وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
(3)
قولُهُ ـ تبارك وتعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} أيْ: بَلاَغٌ مِنَ اللهِ تعالى وَرَسُولِهِ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ، وَإِنْذَارٌ إِلَى النَّاسِ وإعلانٌ، يَوْمَ عِيدِ النَّحْرِ لأنَّهُ أَكْبَرُ المَنَاسِكِ، وَمَجْمَعُ النَّاسِ فِي الحَجِّ لِيَصِلَ إِلَيْهِمُ البَلاغُ، وكانَ ذلكَ في السَنَةِ التاسِعَةِ للهِجْرَةِ. و "يومَ الحجِّ الأكبرِ" هُو يَومُ النَحْرِ؛ لأنَّ فيهِ تمامَ الحجِّ ومُعظمَ أَفعالِهِ، ولأَنَّ الإعلامَ كانَ فيهِ. قالَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبي أَوْفى، والمُغيرةُ بْنُ شُعْبَةَ، وسعيدُ بْنُ جُبَيرٍ، والشَعْبِيُّ، والنُخَعِيُّ. لِما رُوِيَ أَنَّهُ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ، وَقَفَ يَومَ النَحْرِ، عَنْدَ الجَمَراتِ، في حَجَّةِ الوداعِ فقال: ((هذا يومُ الحَجِّ الأَكْبَرِ))، وروِيَ عَنْ رَجلٍ مِنَ أصحابِ النَبيِّ، قال: خَطَبَنا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى الله عليْهِ وسَلَّمَ، على ناقتِهِ الحَمراءَ وقال: ((أَتَدْرُونَ أَيَّ يَوْمٍ هَذَا؟ يَوْمُ النَّحْرِ، وَهَذَا يَوْمُ الحَجِّ الأَكْبَرِ)). وأَخْرَجَ البُخارِيُّ تعليقاً، وأَبو داوُدَ، وابْنُ ماجةَ، وابْنُ جَريرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبي حاتمٍ، وأَبو الشَيْخِ، وابْنُ مَردوَيْهِ، وأَبو نُعيمٍ في الحلْيَةِ، عَنِ ابْنِ عُمَرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، أنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، وَقَفَ يومَ النَحْرِ بينَ الجَمَراتِ في الحَجَّةِ التي حَجَّ، فقال: ((أَيُّ يومٍ هذا؟ قالوا: يَوْمُ النَحْرِ. قال: هذا يومُ الحجِّ الأَكْبَرِ)). وأَخْرَجَ البُخارِيُّ، ومُسْلِمٌ، وأبو داوودَ، والنَسائيُّ وابْنُ مردويه، عن أَبي هُريرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: بَعَثني أَبو بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ فيمَنْ يُؤَذِّنُ يَوْمَ النَحْرِ بمِنًى أَنْ لا يَحجَّ بعدَ العامِ مُشْرِكٌ، ولا يَطوفُ بالبيتِ عُرْيانٌ، ويَوْمُ الحَجِّ الأَكْبرِ يَوْمُ النَحْرِ، والحَجُّ الأَكْبرُ الحَجُّ، وإنَّما قِيلَ الأَكْبرُ مِنْ أَجْلِ قوْلِ النَاسِ الحَجُّ الأَصْغَرُ، فنَبَذَ أَبو بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، إلى الناسِ في ذلِكَ العامِ، فَلَمْ يَحِجَّ عامَ حَجَّةِ الوَداعِ الذي حَجَّ فيهِ رَسُولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، مُشركٌ، وأَنْزَلَ اللهُ تَعالى: {يا أيُّها الذينَ آمَنوا إنَّما المُشْرِكونَ نَجَسٌ} سورة التوبة، الآية: 28. وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وابْنُ جَريرٍ عَنِ ابْنِ عبّاسٍ قال: الحج الأكبرُ يومُ النَحْرِ. وأخرجَ سعيدُ بْنُ مَنْصورٍ، وابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وابْنُ جَريرٍ، عَنِ المُغيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ـ رضي اللهُ عنه، أَنَّه خَطَب يومَ الأَضْحى فقالَ: اليومَ النَحْرُ، واليومَ الحَجُّ الأَكْبَرُ. وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنْ أَبي جُحَيْفَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: الحجُّ الأَكْبرُ: يومُ النَحْرِ. وأخرجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنْ سَعيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: الحجُّ الأَكبرُ: يَومُ النَحْرِ. وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ عَنْ سَعيدِ بْنِ المُسيّبِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: الحَجُّ الأَكْبرُ اليومُ الثاني مِنْ يَومِ النَحْرِ، ألمْ تَرَ أَنَّ الإِمامَ يَخْطُبُ فيه؟. وأَخْرَجَ عَبْدُ الرَزّاقِ، وسَعيدُ بْنُ مَنْصور، وابْنُ أَبي شَيبَةَ وابْنُ جَريرٍ، وأبو الشيخِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أِبي أِوْفى ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، قال: الحجَّ الأَكْبرُ: يَوْمُ النَحْرِ، يُوضَعُ فيهِ الشَعْرُ، ويُراقُ فيهِ الدَمُ، وتَحِلُّ فيهِ الحُرُمُ.
وقيل: هُوَ يَومُ عَرَفَةَ؛ لِقولِهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((الحَجُّ عَرَفَةَ)). ورُويَ عنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ، وابْنِ المُسَيّبِ وعَطاءٍ. وروى ابْنُ جُرَيجٍ عَنْ محمَّدٍ بْنِ قَيسٍ بْنِ مخْرَمَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، خَطَبَ يَوْمَ عَرَفَةَ وقالَ: ((هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الأَكْبَرِ))
وأَخْرَجَ الطَبرانيُّ عن سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسولَ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، قالَ زَمَنَ الفَتْحِ: إنَّهُ عامُ الحَجِّ الأَكْبرِ. قال: اجْتَمَعَ حَجُّ المُسْلِمين وحَجُّ المُشْركين في ثلاثةِ أَيَّامٍ مُتَتابِعاتٍ، فاجْتَمَعَ حَجُّ المُسْلِمينَ والمُشْركينَ والنَصارى واليهودِ في ثلاثةِ أَيَّامٍ مُتَتابعاتٍ، ولم يجتمِعْ مِنْذُ خَلَقَ اللهُ السَمَواتِ والأَرْضِ كَذلكَ قبلَ العامِ، ولا يَجْتَمِعُ بَعْدَ العامِ حتى تَقومُ الساعةُ. وأَخْرَجَ كذلك هُوَ وابْنُ مَردويْهِ عَنْ سَمُرَةَ أَيْضَاً، عَنِ النَبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، قالَ: ((يومُ الحَجِّ الأكْبرِ يومَ حَجَّ أَبو بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ بالناس)). وأَخْرَجَ عنه ابْنُ مَردويْهِ في قولِه: "يوم الحجِّ الأَكْبرِ" قال: كانَ عامَ حَجَّ فيهِ المُسْلِمون والمُشْرِكُونَ في ثلاثةِ أَيَّامٍ، واليَهُودُ والنَصارى في ثلاثةِ أَيَّامٍ، فاتَّفَقَ حَجُّ المُسْلِمينَ والمُشْرِكينَ واليهودِ والنَصارى في سِتَّةِ أَيَّامٍ. وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قالَ: سألتُ مُحَمَّداً ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ عَنْ يَوْمِ الحَجِّ الأَكْبرِ، قال: كانَ يومَ وافَقَ فيهِ حَجُّ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، وحَجَّ أَهْلُ المِلَلِ. وأَخْرَجَ عبدُ الرَزَّاقِ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ عَنِ الحَسَنِ ـ رضيَ اللهُ عَنْه. أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الحَجِّ الأَكبرِ؟ فقال: ما لَكمْ وللحَجِّ الأَكْبَرِ؟ ذاكَ عامٌ حَجَّ فيهِ أَبو بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنه، اسْتَخْلَفَهُ رَسولُ اللهِ ـ صَلى الله عليه وسَلَّمَ، فحَجَّ بالناسِ، واجْتَمَعَ فيهِ المُسْلِمونَ والمُشْرِكون فلِذلك سمِّيَ الحجَّ الأَكْبرَ، ووافَقَ عِيدُ اليَهودِ والنَصارى.
وأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ، وابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وابْنُ جَريرٍ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وأَبو الشَيْخِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: الحَجُّ الأَكْبَرُ يومُ عَرَفَةَ. وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ، وابْنُ مَرْدوَيْهِ عَنِ المُسَوِّرِ بْنِ مَخْرَمَةَ ـ رضيَ اللهُ عَنْهُ، أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، قالَ يومَ عَرَفة: ((هذا يَومُ الحَجِّ الأَكْبرِ)). وأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنْ أَبي الصَهْباءِ البَكْرِيِّ قال: سألتُ عليَّ بْنَ أَبي طالِبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ يَوْمِ الحَجِّ الأَكْبَرِ؟ فقالَ: يَوْمُ عَرَفَة. وأَخْرَجَ أَبو عُبَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وأَبو الشَيْخِ عَنِ ابْنِ عباسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قال: إنَّ يومَ عَرَفَةَ يَومُ الحَجِّ الأَكْبَرِ، يَوْمُ المُباهاةِ، يُباهي اللهُ مَلائِكَتَهُ في السَماءِ بِأَهْلِ الأَرْضِ، يَقولُ: "جاؤوني شُعْثاً غُبْراً، آمَنوا بي ولم يَرَوْني، وعِزَّتي لأَغْفِرَنَّ لهم". وأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنْ مَعْقِل بْنِ داوودٍ قال: سمعتُ ابْنَ الزُبيرِ ـ رضي اللهُ عنهما، يَقولُ يَومَ عَرَفَةَ: هذا يَوْمُ الحَجِّ الأَكْبرِ.
وعُبِّرَ عَنْه بِ "يَوْمِ" وهوَ أَكْثَرُ مِنْ ذلكَ، فهُوُ كما قالَ تعالى {يوم القيامةِ} وكما قالَ: {يومَ الفُرقانِ يومَ الْتَقى الجَمْعانِ}، وكَما تَقولُ "يومُ صِفِّينَ" أوْ "يومُ بعاثٍ"، أَوْ غير ذلكَ وقدْ كانَتْ أَيَّاماً ولمْ تَكُنْ يَوْماً واحِداً.
قولُهُ: {أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} أَيْ: أَذِّنْ بِأَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ، وَرَسُولُهُ بَرِيءٌ مِنْهُمْ أَيْضاً، وحُذِفَتِ الباءً تَخْفيفاً، ولا تَكْرارَ؛ لأَنَّ قولَهُ في الآيةِ الأُولى: {بَراءةٌ مِنَ اللهِ} كانَ إخْباراً بِثُبوتِ البراءَةِ، وهُنا إخْبارٌ بِوُجوبِ الإعْلامِ بِذَلِكَ، ولذلكَ عَلَّقَهُ هُنا بالنَّاسِ ولمْ يَخُصَّ بِهِ المُعاهِدينَ.
قولُهُ: {فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ} فَإِنْ تَابَ المُشْرِكُونَ وَانْتَهَوْا عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ وَالضَّلاَلِ، فَذَلِكَ خَيْرٌ لَهُمْ، وَإِنْ أَصَرُّوا وَاسْتَمَرُّوا عَلَى مَا هُمْ فِيهِ، فَلْيَعْلَمُوا أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُعْجِزِي اللهِ الذِي هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ فِي قَبْضَتِهِ، وَتَحْتَ قَهْرِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَأَنَّهُمْ لَنْ يَفُوتُوهُ أَبَداً، وَلَنْ يَجِدُوا مِنْهُ مَهْرَباً.
وَقولُهُ: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} تهَديدٌ مِنَ اللهُ تَعَالَى ووعيدٌ للكَافِرِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً إِذَا اسْتَمَرُّوا فِي كُفْرِهِمْ. والبشارةُ هنا للتهكم والهزءِ بهم، وصَرَفَ الخطابَ عنهم إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم، لأنَّ البِشارَةَ إنما تَليقُ بمنْ يَقِفُ على الأسرارَ الإلهيَّة. وقد سُئِلَ سُفْيانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ البِشارةِ، أَتكونُ في المَكْروهِ؟ فقال: أَلم تَسْمَعْ قولَهُ تَعالى: {وبَشِّرِ الذينَ كَفَروا بِعذابٍ أَلِيم}. أخرجه ابْنُ أَبي حاتمٍ عَنْ مُحَمَّدٍ بْنِ مُسهر. وقد تقدّم لنا شرح مستفيض لهذه المسألةِ.
قولُهُ تَعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ الله إلى الناسِ} أَذَانٌ: رفعٌ بالابْتِداءِ، و "مِنَ اللهِ" إمَّا صفةُ أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِالمبتدأ. و "إلى الناسِ" خَبرُهُ. ويجوزُ أَنْ يَكونَ "أذانٌ" خبراً لمبتدأٍ محذوفٍ والتَقديرُ: هذا أَذانٌ، والجارَّانِ مُتَعَلِّقان بِهِ كَما تَقَدَّمَ في "براءة". ولا وَجْهَ لقولِ مَنْ قال إنِّهُ مَعطوفٌ على "براءة"، كما لا يُقالُ "عمرٌو" معطوف على "زيدٍ" في قولكَ: زيدٌ قائمٌ وعَمْرٌو قاعدٌ.
وقولُهُ: {يومَ} مَنصوبٌ على الظرفيَّةِ متعلقٌ بما تَعَلَّقَ بِهِ الجارُّ في قولِهِ: "إلى الناس". وزَعَموا أَنَّه مَنْصوبٌ ب "أذانٌ" وهوَ فاسدٌ مِنْ وجَهَينِ: الأوَّلُ: وَصْفُ المَصْدرِ قبلَ عَمَلِهِ. والثاني: الفَصْلُ بَيْنَهُ وبَيْنَ مَعْمُولِهِ بِأَجْنَبيٍّ وهو الخَبرُ.
قولُهُ: {مِنَ المشركين} مُتَعَلِّقٌ بِ "بريء" كما يُقالُ: "بَرِئْتُ مِنْهُ، وهذا بخلافِ {بَرَاءَةٌ مِّنَ الله} الآية الأولى من هذه السورة، فإنها هُناكَ تحتَمِلُ هذا، وتحتَمِلُ أَنْ تَكونَ صِفَةً لِ "براءة".
وقولُهُ: {وَرَسُولِهِ} الجمهورُ على رَفْعِه، إمّا مُبتَدَأً وخبرُه محذوفٌ للدَلالةِ عليه، أيْ: ورَسُولُهُ بَريءٌ مِنْهم. وإمّا لأنَّه معطوفٌ على الضميرِ المستتِرِ في الخَبرِ، وجازَ ذَلك للفَصْلِ المُسَوِّغِ للعَطفِ فرَفْعُهُ على هذا بالفاعلية. أو لأنَّه مَعطوفٌ على محلِّ اسْمِ "أنَّ"، وهذا عَنْدَ مَنْ يُجيزُ ذلك في المَفْتُوحَةِ قِياساً على المَكْسُورَةِ. على مُقْتَضى كلامِ سِيبَويْهِ أَنْ لا موضِعَ لِما دَخلَتْ عليه "أنَّ"؛ إذْ هُوَ مُعْرَبٌ قدْ ظَهَرَ فيهِ عَمَلُ العامِلِ، وأَنَّهُ لا فَرْقَ بينَ "أَنَّ" وبَينَ "ليت"، والإِجماعُ على أَنْ لا مَوْضِعَ لِما دَخَلَتْ عليه هذِهِ. وفيهِ تَعَقُّبٌ؛ لأنَّ عِلَّةَ كونِ "أنَّ" لا مَوْضِعَ لِما دَخَلَتْ عليه ليسَ ظُهورَ عَمَلِ العامِلِ بِدَليلِ قولك: ليسَ زَيْدٌ بِقائمٍ. وما في الدارِ مِنْ رَجُلٍ. فإنَّه ظَهَرَ عملُ العاملِ ولهما مَوْضِعٌ، أي أنَّ "ليت" لا مَوْضِعَ لِما دَخَلَتْ عَلَيْهِ؛ إلاّ أَنَّ الفراءَ خالَفَ، وجعل حكمَ "ليت" وأَخَواتِها جميعِها حُكْمَ "إنَّ" بالكَسْرِ.
وقرأ العامَّةُ: {وأَذانٌ} بفتح الهمزة، وقرأ الضحَّاك، وعِكْرِمَةُ، وأَبو المُتَوَكِّلِ: "وإِذْنٌ" بِكَسْرِ الهمزةِ وسًكُونِ الذال.
وقرأ العامَّةُ: {أنَّ الله} بِفَتْحِ الهَمْزَةِ لكونِهِ خَبراً ل "أذانٌ" والتقديرُ: أّذانٌ مِن اللهِ بَراءَتُهُ مِنَ المُشْركينَ. وقرَأَ الحَسَنُ والأَعْرَجُ بِكسرِها، وفيه المذهبان المَشهوران: مذهبُ البصريين إضمارُ القولِ، ومذهبُ الكوفيين إجراءُ الأَذانِ مُجْرى القَولِ، ولأنَّ الأَذانَ في مَعنى القولِ. وقد ارْتَفعَ {وَرَسُولُهُ} بالعطفِ على الضَميرِ في بَرِئَ، أو بالعطفِ، على موضِعِ اسْمِ "إن"، أَوْ بالابْتِداءِ وخَبَرُهُ محذوفٌ. وقرئَ بالنَصْبِ عَطفاً على اسْمِ "إن"، وأَمَّا الخَفْضُ فلا يجوزُ فيهِ العَطْفُ على المُشْرِكينَ لفسادِ معناه، ويجوزُ على الجِوارِ أَوِ القَسَمِ، وهو بعيدٌ مع ذلك والقراءةُ بِهِ شاذَّةٌ لما أَخْرَجَ أَبو بَكْرٍ محمَّدٌ بْنُ القاسِمِ الأنْبارِيُّ في كتابِ الوَقْفِ والابْتِداءِ، وابْنُ عَساكِرَ في تاريخِهِ، عَنِ ابْنِ أَبي مُلَيْكَةَ ـ رَضيَ اللهُ عَنْهُ، أنَّ أعرابيّاً قدِمَ في زَمانِ عُمَرَ بنِ الخطاب ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ فقال: مَنْ يُقْرِئُني مَا أَنْزَلَ اللهُ على محمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ؟ فاقرأَهُ رَجُلٌ فقال: {أَنَّ اللهَ بَريءٌ مِنَ المُشْركينِ ورَسُولِهِ} بالجَرِّ فقالَ الأَعْرابي: أَقَدْ بَرِئَ اللهُ مِنْ رَسُولِهِ؟ إنْ يَكُنِ اللهُ بَرِيءً مِنْ رَسُولِهِ فأَنا أَبْرَأُ مِنْه. فَبَلَغَ عُمَرَ مَقالَةُ الأَعْرابيِّ، فدَعاهُ فقالَ: يا أَعرابيّ أَتَبْرَأُ مِنْ رَسولِ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليْه وسَلَّمَ؟ قالَ: يا أَميرَ المُؤمنينَ إني قَدِمْتُ المَدينةَ ولا عِلْمَ لي بالقُرآنِ، فَسَأَلْتُ مَنْ يُقْرِئُني؟ فأقرأَني هذِهِ (سورة براءة). فقالَ: {أَنَّ اللهَ بَريءٌ مِنَ المُشْرِكينَ ورِسولِهِ} فَقُلْتُ: إنْ يَكُنِ اللهُ بِرِئَ مِنْ رَسُولِهِ فأَنا أَبْرَأُ مِنْهُ. فقالَ عُمَرُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ليسَ هَكذا يا أَعْرابيّ. قالَ: فكيفَ هِيَ يا أَميرَ المؤمنين؟ فقرأَ عمرُ: {أَنَّ اللهَ بِريءٌ مِنَ المُشْركين ورَسولُهُ} فقال الأعرابيُّ: وأَنا واللهِ أَبْرَأُ ممّا ما بَرِئَ اللهُ ورَسولُهُ مِنْهُ. فأَمَرَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنْ لا يُقْرِئَ الناسَ إلاَّ عالمٌ باللغةِ، وأَمَرَ أَبا الأَسْوَدِ ـ رَضِيَ اللهُ عنْه فَوَضَعَ النَّحْوَ.
وأخرجَ ابْنُ الأَنْبارِيِّ عَنْ عَبّادٍ المُهَلَّبِيِّ قالَ: سَمِعَ أَبُو الأَسْوَدِ الدُؤَليِّ رَجلاً يَقْرَأُ {أَنَّ اللهَ بَريءٌ مِنَ المُشْرِكينَ ورَسُولِهِ} بالجَرِّ فقال: لا أَظُنُّني يَسَعُني إلاَّ أَنْ أَضَعَ شَيْئاً يَصْلُحُ بِهِ لَحْنُ هَذا أوْ كلاماً هذا مَعناهُ.