كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاَّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ
( قولُهُ ـ سبحانه وتعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً} يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى الأَسْبَابَ التِي تَدْعُو إلَى أَنْ لاَ يَكُونَ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ، ذَلِكَ لأنَّهُمْ أَشْرَكُوا بِاللهِ وَكَذَّبُوا رَسُولَهُ، وَلأَنَّهُمْ إِذِ انْتَصَرُوا عَلَى المُسْلِمِينَ، وَظَهَرُوا عَلَيْهِمْ، اجْتَثُوهُمْ وَلَمْ يُبْقُوا عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَرْقُبُوا فِي المُسْلِمِينَ قَرَابَةً، وَلا عَهْداً، فِي نَقْضِ العَهْدِ وَالمِيثَاقِ، وَهَؤُلاَءِ يَخْدَعُونَ المُؤْمِنِينَ بِكَلاَمِهِمِ المَعْسُولِ. و "كَيْفَ" في إِعادَةِ الاسْتِفْهامِ إِشْعارٌ بأنَّ جملةَ الحالِ لها مَزيدُ تَعَلُّقٍ بِتَوَجُّهِ الإنْكارِ على دوامِ العَهْدِ للمُشْركين، حتى كأَنَّها مُسْتَقِلَّةً بالإنْكارِ. لا مُجَرَّدَ قيْدٍ للأَمْرِ الذي تَوَجَّهَ إليْهِ الإنْكارُ ابْتِداءً، فيُؤوَّلُ المعنى الحاصِلُ مِنْ هذا النَظْمِ إلى إِنْكارِ دَوامِ العَهْدِ مَعَ المُشْرِكينَ في ذاتِهِ، ابْتِداءً، لأنَّهم لَيْسوا أَهْلاً لِذلك، وإلى إِنْكارِ دوامِهِ بالخُصُوصِ في هذِهِ الحالَةِ. وهيَ حالةُ ما يُبْطِنُونَهُ مِنْ نِيَّةِ الغَدْرِ، إنْ ظَهَروا عَلى المُسلمينَ، مما قامَتْ عليْهِ القَرائنُ والأَماراتُ، كما فَعَلَتْ هَوازِنُ عَقِبَ فَتْحِ مَكَّةَ حيثُ تحشَّدتْ للقَضاءِ على المُسْلِمينَ، فكانَتْ وَقْعَةُ حُنَينٍ. ويقالُ: ظَهَرْتُ على فُلانٍ أَيْ غَلَبْتُهُ، وظَهَرْتُ البيتَ علوتُه، ومنه قولُهُ تعالى في سورة الكهف: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} الآية: 97. أَيْ يَعْلوا عَلَيْهِ. ومعنى "لاَ يَرْقُبُوا" لا يُراعون، ولا يُوفُونَ، وهو منْ رَقَبَ الشَيْءَ، إذا نَظَرَ إليْهِ نَظَرَ تَعَهُّدٍ ومُراعاةٍ، ومِنْهُ سمِّيَ الرَقيبُ، وسمّيَ مَكانُ الحِراسَةِ المَرقب، وقدْ أُطْلِقَ هُنا على المُراعاةِ والوَفاءِ بالعَهْدِ، لأنَّ مَنْ أَبْطَلَ العَمَلَ بِشَيْءٍ فكأنَّهُ لم يَرَهُ وصَرَفَ عنه نَظَرَهُ. والمرادُ ب "الإِلِّ" العَهْدُ، والحِلْفُ ومِنْهُ قولُ الشاعِرِ أَوْسِ بْنٍ حَجَرٍ:
لولا بنو مالكٍ والإِلُّ مَرْقَبَةٌ ............. ومالكٌ فيهمُ الآلاءُ والشَّرَفُأيْ: الحِلْفُ. وقالَ حَسَّانُ بْنُ ثابتٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
وجَدْناهُما كاذِباً إِلُّهُمْ ................... وذو الإِلِّ والعهدِ لا يَكْذِبُوقالَ تَميمُ بْنُ مُقْبِلٍ:
أَفْسَدَ الناسَ خُلوفٌ خَلَفُوا ............... قطعُوا الإِلَّ وأَعْراقَ الرَّحِمْوجاء في الحديثِ عن النبيِّ ـ صَلَّى الله عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ، قال: اجْتَمَعَتْ إحْدَى عَشْرَةَ امْرأَةً فَتَعاهدْنَ أَلاَّ يَكْتُمْنَ مِنْ أَخبارِ أَزْواجِهِنَّ شيئاً. فلما جاء دورُ إحداهنَّ وكانت تُدْعى أُمَّ زَرْعٍ قالتْ: (بيتُ أَبي زَرْعٍ وَفِيُّ الإِلِّ، كريم الخِلِّ، بَرُودُ الظِلَّ) أَيْ: وَفِيُّ العَهْدِ. ويمكنُ أَنَّ المُرادَ بِالإلِّ القَرابَةُ، ومِنْهُ قولُ حَسَّان بنِ ثابت ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
لَعَمْرك إنَّ إِلَّكَ مِنْ قريشٍ ................ كإِلِّ السَّقْبِ مِنْ رَأْلِ النَّعامِويمكنُ أين يكونَ المُرادُ بِهِ اللهَ تَعالى، أَيْ: هُوَ اسْمٌ مِنْ أَِسمائِهِ، واسْتَدلُّوا على ذلك بحديثِ أَبي بَكْرٍ ـ رضي اللهُ عنه، لمَّا عُرِضَ عَلَيْهِ كلامُ مُسَيْلمةَ الكذابِ: (إنَّ هذا الكلامَ لمْ يَخْرُجْ مِنْ إِلٍّ) أَيْ: الله، عَزَّ وَجَلَّ. وأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ الطبريُّ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وأَبو الشَيْخِ عنْ مُجاهِدٍ ـ رَضيَ اللهُ عَنْهُ قالَ {الإِل} اللهُ، عَزَّ وَجَلَّ. وأَخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ وأَبو الشَيْخِ عَنْ عِكْرِمَةَ قالَ: الإِلُّ: اللهُ. وكذلك قال ابْنُ مِجْلَزٍ هو اسمُه تعالى بالسُريانيَّةِ، فقد تحصَّل لنا فيهِ ثلاثةُ أَوْجُهٍ، أَحدُها: أَنَّه اسْمُ اللهِ تَعالى، ويؤيِّدُ ذلكَ ما تَقَدَّمَ مِنْ قولِ أبي بكرٍ الصِدِّيقِ ـ رَضِيَ اللهُ عنه. وما تَقَدَّمَ كذلك في جِبْرائيلَ وإسرائيلَ مِنْ أَنَّ المَعْنى عَبْدُ اللهِ. والثاني: أَنَّه يَجوزُ أَنْ يَكونَ مُشْتَقّاً مِنْ آلَ يَؤُولُ إذا صارَ إلى آخِرِ الأَمْرِ، وقالَ ابْنُ جِني هو مِنْ آلَ يَؤُولُ إذا سَاسَ، أَيْ: لا يَرْقُبونَ فيكم سِياسَةً ولا مُداراةٍ. وعلى التَقْديرينِ سُكِّنَتِ الواوُ بعدَ كَسْرَةٍ فَقُلِبَتْ ياءً كَ "ريح". الثالث: أَنَّهُ هوَ الإِلُّ المَضَعَّفُ ، وإنَّما اسْتُثْقِلَ التَضعيفُ فأَبْدِلَ إحداهما حَرْفَ عَلَّةٍ كَقولِهم: أَمْلَيْتُ الكتابَ وأَمْلَلْتُهُ. قالَ سَعْدُ بْنُ قُرْطُ الجُذامي يَهٍجُو أُمَّهُ:
يا ليتَما أمُّنا شالَتْ نَعَمَتُها ................... أَيْما إلى جنةٍ أَيْما إلى نارِوقد تقدّم لنا تفصيلٌ أَكْثَرُ في تَفْسيرِ سُورَةِ الفاتحةِ لمنْ أَرادَ الاسْتِزادَةَ. واعْتَرَضَ الزَجَّاجُ بِأَنَّ أَسماءَهُ تَعالى مَعْروفَةٌ في الكِتابِ والسُنَّةِ، ولم يُسْمَعْ أَحَدٌ يقولُ: يا إلُّ اعْطِني كَذا أَوِ ارْزُقْني كذا .. .
وأَخْرَجَ الطِسْتِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، أَنَّ نَافِعَ بْنَ الأَزْرَقِ قالَ لَهُ: أَخْبرْني عَنْ قولِهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ: "إلاًّ وَلا ذِمَّةً" قالَ: الإِلُّ القَرابَةُ، والذِمَّةُ العَهْدُ. قالَ: وهَلْ تَعْرِفُ العَرَبُ ذَلك؟ قالَ: نَعَم، أَمَا
سَمِعْتَ الشاعِرَ وهوَ يَقولُ:
جَزَى اللهُ أَلاًّ كان بَيْني وبَيْنَهم ............ جَزَاءَ ظَلُومٍ لا يُؤَخِّرُ عاجِلا
وأَخْرَجَ ابْنُ الأَنْبارِيِّ في كتابِ الوَقْفِ والابْتِداءِ عَنْ مَيْمونِ بْنِ مَهْرانَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ نافعَ بْنَ الأَزْرَقِ قالَ لابْنِ عبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: أَخْبرْني عن قولِ اللهِ تَعالى "لا يَرْقُبونَ في مُؤْمِنٍ إلاًّ ولا ذِمَّةً" قال: الرحم، وقال فيهِ حَسَّانُ بْنُ ثابتٍ ـ رضي اللهُ عنه:
لَعَمْرُكَ أَنَّ إلَّكَ مِنْ قُرَيْشٍ ................ كإلِّ السَّقْبِ مِنْ رَأْلِ النَعامِ
والإِلُّ هُوَ الجُؤَارُ أَيْضاً، أَيْ: رَفْعُ الصوتِ عِنْدَ التَحَالُفِ، إذ كانوا يجْأَرُونَ بذلك إذا تحالفوا، ومن ذلك قولُ أَبي جَهْلٍ:
لإِلٍّ عَلَيْنا واجِبٍ لا نُضِيعُهُ .............. مَتينٍ قُواه غَيْرِ مُنْتَكِثِ الحَبْلِويقالُ للبرْقِ إذا لَمَعَ "أَلَّ"، والأَلِيلُ: البريق، يُقالُ: أَلَّ يَؤُلُّ أَيْ: صَفا ولَمَعَ. وقيل: الإِلُّ مِن التحديدِ و "الأَلَّةُ" الحَرْبةُ وذَلِكَ لِحِدَّتها. وقد جَعَلَ بعضُهم بين هذه المعاني قَدْراً مُشْتَرَكاً يَرْجِعُ إليه جميعُ ما ذَكَرْناهُ، فقالَ الزجَّاجُ: حقيقةُ الإِلِّ عندي على ما تُوحيهِ اللُّغةُ: التَحْديدُ للشَيْءَِ، فَمِنْ ذلك: الأَْلَّةُ: الحَرْبَةُ، وأُذُنٌ مُؤَلَّلَة، فالإِلُّ يخْرُجُ في جميعِ ما فُسِّرَ مِنَ العَهدِ والقَرابَةِ والجُؤَارِ، فإذا قلتَ في العهد: بَيْنَهُما "إلٌّ". فَتَأْويلُه أَنَّهُما قدْ حَدَّدا في أَخْذِ العُهودِ، وكذلك في الجُؤَارِ والقَرابة. وقالَ الراغِبُ الأصفهانيُّ: الإِلُّ: كلُّ حالةٍ ظاهرةٍ مِنْ عَهْدٍ وحِلْفٍ وقَرابَةٍ تَئِلُّ أَيْ: تَلْمَعُ، وأَلَّ الفَرَسُ: أَسْرَعَ، والأَْلَّةُ: الحَرْبَةُ اللامِعَةُ، وأَنْشَدَوا على ذَلكَ قولَ حِماسٍ بْنِ قَيْسٍ من بكرٍ يَومَ الفتْحِ:
إنْ يُقْبَلوا اليومَ فما لي عِلَّةْ .................... هذا سِلاحٌ كاملٌ وأَلَّةْوذو غِرارَيْنِ سَريعُ السَّلَّةُ
وكانَ يُعِدُّ قبلَ ذلكَ سِلاحاً، فقالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: لماذا تُعِدُّ ما أَرَى؟ قال: لمحمَّدٍ وأَصْحابِهِ. قالت: واللهِ ما يَقومُ لمحمَّدٍ وأَصْحابِهِ شَيْءٌ. قال: إني واللهِ لأَرْجُو أَنْ أُخَدِّمَكِ بَعْضَهم. وكانَ هذا الرَّجُلُ ممَّنْ اجْتَمَعوا عِنْدَ جَبَلِ (خَنْدَمَة) يومَ فَتْحِ مَكَّةَ ومِنْه يقال يَوْمُ الخَنْدَمَةِ، وكان لَقِيَهم خالدٌ بْنُ الوَليدِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فهزَمَهم فيهِ، وقَتَلَ الكثير منهم، فقال الراعِشُ الهُذَلي يُخاطِبُ امْرَأَتَهُ:
إنَّكَ لو شاهدْتِ يَوْمَ الخَنْدَمَهْ .............. إذْ فَرَّ صَفْوانٌ وَفَرَّ عِكْرِمَهْ
ولَحِقَتْنا بالسُيوفِ المُسْلِمَهْ ................ يَفْلِقْنَ كُلَّ ساعِدٍ وجُمْجُمَهْ
والألَلاَن صَفْحَتا السِكِّينِ. ويُجْمَعُ الإِلُّ في القِلَّة آلٌّ، والأَصْلُ: أَأْلُلٌ بِزِنَةِ أَفْلُسٍ، فأُبدلتِ الهمزةُ الثانيةُ أَلِفاً لِسُكونها بَعْدَ أُخرى مَفْتوحَةٍ، وأُدْغمَتِ اللامُ في اللامِ. ويجمعُ في الكَثْرَةِ على إلالٍ كَذِئْبٍ وذِئابٍ. وقيلَ الأَْلُّ بالفتح: شدَّة القُنوطِ. وفي الحديثِ: ((عَجب ربكم مِنْ ألِّكم وقُنوطكم)) والمحدِّثون يَقولونَهُ بِكَسْرِ الهَمْزَةِ، ويجوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ رَفْعِ الصَوْتِ، يقال: ألَّ يَؤُلُّ ألاَّ وأَلَلاً وأَلِيلاً إذا رفع صوتَه بالبكاءِ، ومنه يُقالُ: لَهُ الوَيْلُ والأَلِيلُ، ومن ذلك قولُ الكُمَيْتِ:
وأنتَ ما أنت في غَبْراءَ مُظْلمةٍ ....... إذا دَعَتْ أَلَلَيْها الكاعِبُ الفُضُلُو "ذِمَّةً" عَهْداً، فَيَكونُ ممّا كُرِّرَ لاخْتِلافِ لَفْظِهِ إذا قُلْنا: إنَّ الإِلَّ
العَهْدُ أَيضاً، فهو كَقَوْلِهِ تعالى في سورة البقرةِ: {صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِم
وَرَحْمَةٌ}، الآيَةُ: 157. وكقولِ عَدِيّْ بْنِ زَيْدٍ:
فَقَدَّمَتِ الأَدِيمَ لراهِشَيْهِ ...................... وأَلْفَى قولَها كَذِباً وَمَيْنَا وكقولِ الحُطَيْئَةِ:
أَلا حَبَّذا هِنْدٌ وأرضٌ بها هندٌ ........ وهندٌ أتى مِنْ دونِها النَّأْيُ والبعدُوقيل: الذِّمَّة: الضَّمان، يُقالُ: هو في ذمَّتي أيْ: في ضماني وبه سُمِّي أهلُ الذِّمَّة لدخولهم في ضمانِ المسلمين، ويقال: لَهُ عَلَيَّ ذِمَّةٌ وذِمام ومَذَمَّة، وهي الذِّمُّ. قال أُسامَةُ بْنُ الحَرْثِ:
يُصَيِّح بالأَْسْحار في كل صَارَة ......... كما ناشد الذِّمَّ الكفيلَ المعاهِدُ
وقالَ الراغِبُ الأصفهانيُّ: الذِّمامُ: ما يُذَمُّ الرَجُلُ على إضاعتِهِ مِنْ عهد، وكذلك الذِّمَّة والمَذَمَّة والمَذِمَّة، بالفتح والكَسْرِ، وقيلَ: لي مَذَمَّةٌ فلا تَهْتِكْها. وقالَ غيرُهُ: سُمِّيَتْ ذِمَّةً لأنَّ كُلَّ حُرْمةٍ يَلْزَمُكَ مِنْ تَضْييعِها الذَّمُّ يُقالُ لها ذِمَّةٌ، وتُجْمع على ذِمٍّ كَقولِ أُسامةَ بِنْ الحَرْثِ في البَيْتِ المُتَقَدِّمِ: (كما ناشد الذِّمَّ) وتجمع على ذِمَم وذِمَام.
وقالَ أَبو زَيْدٍ: مَذِمَّة بالكَسْرِ مِنَ الذِّمام وبالفَتْحِ مِنَ الذَّمِّ. وقالَ الأَزْهَرِيُّ: الذِّمَّةُ: الأَمانُ، وفي الحديث الشريفِ: ((ويَسْعى بذمَّتِهم أَدْناهم))، قالَ أَبو عُبيدٍ: الذِمَّةُ هَهُنا الأَمانُ، يَقولُ: إذا أَعْطى أَدْنى الناسِ أَماناً لِكافرٍ نَفِذَ عَلَيْهِمْ، ولِذلِكَ أَجازَ عُمَرُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَمانَ عَبْدٍ على جميعِ العَسْكَرِ. وقالَ الأَصْمَعِيُّ: الذِّمَّةُ: ما لَزِم أَنْ يُحْفَظَ ويُحْمى.
قولُهُ: {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} أَيْ
أنَّ أَكْثَرَهُمْ خَارِجُينَ عَنِ الحَقِّ وقُلُوبهُمْ مُنْطَوِيَةٌ عَلَى كَرَاهَتِهِمْ، وَهم نَاقِضُونَ لِلْعَهْدِ. ويَحتَمِلُ قولُهُ: "يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ" أَنهم يُرْضونَكم بِأَفواهِهم في الوفاءِ، وتَأْبى قلوبُهم إلاَّ الغَدْرَ. أو يُرْضونَكم بِأَفْواهِهم في الطاعةِ وتَأْبى قُلوبهم إلاَّ المَعْصِيَةَ. أو يُرْضونَكم بِأَفواهِهم في الوَعْدِ بالإيمان وتأبى قُلوبهم إلاَّ الشِرْكَ، لأنَّ النَبيَّ ـ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، لا يُرْضِيهِ مِنَ المُشْرِكينَ إلاَّ الإيمانُ بالله سبحانَه. وقولُه: "تأبى" من "أَبى يَأْبى إِبىً" أَيْ: اشْتَدَّ امْتِناعُهُ: فكلُّ إباءٍ امْتِناعٌ مِنْ غيرِ عَكْسٍ، قالَ النابغة:
أبى الله إلا عَدْلَه ووفاءَه .......... فلا النُكرُ معروفٌ ولا العُرْفُ ضائعُوالبيتُ مِنْ قصيدةٍ له يعتذر فيها للنعمان بن المنذر ملك الحيرة مطلعها:
عفا ذو حُساً مِنْ فَرْتَنى، فالفَوارعُ ...... فجنبا أريكٍ، فالتلاعُ الدوافعُفمجتمعُ الأشراجِ غيرِ رسمها ........... مصايفُ مَرَّتْ، بعدَنا، ومرابعُتوَهّمْتُ آياتٍ لها، فَعَرَفْتُها .............. لِسِتّة ِ أعْوامٍ، وذا العامُ سابِعُرَمادٌ ككُحْلَ العينِ لأْياً أُبينُهُ ........ ونُؤيٌ كجَذْمِ الحَوْضِ أَثْلمُ خاشعُومنها قولُهُ:
فكَفْكفْتُ مني عَبْرَةً، فرَدَدتُها ........ على النحرِ، منها مستهلٌّ ودامعُعلى حينَ عاتبتُ المَشيبَ على الصِّبا..وقلتُ: أَلَمَّا أصحُ والشيبُ وازعُوقد حالَ هَمٌ، دونَ ذلكَ، شاغلٌ ..... مكانَ الشَغافِ، تَبْتَغيهِ الأصابعُوعيدُ أبي قابوسَ، في غيرِ كُنْهِهِ، ...... أَتاني، ودُوني راكِسٌ، فالضَواجِعُفبتُّ كأني ساورتْني ضَيئلة ٌ........... مِنَ الرُّقْشِ، في أَنْيابِها السُّمُّ ناقِعُيُسَهَّدُ، من لَيلِ التّمامِ، سَليمُها، ......... لحُلْيِ النِساءِ، في يَدَيْهِ، قَعاقِعُتَنَاذَرَها الرّاقُون مِنْ سُمِّها، ............... تُطَلِّقُهُ طَوْراً، وطَوراً تُراجِعُأَتاني، أَبَيْتَ اللَّعْنَ، أَنَّكَ لُمْتَني، ........ وتلكَ التي تَسْتَكُّ مِنْها المَسامِعُمَقالةُ أَنْ قدْ قُلْتَ: سوفَ أَنالُهُ، ........ وذلك، مِنْ تِلْقاءِ مِثْلِكَ، رائعُلَعَمْري، وما عُمْري عَلِيَّ بهيِّنٍ، ......... لقد نَطَقَتْ بُطْلاً عَلَيَّ الأَقارِعُأَقارِعُ عَوْفٍ، لا أُحاوِلُ غيرَها، ........ وُجُوهُ قُرُودٍ، تَبْتَغي منَ تجادِعُأَتاكَ امرُؤٌ مُسْتَبْطِنٌ ليَ بِغْضَةً، .......... لَهُ مِنْ عَدُوٍّ، مثلُ ذَلِكَ، شافِعُأَتاكَ بقَوْلٍ هَلَهَلِ النّسْجِ، كاذبٍ، ..... ولم يأتِ بالحقِّ، الذي هو ناصعُأتاكَ بقَوْلٍ لم أَكُنْ لأَقولَهُ، ............. ولو كُبِّلَتْ في ساعديَّ الجَوامِعُحَلَفْتُ، فلم أترُكْ لنَفسِكَ رِيبةً، ....... وهلْ يَأْثمَنْ ذو أُمةٍ، وهوَ طائِعُ؟فإن كُنتُ، لا ذُو الضِغْنِ عَني مُكَذَّبٌ، ... ولا حَلِفي على البراءةِ نافعُولا أنا مأمُونٌ بشيءٍ أقُولُهُ، ............... وأنتَ بأمرٍ، لا محالةَ، واقعُ أَتوعِدُ عَبْداً لم يَخُنْكَ أَمانَةً ............... وتترك عبداً ظالماً وهو ظالِعُوأنت ربيعٌ يُنْعِشُ الناسَ سَيْبُهُ .............. وسَيْفٌ أُعِيرَتْهُ المَنِيَّةُ قاطِعُإلى أَنْ يقولَ البيتَ الذي لم يَقُلْهُ غيرُه:
فإنّكَ كاللّيلِ الذي هو مُدْرِكي ..... وإنْ خِلْتُ أَنَّ المُنْتَأَى عَنْكَ واسِعُوقالَ زُهيرُ بْنُ أَبي سُلْمى يمَدْحِ حصْنٍ بْنِ حُذيفةَ:
أبى الضَّيْمَ والنُعمانُ يَحْرقُ نابَه ........ عليه فَأَفْضى والسيوفُ مَعَاقِلُهْفليس مَنْ فسَّره بمطلق الامتناع بمصيبٍ. ومجيءُ المضارعِ مه على
يَفْعَل بفتح العين شاذٌّ، ومثله قَلَى يقلى في لغة. وَ "أَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ" أيْ: في نَقْضِهِمْ للعَهْدِ وإنْ كانَ جميعُهم فاسِقاً بالشرك. أو وأَكثرُهم فاسِقٌ في دِينِهِ وإنْ كانَ كلُّ دينِهم فِسْقاً.
قولُهُ تَعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا} كيفَ: اسمُ استفهامٍ حالٌ، والواو للحال، وجملةُ "وإن يظهروا" حاليَّةٌ مِنَ الواوِ في "تقاتلونهم" المقدرة. والمُسْتَفْهَمُ عَنْهُ محذوفٌ لدَلالةِ المعنى عَليْه. فَقُدِّرَ: كيفَ تَطْمَئِنُّونَ؟، وقُدِّرَ: كيف لا تُقاتِلونهم؟. والأَحْسَنُ أَنْ يُقَدَّرَ: كَيْفَ يَكونُ لهم عهدٌ؟، لأنَّ الدَلالةَ عليه أَقْوى فهو مِنْ جِنْسِ ما تَقَدَّمَ. وقد جاءَ الحَذْفُ في هذا التركيبِ كثيراً، وتقدَّمَ مِنْهُ قولُهُ تَعالى في الآية: 25، سورة آل عمران: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ}، ولُهُ في الآية: 41، سورة النساء: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا من كلِّ أمَّةٍ بشهيدٍ وجئنا بك على هؤلاء شهيداً؟}. ومنه قولُ الحُطَيْئَةِ:
فكيف ولم أعلَمْهُمُ خَذَلُوكُمْ ............ على مُعْظِمٍ ولا أَدِيْمَكُمُ قَدُّواأَيْ: كَيْفَ تَلُومُني في مدْحِهم؟
قولُهُ: {وَإِن يَظْهَرُوا} هذِه الجُملةُ الشَرْطِيَّةُ في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ، أَيْ: كيفَ يَكونُ لهم عَهْدٌ وهُمْ على حالةٍ تُنافي ذلك؟ وقدْ تَقَدَّمَ تحقيقُ هذا عِنْدِ قولِهِ تعالى في سورة الأعراف: {وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ}، الآية: 169. و "لا يرقُبوا" جوابُ الشَرْطِ.
قولُهُ: {إِلاًّ} مَفعولٌ بِهِ مَنْصوبٌ لِلفعلِ "يَرقُبوا" أَيْ: لا يَحْفَظوا "إلاًّ". والفاعلُ واوُ الجماعة. والضميرُ يعودُ على الكفّار الذين بينهم
وبين المسلمين عهودٌ ومواثيق.
قولُهُ: {يُرْضُونَكُم} الظاهرُ أنَّ هذه الجملة مُسْتَأْنَفَةٌ، أَخْبرَ أَنَّ حالَهم كذلك. ويجوزُ أنْ تكونَ في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ مِنْ فاعِلِ "لا يَرْقُبوا"، وقالَ أَبو البَقاءِ: وليسَ بِشَيْءٍ لأَنَّهم بَعْدَ ظُهورِهم لا يُرْضُونَ المؤمنينَ.
قولُهُ: {وأكثرهم فاسقون} هذه الجملةُ معطوفةٌ على الجملة الفِعْلِيَّةِ: "تأبى قلوبهم".
قَرَأَ العامَّةُ: {وإنْ يَظْهَروا} بالبِناءِ للفاعِلِ، وَقرأَ زَيدُ بْنُ عَلِيٍّ: "وإن يُظْهَروا" ببنائِه للمفعول، مِنْ أَظهرَه عَلَيْه، أي: جعَلَهُ غالباً لَه.
وقرأَ العامّةُ: {إِلاًّ} بكسرِ الهمزةِ، وقرأتْ فِرْقَةٌ: "ألاًّ" بِفَتْحِها، وهو على ما ذُكِرِ آنِفاً مِنْ كَونِهِ مَصْدَراً مِنْ أَلَّ يَؤُلُّ إذا عَاهَدَ. وقَرَأَ عِكْرِمَةُ مَوْلى ابْنِ عبَّاسٍ "إيلاً" بِكَسْرِ الهمزةِ، بعدَها ياءٌ ساكِنةٌ.