّارِ، لأَنَّ قِتالَ الكُفّارِ وغَلَبَةَ المُسْلِمين إيَّاهم، قَدْ يَكونُ سَبَباً لإِسْلامِ كَثيرٍ. أَلا تَرى إلى فتحِ مَكَّةَ كَيْفَ أَسْلَمَ لأَجْلِهِ ناسٌ كثيرون، وحَسُنَ إسلامُ بَعضِهم جِدّاً، كابْنِ أَبي سَرْحٍ وغيرِهِ. وهذا تَوجيهٌ رابعٌ، فيَصيرُ المعنى: إنْ تُقاتلوهم يَتُبِ اللهُ على مَنْ يَشاءُ مِنْ الكُفَّارِ، أَيْ: يُسْلِمُ مَنْ شاءَ مِنْهم.