فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ
(55)
قولُهُ ـ تبارك وتعالى: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ} الخِطابُ للنَبيِّ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والمُرادُ تَعليمُ الأُمَّةِ. والإعْجابُ اسْتِحْسانٌ مَشوبٌ بسرورٍ واسْتِغْرابٍ مِنَ المَرْئي، قالَ تَعالى في سورة المائدة: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} الآية: 100. أيْ: اسْتَحْسَنْتَ مَرْأَى وَفْرَةِ عدَدِهِ. فَلاَ يُعْجِبْكَ أَيُّها النبيُّ، أَوْ أَيُّها الناظرُ إلى المُنافقين مَا تَرَاهُمْ فِيهِ مِنْ وَفْرَةِ في المَالِ، وَكَثْرَةٍ في الأَوْلاَدِ، وَرَفْهٍ في الحَيَاةِ. لأنَّ النبيَّ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم، ما كان لِيَعْجَبَ بشيءٍ مِنْ مَتاعِ هذه الحياةِ الدُنيا، أو بشيءٍ مِنْ زِينَتِها. فإنَّ مُريدَ الآخِرَةِ يَنْبَغي لَهُ أَلاَّ يَسْتَحْسِنَ شَيْئاً مِنْ عَرَضِ الدنيا، التي هِيَ مَدْرَجَةُ الاغْتِرارِ، بَلْ يَنْبَغي لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْها وإلى أَهْلِها بِعَينِ الغَضِّ والاحْتِقارِ، حتى تَرْتَفِعَ همَّتُهُ إلى دارِ القَرارِ، فكيف بخيرةِ الأخيار وسَيِّدِ الأَبْرارِ؟.
قولُه: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فَإِنَّ اللهَ إِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ فِيمَا أَعْطَاهُمْ وَذَلِكَ بِالْكَدِّ وَالْعَنَاءِ فِي جَمْعِهَا وَاكْتِسَابِهَا، وبِمَا يَنَالُهُمْ بِسَبَبِهَا مِنَ التَّنْغِيصِ وَالحَسْرَةِ، وِبإِجْبَارِهِمْ عَلَى دَفْعِ الزَّكَاةِ مِنْهَا، وَالإِنْفَاقِ منها فِي الجِهَادِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يُوجِبُهُ الإِسْلاَمُ عَلَيْهِمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا، لأنَّهم يُظْهِرونَ الإسْلامَ، ولذلك فهم مُضْطَّرونَ للعَمَلِ بِأَحْكامِهِ، فكَما أَنَّ لهم بِهِ حُقوقٌ فإنَّ عَلَيْهم واجباتٌ، وإنْ كانوا يُبْطِنون الكُفْرَ، فإنَّ مَنْ شَهِدَ أَنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ، وأَنَّ محمَّداً رَسُولُ اللهِ، حقَّ لَهُ كُلُّ ما للمُسلِمينَ مِنْ حُقوقٍ، ووَجَبَ عَلَيْهِ كُلُّ ما على المُسلمين مِنْ واجباتٍ، أَمَّا الإيمانُ فإنَّه مِنْ عَمَلِ القلوبِ فلا يَطَّلِعُ عليْهِ إلاَّ عَلاّمُ الغُيوبِ. قال ـ عليْهِ الصلاةُ والسلامُ: ((إنَّمَا أُمِرْت بِالظَّاهِرِ وَاَللهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ)). وفي صحيحِ مُسْلمٍ أَنَّه قال: ((إني لم أُؤمَرْ أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلوبِ النَّاسِ)). وقال عمرُ ابْنُ الخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عنه: إنَّما نَحْكُمُ بالظَواهِرِ، واللهُ يَتَوَلَّى السَرائرَ. ثُمَّ يُمِيتُهُمْ اللهُ تعالى على الكُفْرِ، وهوَ الذي اطَّلعَ عَلَى ما في سرائرِهِم منْ كُفْرٍ ونِفاقٍ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَشَدَّ نَكَالاً لَهُمْ، وَآلَمَ عَذَاباً فِي الدَّارِ الآخِرَةِ، فَتَكُونُ الأَمْوَالُ وَالأَوْلاَدُ اسْتِدْرَاجاً لَهُمْ لِيُعَذِّبَهم اللهُ بها. وهذا تَفْريعٌ على مَذَمَّةِ حالِهم في أَمْوالهم، وأَنَّ وَفْرَةَ أَموالهم لا تُوجِبُ لهم طُمَأْنينةَ بالٍ. ويُعلِمُ اللهُ المُسلِمينَ أَّنَّ ما يَرَوْنَ مما فيهِ بعضُ هؤلاءِ المُنافِقين مِنْ مَتاعِ الحياةِ الدُنيا لا يَنْبَغي أَنْ يَكونَ مَحَلَّ إعْجابِ المُؤمِنينَ، وأَنْ يَحْسَبوا أَنَّ المُنافقين قد نالوا شيئاً مِنَ الحَظِّ العاجِلِ بِبَيانِ أَنَّ ذلك سَبَبٌ في عَذابهم في الدُنْيا. وقيل: ليعذبهم بمصائبهم في أموالهم أولادهم، وقيل: ليعذبهم بسبي أولادهم وغنيمة أموالهم، يعني المشركين، وكلُّ هذا عذاب.
وقَدْ كَشَفَ اللهُ تَعالى في هذِهِ الآيةِ سِرّاً مِنْ أَسْرارِ نُفُوسِ المُنافِقينَ، ودَواخِلِهم، بِأَنَّ في نُفوسِهم شُحَّاً وحِرْصاً على المالِ وفِتْنَةً بِتَوفيرِهِ والإشْفاقِ مِنْ ضَياعِهِ، فجَعَلَهم اللهُ بِسَبَبِ ذَِلِكَ في عَناءٍ وعَذابٍ مِنْ جَرَّاءِ أَمْوالهم، فهُم في كَبَدٍ مِنْ جمْعِها. وفي خَوْفٍ عَلى ضَيَاعِها ونُقْصانها، وفي أَلمٍ مِنْ إِنْفاقِ ما يُلْجِئُهم الحالُ إلى إِنْفاقِهِ مِنْها، فَقَدْ أَرادَ اللهُ تَعذيبَهم في الدُنيا بما هو من شأْنِهِ أَنْ يَكونَ سَبَبَ نَعيمٍ ورَاحَةٍ، وقد تمَّ مُرادُهُ. وهذا مِنْ أَشَدِّ العُقوباتِ الدُنْيَوِيَّةِ، وهذا شَأْنُ البُخَلاءِ وأَهْلِ الشُحِّ مُطْلَقاً، إلاَّ أَنَّ المؤمنين لهم مَسْلاةٌ عَنْ رَزايا الدُنيا بما يَرْجُونَ مِنْ ثوابِ ربِّهم لهم على الإنْفاقِ أَوْ على الصَبْرِ. والنِفاقُ يَْبعَثُ عليه الخُلُقُ السَيِّئُ مِنَ الجُبنِ والبُخْلِ، لِيَتَّقيَ صاحبُهُ المَخاطِرَ.
وذِكْرُ الأَوْلادِ هُنا كالتَكْمِلَةِ لِزِيادَةِ بَيانِ عدَمِ انْتفِاعِهم بِكُلِّ ما هُو مَظَنَّةُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ الناسُ، فعَطَفَ الأَوْلادَ بإعادَةِ حَرْفِ النَفْيِ بعدَ العاطِفِ، إيماءً إلى أَنَّ ذِكْرَهُمْ كالتَكْمِلَةِ والاسْتِطْرادِ.
قولُهُ: {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} الزُهوقُ: الخُروجُ بِشِدَّةٍ وضِيقٍ، وقد شاعَ ذِكْرُهُ في خُروجِ الرُوحِ مِنَ الجَسَدِ،
قولُهُ تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} اللامُ في "لِيُعَذِّبَهُمْ" للتَعْليلِ: وهي هنا لام العاقبة التي تَدخل على الفعل. وهي تعني أنَّنا ربما نَقومُ بفِعْلٍ مّا لهدفٍ مُعَينٍ، وتكون عاقبتُه شَيْئاً آخَرَ تماماً غيرَ الذي قَصَدْناهُ، بَلْ رُبما تَكونُ عَكْسَ الذي قَصَدْناهُ. وقدْ تَعَلَّقتْ بِفِعْلِ الإرادَةِ للدَلالَةِ عَلى أَنَّ المُرادَ حِكْمَةٌ وعِلَّةٌ فتُغْني عَنْ مَفعولِ الإرادَةِ، وأَصْلُ فِعْلِ الإرادةِ أَنْ يُعَدَّى بِنَفْسِهِ كقولِهِ تَعالى في سورةِ البَقَرَةِ: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} الآية: 185. ويُعَدَّى غالباً باللامِ كَما في هَذِه الآية. وكقولِهِ تعالى في سُورَةِ النِساءِ: {يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} الآية: 26. ومنهُ قولُ أبي صَخْرٍ الهُذَلي:
أريدُ لأَنْسَى حُبَّها فكأنَّما ................... تَمَثَّلُ لي ليلى بكلِّ طَريقِ
وربمّا عَدَّوْهُ باللامِ و ب "كي" مُبالَغةً في التَعليلِ كما في قولِ قيسِ بْنِ سعدِ بْنِ عُبادَةَ الخزرجيُّ:
أَرَدْتُ لِكَيْما يَعْلَمَ الناسُ أَنَّها ........... سراويلُ قيسٍ والوُفودُ شُهودُ
وهذِهِ اللامُ كثيرٌ وُقوعُها بعدَ مادَّةِ الإرادَِةِ ومادَّةِ الأَمرِ. وبَعضُ القُرّاءِ سمّاها (لامَ أَنْ) بفتح الهَمْزةِ، وتَقَدَّمَ عِنْدَ قولِهِ تَعالى: {يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} في سُورَةِ النِساءِ، الآية: 26.
فقولُهُ: "فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا" مُتَعَلِّقٌ بِ "يُعَذِّبَهُمْ" ومحاولةُ التَقْديمِ والتَأْخيرِ تَعَسُّفٌ وعَطْفٌ "وَتَزْهَقَ" على "لِيُعَذِّبَهُمْ" باعتبارِ كونِهِ إرادة اللهِ لهم عِنْدَما رَزَقَهم الأَمْوالَ والأَوْلادَ فيُعْلَمُ مِنْهُ: أَنَّهُ أَرادَ مَوْتَهم على الكُفْرِ، فيَسْتَغْرِقُ التَعذيبُ بأَمْوالهم وأَوْلادِهم حياتَهم كلَّها، لأَنَّهم لو آمَنوا في جُزْءٍ مِنْ آخِرِ حياتِهم لحَصَلَ لَهم في ذلك الزَمَنِ انْتِفاعٌ مّا بأَموالِهم ولَوْ مَعَ الشُحِّ.
وقولُه: {وَهُمْ كَافِرُونَ} هذِهِ الجملَةُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ على الحالِ مِنَ الضَميرِ المُضافِ إليْهِ لأنَّهُ إذا زَهَقَتِ النَفْسُ في حالِ الكُفْرِ فقدْ ماتَ كافِراً.