الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ
(20)
قولُهُ ـ تعالى جَدُّهُ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} بعد أَنْ قَرَّرَتِ الآيةُ السابقةُ أنْ لا مُساواةَ بينَ الفريقين، فريقِ المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسولِه وما جاءَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وقاتَلوا الكُفّارَ دِفاعاً عنْ دينِهم وعقيدَتِهم، مُقَدِّمين أَرْواحَهم وأَموالَهم رَخيصَةً في سبيلِ اللهِ، وهُم قِلَّةٌ ضُعَفاءُ فُقَراءُ، وفَريقٌ لم يؤمِنُوا باللهِ ورَسولِهِ، أَوْ آمَنُوا لكنَّهم كَتَمُوا إيمانهم خَوْفاً على أَنْفُسِهم وأَموالِهم ومَصالِحِهم، وظَنّوا أَنَّ عِمارَتهم للمَسْجدِ الحرامِ، وسِقايةَ الحُجَّاجِ إليْهِ مُعادِلَةً لما قَدَّمَ الفَريقُ الأَوَّلُ مِنَ التَضْحياتِ. فقد جاءتْ هذه الآيةُ الكَريمة لِتُؤَكِّدَ مَضمونَ الآيَةِ التي قبلها، ولِتُعَمِّمَ أَنَّ الفريق الأولَ، وهُمُ الذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ.
أَخْرج ابْنُ أَبي حاتمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: "الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا ... " يَقُولُ: لا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، إِنَّمَا هُوَ الشَّهَادَةُ بَعْدَ ذَلِكَ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى ثَلاثِ مَنَازِلَ مِنْهُمُ: الْمُؤْمِنُ الْمُهَاجِرُ الْمُبَايِنُ لِقَوْمِهِ فِي الْهِجْرَةِ، خَرَجَ إِلَى قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ فِي دِيَارِهِمْ وَعَقَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ".
قولُهُ: {أَعْظَمُ دَرَجَةً} أَيْ مِنَ الذينَ افْتَخَروا بالسَقْيِ والعِمارَةِ. وليسَ للكافرينَ دَرَجَةٌ عِنْدَ اللهِ حتى يُقالَ: المؤمِنُ أَعْظَمُ درجةً. والمُرادُ أَنهم قَدَروا لأنْفُسِهِم الدَرَجَةَ بالعِمارَةِ والسَقْيِ فخاطَبَهم على ما قدَروهُ في أَنفُسِهم، وإنْ كانَ تَقديرُهم خَطَأً ونظيرُ هذه الآيةِ قولُه تعالى في سورة الفرقان: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً} الآية: 24. وقيل المعنى: أنَّهم "أَعْظَمُ دَرَجَةً" مِنْ كُلِّ ذي دَرَجَةٍ، أَيْ: لهم المَزِيَّةُ والمَرْتَبَةُ العَلِيَّةُ.
قولُهُ: {عِنْدَ اللهِ} أَيْ: هُمْ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ دَرَجَةً وَمَقَاماً، وَأَكْثَرُ مَثُوبَةً مِنَ الذِينَ عَمَّرُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ، وَسَقَوْا الحَاجَّ فِي الجَّاهِلِيةِ.
بَلْ هُمْ أَفْضَلُ مِنْ جميعِ الخَلْقِ على الإطْلاقِ. و "عِنْدَ اللهِ" للإشارةِ إلى أَنَّ رِفْعَةَ مِقْدارِهِم هي رفعةُ رِضًى مِنَ اللهِ وتَفضيلٍ لهم وتشريفٍ، وهي عنديَّةُ مكانةٍ وليست عندِيَّةَ مكانٍ لأنَّ "عند" في الأَصْلَ هي ظَرْفٌ للقُرْبِ، والقربُ منه ـ سبحانهُ وتعالى، يَعني رِضاهُ عن عبدِهِ، ورفعةَ منزلتِه عندَه لا مَنْزِلِهِ.
قولُهُ: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} وَهَؤُلاَءِ المُؤْمِنُونَ المُجَاهِدُونَ فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُمُ الفَائِزُونَ بِرَحْمَةِ اللهِ، وَرِضْوَانِهِ وَبالدرجاتِ العلى من جَنَّاتٍ عرضُها السمواتُ والأرضُ، أعَدَّها اللهُ تعالى للمؤمنينَ به وبكتبه ورسُلِه جميعاً. والفَوْزُ هو النجاةُ وبلوغُ البُغْيَةِ إمَّا في نَيْلِ رَغْبَةٍ، أوِ النجاةِ مِنْ مَهْلَكَةٍ، ولذلك فإنَّ النبيَّ ـ عليه مِنَ اللهِ الصلاةُ والسلامُ، قال لخالدٍ بنِ الوليدِ عندما اختلف مع الصِدِّيق ـ رضي اللهُ عنهما، كما تَقَدَّمَ في الصَّحيحِ: ((دَعُوا لي أَصْحَابِي؛ فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً، مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نِصِيفَهُ)). لأنَّ أَصحابَ هذِهِ الخِصَالِ بِسُيوفِهم بُنِيَ الإِسلامُ ، ومُهِّدَ للشرْعُ. وهمُ الذين رَدُّوا الناسَ إليه. وتعريف المسند "الفائزون" باللام مُفيدٌ للقصرِ مُبالَغَةً في عِظَمِ فَوزِهم.
قولُهُ تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا} الَّذِينَ: هذا الاسمُ الموصولُ مرفوعٌ بالابْتِداءِ.
قولُهُ: {أَعْظَمُ دَرَجَةً} أعظمُ: خبرُ المبتدأِ. وهي صِيغَةُ للتَفضيلِ على وزنِ "أَفْعَلُ" لتُعطي قدْراً زائداً عن الأصلِ، فيُقال: فلانٌ أَعْلَمُ مِنْ فُلانٍ. أي أنَّ الثاني عالمٌ، ولكن الأوَّلَ أَعْلَمُ منه. ويُقالُ: فلانٌ أَكْرَمُ مِنْ فُلانٍ، أي: أَنَّ الثاني كريم، لكنَّ الأوَّلَ أَكْرَمُ، وهكذا. و "دَرَجَةً" نَصْبٌ على التَمْييزِ أَوِ البَيانِ.
وقولُه: {عند اللهِ} مضافٌ ومضافٌ إليه، والظرفُ "عند" مُتَعلِقٌ بالخبرِ "أعظم"،
قولُهُ: {وأولئك هم الفائزون} أولئك: مبتدأٌ، و "هم" ضَميرُ فَصْلٍ لا مَحَلَّ لَهُ من الإعراب، و "الفائزون" خبرُ المبتدأ، والجملةُ معطوفةٌ على: "أعظم" مِنْ قَبيلِ عَطْفِ الجُملَةِ على المُفْرَدِ.