قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ
(14)
قولُهُ ـ تعالى شأْنُهُ: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ} هو أمرٌ جَازْمٌ بالقِتالِ، يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى فيه المُؤْمِنِينَ بِقِتَالِ الكُفَّارِ، وَيَقُولُ لَهُمْ إِنَّهُ تَعَالَى سَيُعَذِّبُهُمْ بِأَيْدِي المُؤْمِنِينَ، وَيُمَكِّنُ المُؤْمِنِينَ مِنْ رِقَابِهِمْ، وهذا الأمرُ مُقْتَرِنٌ بِوَعْدٍ أَكيدٍ يَتَضَمَّنُ إذْلالَهم والنُصْرَةَ عليهم والظفرَ بهم. و "يُعذِّبُهُم" أي بالقَتْلِ والأَسْرِ، والجراحاتِ، وفِقْدانِ الأموالِ التي ستُصبحُ غنيمةً للمسلمين، وذهابِ الهيْبَةِ التي كانَتْ لهم بينَ القبائلِ العربيَّةِ، كونَهم سَدَنَةَ الكَعْبَةِ المُشَرَّفَةِ، وحماةَ البَيْتِ الحَرامِ الذي يَحُجُّ إليْهِ العَرْبُ جميعاً ويُقَدِّسُونَهُ. وذلكَ العذابُ كُلُّه لهم إنَّما سَيَكونُ بأَيدي المؤمنين الذين كانوا يحتَقِرونهم لِضَعْفِهم وفَقْرِهم، ومِنْهمْ مَنْ كان مِنْ عَبيدِهِم ومواليهم، وهذا كلُّه مِنْ أَشَدِّ العذابِ وأَشَقِّ الحِسابِ، وأَسْوأِ العِقابِ.
قولُهُ: {وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِم} مَعناه يُذِلُّهم بِذُنوبهم وما قدَّمتْ أَيديهِم، فالخِزيُ هُوَ الذُلُّ سواءً كان بِسَبَبِ وَقَوعِ الرَّجلُ في العارٍ بِنِفْسِه، أَوْ أنَّ غيرَهُ أَذَلَّهُ وأَخْزاهُ، ويُقالَ خَزِيَ الرجُلُ خِزايَةً وخزياً أيضاً إذا اسْتَحْيا. و "ينصُرْكم عليهم" أي سَيَكونُ للمؤمنين النَصرُ مِنَ اللهِ على هؤلاء المشركين، وقد يَتَبادَرُ إلى الذِهْنِ أَنَّ مِنَ الطَبيعيّ أَنَّ الهزِيمةَ خِزْيٌ، وطالما أَنَّ هناك مَهْزومٌ إذاً فإنّه سيكون في مقابلِهِ مُنْتَصِرٌ، فلِماذا قالَ "وينصرُكم عليهم"؟، لأنَّهُ يَبْدو وكأنَّهُ تَكرارٌ أَوْ تحصيلُ حاصِلٍ. وليسَ الأمرُ كذلك، فقدْ يَنْهَزِمُ طَرَفٌ ولا يَسْتَطيعُ عدوُّه أَنْ يَسْتَثْمِرَ نَصْرَهُ أو يفرح به، بِسَبَبِ ما لَحِقَ بِهِ مِنْ جِراحاتٍ وفادحِ الخسائرِ، التي قد تُعادِلُ خسائرَ عَدُوِّهِ أَوْ تَفُوقُها، كما حَدَثَ مع المسلمين في غزوةِ أُحُدٍ مثلاً. فصَحيحٌ أَنَّهم انْتَصَروا في النِهايَةِ وانْهَزَمَ عَدُوُّهم في النهايةِ، لكنَّ المُسْلِمين كانوا قَدْ خَسِروا الكَثيرَ وفقدوا العديدَ من الشهداءِ وعلى رَأْسِهم عَمُّ النَبيِّ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم، حمزُةُ بْنُ عبدِ المُطَّلِبِ ـ رُضْوانُ الله عليه، فَلَمْ يَفْرَحُوا بهزيمة عَدُوِّهم، بلَّ عمَّ المدينة البكاءَ على قتلاهم، ولأَنَّ الجِراحَ قَدْ كانت قد أَسْخَنَتْهم، لذلكَ فإنَّ قولَهُ: "ويَنْصُرْكم عليهم"، يَعني أَنَّكُم سَتَفْرحونَ بِنَصْرِ اللهِ لكم لِقِلَّةِ خَسائرِكِمْ في مُقابِلِ خَسائرِ العَدُوِّ، سَواءً لِجِهَةِ الضَحايا القَليلَةِ والتضحيات، أَوْ لجهة الغنائمِ الوفيرةِ، أو لجهة نتائج المعركة، وهذه المعاني كلُّها قَدْ أَفادَها ذِكْرُ نَصْرِ الله للمؤمنين، بعد خِزْيِ المشركين.
قولُهُ: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} وَيَشْفِي صُدُورَ قَوْمٍ اعْتَدَى الكَافِرُونَ عَلَيْهِم، مِثْلِ خُزَاعَة، وَالمُسْتَضْعَفِينَ فِي مَكَّةَ الذِينَ لَمْ يَسْتَطِيعُوا اللِّحَاقَ بِإِخْوَانِهِم المُؤْمِنِينَ إلى دَارِ الهِجْرَةِ. وقولُهُ: "قومٍ مُؤمِنينَ" شَهادةً للمُخاطَبينَ بالإِيمانِ، فهُوَ مِنْ بابِ الالْتِفاتِ وإقامَةِ الظَاهِرِ مُقامِ المُضْمَرِ، حيث لم يَقُل: صدوركم. أَخْرَجَ ابْنُ أبي حاتمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ في قولِهِ: ويُخْزِهم ويَنْصُرْكُمْ عَلَيْهم قال: نَزَلَتْ في خُزاعَةَ، قولُهُ تَعالى ويَشْفِ صُدورَ قَوْمٍ مُؤمنين.
قولُهُ تعالى: {قاتلوهم يعذِّبهم} قاتلوهم: فعل أَمْرٍ، و "يعذبهم" فعل مضارع مجزوم؛ لأنَّه جوابُ شرطٍ مُقدرٍ ومَفعولُه.
قرأَ الجُمهورُ: {يَشْفِ} بياءِ الغَيْبَة رَدَّاً على اسْمِ اللهِ تَعالى. وقرأَ زَيْدُ ابْنُ عليٍّ: "نَشْفِ" بالنون وهو التفاتُّ حَسَنٌ.