سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ
إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ
(95)
قولُهُ ـ تعالى جَدُّه: {سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ} تَأكيداً لِمَعاذيرهِمُ الكاذبةِ وتقريراً لها، والمحلوفُ عَليْهِ محذوفٌ يَدُلُّ عليْهِ الكلامُ، وهُوَ ما اعْتَذروا بِهِ مِنَ الأَكاذيبِ.
قولُهُ: {إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ} إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَى المَدِينَةِ مِنْ غَزَاتِكُمْ فَإِنَّ هَؤُلاَءِ الذِينَ تَخَلَّفُوا مَعَ الخَوَالِفِ فِي المَدِينَةِ، وَقَعَدُوا عَنِ الجِهَادِ، وَهُمْ أَغْنِيَاءُ أَصِحَّاءُ، سَيَأْتُونَ إِلَيْكُمْ مُعْتَذِرِينَ، وَسَيُؤَكِّدُونَ اعْتِذَارَهُمْ بِالأَيْمَانِ الكَاذِبَةِ،
قولُهُ {لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ} وتَصْفحوا عَنْهُمْ صَفْحَ رِضاً، فلا تُوَبِّخوهم، ولا تُعاتبوهم، وهذا ما يُفْصِحُ عَنْهُ قولُهُ تَعالى بعد ذلك في الآيةِ التي تلي هذه: {لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ} فهُمْ يَرْجُونَ أَنْ تُعْرِضُوا عَنْهُمْ، وَتَكُفُّوا عَنْ تَوْبِيخِهِمْ، وَتَقْرِيعِهِمْ عَلَى قُعُودِهِمْ.
قولُهُ: {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ} أيْ: فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ، لكنْ لا إِعْراضَ رِضاً وصفحٍ، كَما هُوَ طِلْبتُهم، بَلْ إِعْرَاضَ الاحْتِقَارِ وَالاسْتِصْغَارِ، لاَ إِعْرَاضَ الصَّفْحِ، وَقَبُولِ العُذْرِ، وإعْراضَ اجْتِنابٍ ومَقْتٍ، وهُذا ما يُوضِّحهُ قولُهُ تعالى: "إِنَّهُمْ رِجْسٌ" فهو صَريحٌ في أَنَّ المُرادَ بالإعْراضِ عَنْهم إمَّا اجْتِنابُهم لما فيهم مِنْ رِجْسٍ معنويٍّ، وإمَّا تَرْكُ اسْتِصلاحِهم، بتَرْكِ المُعاتَبَةِ لأنَّ المقصودَ بها التَطهيرُ بالحَمْلِ على الإنابةِ، وهؤلاءِ أَرْجاسٌ لا تَقْبَلُ التَطْهيرَ، فلا يُتَعَرَّضُ لهمْ بها، إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَدَنَسٌ مُؤْذٍ لِلنُّفُوسِ المُؤْمِنَةِ الكَرِيمَةِ، فيَجِبُ الاحْتِرَاسُ مِنْهُمْ، وَالابْتِعَادُ عَنْهُمْ، لِكَيْلاً تَلْحَقَ عَدْواهُمْ بِالمُؤْمِنِينَ.
أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ، وأَبو الشَيْخِ عَنِ السُدِّيِّ قال: لمَّا رَجَعَ النَبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، إلى المدينة قالَ: ((لا تُكَلِّموهم، ولا تُجالسوهم، فَأَعْرِضوا عَنْهم كَما أَمَرَ اللهُ)). ورُوِيَ عَنْ مُقاتِلٍ مثلُ ذلك. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: يُريدُ تَرْكَ الكَلامِ والسَّلامِ.
قولُهُ: {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} وَسَتَكُونُ نَارُ جَهَنَّمَ مُسْتَقَرَّهُمْ، وَجَزَاءَهُمْ، وَمَأْوَاهُمُ الأَخِيرُ. فهو مِنْ تمامِ التِعليلِ، لأنَّ كونَهم مِنْ أَهْلِ النّارِ مِنْ دَواعي الاجْتِنابِ عَنْهم، ومُوجِباتِ تَرْكِ اسْتِصْلاحِهم باللّومِ والعِتابِ، أو هو تَعليلٌ مُسْتَقِلٌّ، أَيْ: وكَفَتْهُمُ النّارُ عِتاباً وَتَوبيخاً، فلا تَتَكَلَّفوا أَنْتُم في ذَلِك.
قيلَ إنَّ هذِه الآيةَ مِنْ أَوَّلِ ما نَزَلَ في شَأْنِ المُنافقين في غَزْوَةِ تَبوكٍ، وذلكَ أَنَّ بَعْضَ المُنافقينَ اعْتَذَروا إلى النَبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، واسْتَأْذنوهُ في القُعودِ قبلَ مَسيرِهِ، فأذِنَ لهم، فخَرَجوا مِنْ عِنْدِهِ، وقالَ أَحَدُهم واللهِ ما هُوَ إلاَّ شَحْمَةٌ لأَوَّلِ آكِلٍ، فلمَّا خَرَجَ رَسولُ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، نَزَلَ فيهِمُ القُرآنُ، فانْصَرَفَ رَجُلٌ مِنَ القومِ، فقالَ للمُنافقين في مجلسٍ مِنْهم: واللهِ لَقدْ نَزَلَ عَلى محمَّدٍ ـ صلّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، فيكم قُرآنٌ، فقالوا له: وما ذلك؟ فقالَ لا أَحْفَظُ إلاَّ أَنِّي سَمِعْتُ وَصْفَكُم فيهِ بالرِجْسِ، فقالَ لهم مَخْشِيُّ بْنُ حُمَيِّرٍ: والله لَوَدِدْتُ أَنْ أُجْلَدَ مِئةَ جَلْدَةٍ ولا أَكونُ مَعَكم، فخَرَجَ حَتى لَحِقَ بِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، فقالَ له: ما جاءَ بِكَ؟ فقالَ: وَجْهُ رَسولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، تَسْفَعُهُ الريحُ وأَنَا في الكُنِّ، فَرُوِيَ أَنَّهُ ممّنْ تابَ فَكَانَ الّذِي عُفِيَ عَنْهُ، وَتَسَمّى عَبْدَ الرّحْمَنِ، وَسَأَلَ اللهَ أَنْ يُقْتَلَ شَهِيدًا لا يُعْلَمُ بِمَكَانِهِ فَقُتِل ـ رَضِيَ اللهُ عنه، يَوْمَ الْيَمَامَةِ فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ أَثَرٌ.
قولُهُ تعالى: {سَيَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ} هذه الجملةُ بَدَلٌ مِنْ جملةِ {يعتذرون} في الآية السابقةِ، أَوْ بَيانٌ لها.
قولُهُ: {إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ} إذا: ظرفية محضة متعلقة بـ "يحلفون".
وقولُهُ: {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ} جملةٌ مُسْتَأَنَفَةٌ، وكذلك جملةِ: {إنهم رجس}.
وقولُهُ: {مأواهم جهنم} جملةٌ معطوفةٌ على جملةِ "إنَّهم رِجْسٌ" المُسْتَأْنَفَةِ.
وقولُهُ {جزاء} مَفعولٌ مُطْلَقٌ لِعامِلٍ مُقَدَّرٍ؛ أَيْ: يُجْزَوْنَ جَزاءً. ويجوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ بِمَضمونِ الجُمْلَةِ السابِقَةِ لأَنَّ كونَهم يَأْوُوُنَ في جَهَنَّمَ في معنى المجازاةِ. ويجوزُ أَنْ يَكونَ مَفْعولاً مِنْ أَجْلِهِ.