َأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ
(77)
قولُهُ تعالى شأنًه: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} فَأَعْقَبَهُمْ نفاقاً: جَعَلَ عاقبتَهم نِفاقاً، وفيه دليلٌ على أَنَّ الذي عاهدَ لم يَكُنْ مُنافَقاً مِنْ قَبْلُ. ويُقالُ: أَعْقَبَتْ فُلاناً نَدامَةٌ إذا صُيِّرَتْ عاقبةُ أَمْرِهِ كذَلِكَ. ومِنْ ذَلِكَ قولُ الهُذَليِّ:
أَوْدَى بَنيَّ وأَعقبوني حَسْرَةً ................. بَعْدَ الرُقادِ وعَبرَةً لا تُقْلِعُ
فَقد كَانَتْ عَاقِبَةُ ذَلِكَ البُخْلِ وَالتَّوَلِي بَعْدَ العَهْدِ وَالْمِيثَاقِ أَنْ تَمَكَّنَ النِّفَاقُ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَلاَزَمَهَا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، لأَنَّهُمْ لاَ رَجَاءَ لَهُمْ فِي التَّوْبَةِ مَعْ هَذَا النِّفَاقِ، و "نفاقاً" يُحتَمَلُ أَنْ يَكونَ المرادُ بِهِ نَفاقَ مَعْصِيَةٍ وقِلَّةِ اسْتِقامَةٍ، فيَكونُ تقريرُهُ صَحيحاً، ويَكونُ تُرِكَ في أَوَّلِ الزَكاةِ عِقاباً لَهُ ونَكالاً.
وقد تقدَّمَ نحوُ هذا آنِفاً مما رُوي عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزيزِ، الخليفةِ الراشِدِ الخامِسِ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّ عامِلاً كَتَبَ إليه بأَنَّ فُلاناً يَمْنَعُ الزَكاةَ، فَكَتَبَ إليْهِ عُمَرُ: أَنْ دَعْهُ واجْعَلْ عقوبَتَهُ أَنْ لا يُؤدِّي الزَكاةَ مَعَ المُسلمينَ، يُريدُ لما يَلحَقُهُ مِنَ المَقْتِ في ذلك.
والنِفاقُ نفاقان: نِفاقُ اعتقادٍ فيُظْهِرُ الإيمانَ ويُبْطِنُ الكُفْرَ، وهذا الأَخْطرُ مِنَ الكُفْرِ، كَنِفاقِ عَبْدِ اللهِ ابْنِ أُبيٍّ بْنِ سَلُولٍ وأَصحابِهِ في عَهْدِ رسولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم، وصاحبُ هذا النفاقِ هُوَ الأَشَدُّ عَذَاباً يَومَ القِيامةِ. فهُمْ في الدَرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ كما قالَ تَعالى في سُورَةِ النِساءِ: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} الآية: 145. وقد فَصَّلْنا في ذلك هناكَ بِأَوْسَعَ مِنْ هَذا، والنِفاقُ الثاني هو نفاقٌ في العَملِ والمَعصيَةِ مَعَ الإيمانِ، وصاحِبُ هذا النَوْعِ يُرْجى لَهُ دُخولُ الجنَّةَ بعدَ العَفْوِ مِنَ اللهِ تَعالى أَوِ التَطْهيرِ بالنارِ، وقدْ ذُكِرَتْ في الحديثِ الشَريفِ أَوْصافُ المُنافِقينَ، ومِنْ ذَلِكَ ما أَخْرَجَ الأئمَّةُ: البُخاريُّ، ومَسْلِمٌ، وأَبو داوودَ، والتِرْمِذِيُّ، والنَسائيُّ، عَنْ عبدِ اللهِ ابْنِ عَمْرٍو بْنِ العاصِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، عَنِ النَبيِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ: ((أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقاً خَالِصاً، وَمَنْ كَانتْ فيه وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خصلَةٌ مِن النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إذا ائتُمِنَ خَانَ، وَإذَا حدَّث كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإذَا خَاصَم فَجرَ)). وفي رَوايَةٍ أُخْرى للبخاريِّ ذَكَرَ ((ثلاثٌ مَنْ كُنَّ فيه ..))، ويَظْهَرُ مِنْ مَذْهَبِ البُخارِيِّ وغيرِه مِنْ أَهلِ العِلْمِ أَنَّ هَذِهِ الخِلالَ الذَميمَةَ مُنافقٌ مَنِ اتَّصَفَ بها إلى يومِ القيامةِ. ورُوِيَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ العاصِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، لمّا حَضَرَتْهُ الوَفاةُ قالَ: زَوِّجوا فُلاناً فإنّي قدْ وَعَدْتُه، لا أَلْقى اللهَ بِثُلثِ النِفاقِ. وهذا ظاهرُ كلامِ الحَسَنِ بْنِ أَبي الحَسَنِ. وقال عطاءُ بْنُ أَبي رَباحٍ: قدْ فَعَلَ هَذِهِ الخِلالَ إِخْوَةُ يُوسُفَ ولم يَكونوا مُنافِقينَ بَلْ كانوا أَنْبياءَ. وهذِهِ الأَحاديثُ إنَّما هيَ في المُنافقين في عَصْرِ النَبيِّ ـ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، الذينَ شَهِدَ اللهُ عَلَيْهم، وهذِهِ هِيَ الخِصالُ في سائرِ الأُمَّةِ مَعاصٍ لا نِفاقٌ. وقد كانَتْ هذه المعاصي مَعَ التَوْحيدِ والإيمانِ بِمُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، معاصٍ لَكِنَّها مِنْ قَبيلِ النِفاقِ اللُّغَوِيِّ العمليِّ وليس العَقَدِيِّ.
و "إلى يومِ يلقونَه" أي: فأعقبهم نفاقاً، ثَبَتُوا عليه إلى المَماتِ، وهو معنى قولِهِ: "إلى يوم يلقونه". لأنَّ الموتَ لِقاءُ اللهِ كَما في الحديثِ الشريف: ((مَنْ أَحَبَّ لِقاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لِقاءَهُ))، أخرجه أَحمدُ والنَسائيُّ وغيرُهما عَنْ أَنَسٍ ـ رضي اللهُ عنه. وفَسَّرَهُ بأنَّه محبَّةٌ تَعْرُضُ للمُؤمِنِ عِنْدَ الاحْتِضارِ. ويجوزُ أنْ يكونَ المقصودُ ب "يومِ يَلقونَهُ" يَوْمَ الحَشْرِ لأنَّه يَومُ لِقاءِ اللهِ تعالى للحِسابِ والجزاءِ.
قولُهُ: {بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} وتلكَ العقوبةُ السابقةُ إنّما كانت لِتَمَكُّنِ صِفَتَيْنِ مِنْ صِفَاتِ أَهْلِ النِّفَاقِ فِي قُلُوبِهِمْ وَهُمَا: الكَذِبَ فِي اليَمِينِ، وَإِخْلاَفُ الْعَهْدِ. أَيْ جَعَلَ اللهُ عاقبةَ فِعْلِهم ذَلِكَ "نِفَاقاً" راسِخاً "فِي قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ" إلى يَوْمِ مَوْتِهمُ الذي يَلْقَوْنَ اللهَ تَعالى عِنْدَهُ أَوْ يَلْقَونَ فيه جَزاءَ عَمَلِهم، وهوَ يَومُ القيامة، وقيلَ: فأَوْرَثَهُمُ البُخْلُ نِفاقاً مُتَمَكِّناً في قلوبهم ولا يُلائمُ ذلك قولَهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ: "بِمَا أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ" أَيْ بِسبَبِ إخْلافِهم ما وَعَدوهُ تَعالى مِنَ التَصَدُّقِ والصَلاحِ. وقيلَ لقد كانَ العَهْدُ المذكورُ في الآية: 75. السابقةِ، الذي عاهَدَ اللهَ عَليْه هؤلاءِ المُنافقونَ شَيْئاً نَوَوْهُ في أَنْفُسِهم ولم يَتَكَلَّموا به. فيُحتَمَلُ أَنْ يَكونَ ذَلكَ مِنَ اللهِ تَعالى، ويُحتَمَلُ أَنْ يَكونَ بعضُ المعاصي داعياً إلى بَعْضٍ، فكأَنَّ البُخْلَ أَعْقبَ النِفاقَ. وأَبانَ بِهِ أَنَّ بعضَ الأفعالِ قد تَكونُ فَساداً في بَعْضٍ، كما أنَّ بعضَها قد يكونُ لُطْفاً في بَعْضٍ. و "وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ" أَيْ: وبِكَونِهم مُسْتَمِرِّينَ عَلى الكَذِبِ في جميعِ مقالاتِهم التي مِنْ جُمْلَتِها وعْدُهُمُ المَذكُورُ.
والجمعُ بينَ صِيغَتَي الماضي والمضارِعِ "أعقبهم" و "يلقونه" للإيذان بالاستمرارِ، أَيْ بِسبَبِ اخْلافِهم ما وَعدوه مِنَ التَصَدُّقِ والصَلاحِ، وبِسَبَبِ كونهم مُسْتَمِرِّينَ على الكَذِبِ في جميعِ مقالاتهم والتي مِنْ جملَتِها وَعْدُهُمُ المَذْكورُ. والمقصودُ تحذير المُسْلِمِ مِنْ أَنْ يَعْتَادَ هذِهِ الخِصالَ. وبالجلمة يجِبُ على المؤمِنِ اجْتِنابُها فإنها في غايَةِ القُبْحِ عِنْدَ ذَوي الكَمالِ، قالَ أَبو تَمَّامٍ الطائيُّ في هَجاءِ ابْنَ الأَعْمَشِ:
مَسَاوٍ لَوْ قُسِمْنَ عَلى الغَواني ................... لمَا أُمْهِرْنَ إلاَّ بالطَلاقِ
وهو مِنْ أَحْسَنِ ما قِيلَ في ذمِّ القُبْحِ، وقبلَهُ:
فصًفْرَةُ وَجْهِهِ مِنْ غيرِ سُقْمٍ ................. تَنِمُّ عنِ الشَّقِي بِما يُلاقي
قَبُحْتَ وزِدْتَ فَوْقَ القُبْحِ حَتّى .......... كأَنَّكِ قَدْ خَلِقْتَ مِنَ الفِراقِ
مَسَاوٍ لَوْ قُسِمْنَ عَلى الغَواني ................... لمَا أُمْهِرْنَ إلاَّ بالطَلاقِ
قولُهُ تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا في قُلوبهم} الفاء للتفريع، و "أَعْقَبَهُمْ" الهاءُ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ نَصْبِ مَفعولٍ بِهِ أوَّلَ، و "نفاقاً" مَفْعولٌ بِهِ ثانٍ، و "في قلوبهم" الجارُّ مُتَعَلِّقٌ بِنَعْتٍ ل "نفاقاً". تقديره: راسخاً أو ثابتاً في قلوبهم.
قولُهُ: {إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} الجارُّ في "إلى يوم" مُتَعَلِّقٌ ب "أَعقَبَهم"، وجملةُ: "يلقونه" في محلِّ جرِّ مضافٍ إليْهِ.
قولُهُ: {بِمَا أَخْلَفُواْ اللهَ ما وعدوه} الباءُ حرفُ جرٍّ للسَبَبِيَّةِ أَوْ للتَعْليلِ، أَيْ بِسَبَبِ إخْلافِهم وَعْدَ رَبِّهم وبسببِ كَذِبِهم. و "ما" مصْدَرِيَّةٌ، والمَصدَرُ المُؤَوَّلُ بعدَها في محلِّ جرٍّ بالباءِ أيْ "بإخلافِهم". ولفظُ الجلالةِ "الله" في محلِّ نَصْبٍ مفعولاً أَوَّلَ، و "ما" الثانية اسْم موصولٌ بمعنى الذي، في محلِّ نصب المَفْعولِ بِه الثاني لِ "أَخْلَفوا". وجملةُ "أخلفوا" صِلَةُ المَوْصولِ الحَرْفيِّ.
قولُهُ: {وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} بما: معطوفةٌ على سابقتها وإعرابها كإعرابِ سابقتها، وتعلَّق المصدرُ، بما تعلق به سابقُه. وعبّرَ عَنْ كذِبهم بِصيغَةِ "كَانُوا يَكْذِبُونَ" لِدِلالَةِ "كان" على أَنَّ الكَذِبَ كائنٌ فيهم ومُتَمَكِّنٌ مِنْهم، ودَلالةُ المُضارِعُ على تَكَرُّرِهِ وتَجَدُّدِهِ.
قرَأَ الجُمهورُ: {يَكْذِبونَ} بِتَخْفيفِ الذَلِ، وقرَأَ أَبو رَجاء: "يُكَذِّبونَ" بتشديدِه مُثَقَّلاً.