ولَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ
(47)
قولُهُ ـ تعالى جَدُّهُ: {ولَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} أيْ: لو خَرَجوا في جَيْشِكم وفي جمعِكم. وقيلَ: "في" بمعنى "مع"، أَيْ: لو خَرَجوا مَعَكم. و "خَبَالاً" أَيْ: شَرّاً وَفَسَاداً، أَوْ عَجْزاً وَضَعْفاً، والخبالُ هو الفَسادُ في الرأيِ والتدبير.
يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى فِيِ هَذِهِ الآيَةِ أَسْبَابَ كَرَاهِيَتِهِ خُرُوجَ هَؤُلاَءِ المُنَافِقِينَ إِلَى الجِهَادِ مَعَ رَسُولِهِ ـ صلى الله عليه وسَلَّمَ، لأَنَّهُمْ لو خَرَجُوا مَعَ المُسْلِمِينَ لأَحْدَثوا فيهُمُ الضعفَ والاضْطِرَابَ بين صفوفهم، وذلك لأَنَّهُمْ جُبَنَاءُ مَخْذُولُونَ،
قولُهُ: {وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} أيْ: ولأَسْرَعُوا بِالسَّعْيِ بَيْنَكُمْ بِالدَّسائسِ، وَإِثَارَةِ الْفِتْنَةِ وَالوَقِيعَةِ، وَلسعوا بالنَّمِيمَةِ لإِفْسَادِ مَا بَيْنَ المُسْلِمِينَ مِنْ رَوَابِطِ الأُخُوَّةِ. يُقالُ: والإيضاعُ: الإسراع، فوَضَعَتِ الناقةُ تَضَعُ: أَسْرعت، وأَوْضَعْتُها، إذا جَعَلتُها تُسْرِعُ. ومنه أَوْضَعَ البعيرُ، أَيْ: أَسْرَعَ في سَيْرِهِ كما في قولِ امرُئِ القيس:
أَرانا مُوضِعينَ لأَِمْرِ غَيْبٍ ................. ونُسْحَرُ بالطَعامِ وبالشرابِ
وقال دريد بن الصِّمَّةِ في يوم غزوة حنين، وكان يومئذٍ شيخاً كبيراً: منهوك الرجز
يا لَيْتَني فيها جَذَعْ ................................ أَخُبُّ فيها وأَضَعْ
والخِلالُ: جمعُ خَلَلٍ، وهُوَ الفُرْجَةُ بَينَ الشيئين، ويُسْتَعارُ في المعاني فيُقالُ: هذا أَمْرٌ فيه خَلَلٌ.
قولُهُ: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} وَالسبُبُ في نجاحِهِم فيما يَرْمونَ إليْهِ وُجودُ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَى قَوْلِهِمْ، ويَتَأَثَّرُ بِهِمْ، مِنْ ضِعَافِ الإِيمَانِ، وَضِعَافِ العَزَائِمِ، بَيْنَ المُسْلِمِينَ، فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى وُقُوعِ الشَّرِّ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ.
قولُه: {وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} وَاللهُ يَعْلَمُ الظَّالِمِينَ، وَمَا يُبَيِّتُونَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ لَوْ خَرَجُوا مَعَهُمْ إِلَى الغَزَاةِ. وهذا تذييلٌ قُصِدَ منه إعلامُ المسلمين بأنَّ اللهَ يَعلمُ أَحوالَ المنافقين الظالمين ليكونوا منهم على حذر، وليتوسموا فيهم ما وسمهم القرآن به، وليعلموا أن الاستماع لهم هو ضرب من الظلم.
والظلم هنا الكفر والشرك لقولِه تعالى في سورة لقمان: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} الآية: 13.
وجاء في أَسْبابِ النُزولِ ما أخرج الشيخُ الواحِدِيُّ عَنِ السُدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رسول اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، لما خَرَجَ عَسْكَرُهُ على ثِنْيَةِ الوَداعِ، وضَرَبَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبيِّ بْنِ سَلولٍ عَسْكَرُهُ على ذِي حده أَسْفَلَ مِنْ ثِنْيَةِ الوَداعِ ولم يَكُنْ بِأَقَلِّ العَسْكَريْن، فلَمَّا سارَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، تَخَلَّفَ عَنْهُ عبدُ اللهِ ابْنُ أُبيٍّ بمَنْ تَخَلَّفَ مِنَ المُنافقين وأَهْلِ الرِيَبِ، فأَنْزَلَ اللهُ تَعالى يُعَزِّي نَبِيَّهُ: "لَو خَرَجوا فيكُم مّا زادُوكُم إِلاَّ خبالاَ".
قولُهُ تعالى: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم} هذه الجُملةُ اسْتِئْنافٌ بيانيٌّ لجُمْلَةِ {كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} مِنَ الآيَةِ السابِقَةِ لِبَيانِ الحِكْمَةِ مِنْ كَراهِيَةِ اللهِ انْبِعاثَهم، وهيَ إرادةُ اللهِ سَلامَةَ المُسْلِمينَ مِنْ إضْرارِ وُجودِ هؤلاءِ المنافقينَ بَينَهم، لأَنَّهم كانوا يُضْمِرون للمسلِمين المَكْرَ بهم وخَديعتَهم فيما لو أنَّهم خَرَجوا للغَزْوِ مُرْغَمين.
وقولُهُ: {ما زادوكم إِلاَّ خَبَالاً} الكافُ مفعولٌ "زاد" الأوَّلُ والثاني محذوفٌ تقديرُه: شيئاً، و "خَبالاً" منصوبٌ على الاستثناءِ ب "إلاَّ". وجَوَّزوا في هذا الاسْتِثْناءِ أَنْ يَكونَ مُتَّصِلاً وهُو مُفَرَّغٌ؛ لأََنَّ "زاد" يَتَعَدَّى لاثْنَينِ. قالَ الزَمَخْشَرِيُّ: المُسْتَثْنى مِنْهُ غيرُ مَذْكورٍ، فالاسْتِثْناءُ مِنْ أَعَمِّ العامِّ الذي هُوَ الشَيْءُ، فكانَ اسْتِثْناءً مُتَّصِلاً، فإنَّ الخَبالَ بَعْضُ أَعَمِّ العامِّ كَأَنَّهُ قِيلَ: ما زَادوكُم شَيْئاً إلاَّ خَبالاً. وجَوَّزُوا فِيهِ أَنْ يَكونَ مُنْقَطِعاً، والمَعْنى: ما زَادوكمْ قُوَّةً ولا شِدَّةً ولكنْ خَبالاً، وهذا يجيءُ على قولِ مَنْ قالَ إنَّه لمْ يَكُنْ في عَسْكرِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، خَبالٌ أبَداً. وفيهِ نَظرٌ؛ لأنَّهُ إذا لم يَكُنْ في العَسْكَرِ خبالٌ أَصْلاً فَكَيْفَ يُسْتَثنى شَيءٌ لمْ يَكُنْ ولم يُتَوَهَّمْ وُجودُهُ؟!
وقالَ بَعْضُهم: هو اسْتِثْناءٌ مَنْقَطِعٌ، أَيْ: ما زادوكم شَيْئاً، لكنْ خَبالاً يُحدِثُونَهُ في عَسْكَرِكم بخُروجِهم. قالَ ذَلكَ لِئلاَّ يَلْزَم أَنَّ الخَبالَ واقعٌ في عَسْكَرِ المُسلِمينَ، لكنَّ خُروجَهمْ يَزيدُ فيه. وفيهِ نَظَرٌ؛ لأنَّ الاسْتِثْناءَ المَفَرَّغَ لا يَكونُ مُنْقَطِعاً، ويمكنُ هُنا أَنْ يَكونَ مُتَّصِلاً؛ لأنَّ غَزْوَةَ تَبوكٍ خَرَجَ فيها كَثيرٌ مِنَ المُنافِقين، فحَصَلَ الخَبالُ، فَلو خَرَجَ هؤلاءِ القاعدون المُسْتَأْذنونَ في التَخَلُّفِ، لَزَادَ الخبالُ بوجودِهم.
قولُهُ: {لأوْضَعوا خِلاَلَكُمْ} مَفعولُ "أَوْضَعُوا" محذوفٌ، أَيْ: أَوْضَعوا رَكائبَهم لأَنَّ الراكِبَ أَسْرَعُ مِنَ الماشي. و "خلالَ" مَنْصوبٌ على الظَرْفِيَّةِ المكانيَّةِ.
قولُهُ: {يَبْغُونَكُمُ الفتنة} الفِتْنَِةَ: مفغولٌ به ل "يبغونَ" والكافُ نَصْبٌ على نَزْعِ الخافِضِ، أَيْ: يَبْغونَ لَكم. والجُمْلَةُ في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ مِنْ فاعِلِ "أََوْضَعوا"، أَيْ: لأَسْرَعوا فيما بَيْنَكم حالَ كونِهم باغينَ، أَيْ: طالِبينَ لَكُمُ الفِتْنةَ.
قولُهُ: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} التَقديرُ: لَوْ خَرَجوا إليْهِمْ فِيكم. أوْ إلى حيْثُ يُريدونَ. و "في" للظَرْفِيَّةِ المَكانِيَّةِ، وتَعَلُّقها بالفِعْلِ مِنْ تَعَلُّقِ الظَرْفِ بِهِ. وجملةُ "وفيكم سماعون" في محلِّ نَصْبِ حالٍ مِنْ فاعِلِ "يبغونكم". ويجوزُ أَنْ تَكونَ مُسْتَأْنَفَةً، والمعنى: أَنَّ فيكم مَنْ يَسْمَعُ لهم ويُصْغِي لقولِهم. ويَجوزُ أَنْ يَكونَ المُرادُ: وفيكم جَواسيسُ مِنْهم يَسْمَعونَ لهم الأَخْبَارَ مِنْكم، فاللامُ على الأَوَّلِ للتَقْوِيَةِ لِكونِ العامِلِ فَرْعاً، وفي الثاني للتَعْليلِ، أيْ: لأَجْلِهم. وجملة: "يبغونكم": حالٌ مِنْ فاعلِ "أَوْضَعُوا".
ورُسِم في المُصْحَفِ "ولا أَوْضَعُوا خلالكم" بِأَلِفٍ بَعْدَ "لا"، قالَ الزَمَخْشَرِيُّ: كانَتِ الفَتْحَةُ تُكْتَبُ أَلِفاً قَبْلَ الخَطِّ العَرَبيِّ، والخَطُّ العَرَبيُّ اخْتُرِعَ قريباً مِنْ نُزولِ القُرآنِ، وقد بَقِيَ مِنْ ذلك أَثَرٌ في الطِباعِ فَكَتَبوا صُورَةَ الهَمْزَةِ أَلِفاً وفَتْحَتَها أَلِفاً أُخْرى، ونحوه في سورة النملِ: {أَوْ لا أَذْبَحَنَّهُ} الآية: 21. يَعْني في زيادةِ أَلِفٍ بَعْدَ "لا"، وهذا لا يجوزُ القِراءَةُ بِهِ، ومَنْ قَرَأَهُ مُتَعَمِّداً يَكْفُرُ.
قرأ العامَّةُ: {ما زادَوكم إلاَّ خَبالاً} وقرأَ ابْنُ أَبي عَبْلَةَ وقرأَ ابْنُ أَبي عَبْلَةَ "ما زادَكم" أيْ: ما زادكم خروجهم.
وقرأَ العامَّةُ" {لأوضَعوا} وقد تقدَّمَ أنَّ معناها "لأسرعوا"، وقَرَأَ مجاهدٌ ومحمَّدُ بْنُ زَيْدٍ: "لأَوْفَضوا" والمعنى هُوَ الإِسراعُ أَيْضاً ومِنْه قولُهُ تعالى في سورةِ المعارج: {إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} الآية: 43، وقَرَأَ ابْنُ الزُبيرِ: "لأَرْفَضُوا" بالراءِ، والفاءُ والضادُ المُعْجَمَةُ مِنْ رَفَضَ رفضاً ورفضاناً، أَيْ: أَسْرَعَ أَيْضاً، ومن ذلك قولُ حَسَّان بْنِ ثابتٍ الأنصاريِّ ـ رضي اللهُ عنْه:
بزجاجةٍ رَفَضَتْ بما في جَوْفِها ........ رَفْضَ القَلوصِ بِرَاكِبٍ مُسْتَعْجِلِ