لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ
(66)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} يَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِهَؤُلاَءِ المُنَافِقِينَ المستهزئين بما يَجِبُ إجْلالُهُ واحْتِرامُهُ وتَوْقيرهُ: لاَ تَعْتَذِرُوا عَمَّا قُلْتُمْ، فَقَدْ كَفَرْتُمْ بِهَذَا القَوْلِ الذِي اسْتَهْزَأْتُمْ بِهِ بِآيَاتِ اللهِ. وظَهَرَ كُفْرُكُم وثَبُتَ، بَعدَ إظهارِكُمُ الإِيمانَ على سَبيلِ المُخادَعَةِ، فإذا كُنّا قبلَ ذلكَ نُعامِلُكم مُعامَلَةَ المُسْلِمين بِمُقْتَضى نُطْقِكم بالشَهادَتينِ، فَنَحْنُ مِنَ الآنَ سنُعامِلُكم مُعامَلَةَ الكافرين، بسبب استهزائكم باللهِ وآياتِه ورَسولِهِ ـ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، لأنَّ الاسْتِهْزاءَ بالدين بابٌ من أبوابِ الكُفْرِ، لأنَّهُ يَدُلُّ على الاسْتِخْفافِ، والأَساسُ الأوَّلُ في الإِيمان تَعْظيم اللهِ تعالى بأَقْصى الإِمْكانِ، والجمعُ بينَهُما مُحالٌ. وَاعْتِذَارُكُمْ هُوَ إِقْرَارٌ بِذَنْبِكُمْ، وكأنَّه يقولُ لهم لا تَفْعلوا ما لا يَنْفَعُ، تَأْكيداً لإِبْطالِ ما أَظْهَروهُ مِنْ مَعاذيرَ.
والاعتذار: التَنَصُّل مِنَ الذَّنْبِ، ومحاولَةُ محْوِ أَثَرِهِ، وهو مَأْخوذٌ مِنْ قولهم: مِنْ تعذَّرَتِ المَنازِلُ إذا انْدَثَرَتْ وزَالَتْ، أَي: دَرَسَتْ وامَّحى أَثَرُها، لأنَّ المعتَذِرَ يحاوِلُ إزالةَ أَثَرِ ذَنْبِهِ قال ابْنُ أَحمرَ:
قد كنتَ تعرف آياتٍ فقد جعلَتْ ...... أطلالُ إلفِك بالوَعْساء تعتذِرُ
فالمعتذرُ يُزاوِلُ محوَ ذَنْبِهِ. وقيلَ: أَصْلُهُ مِنَ العَذْرِ وهُوُ القَطْعُ، ومِنْهُ يُقالُ لِقَلَفَةِ الذكرِ عُذْرَة لأنّها تُعْذَرُ أيْ تُقْطَعُ، ويقالُ لِبُكارَةِ الأنثى عُذْرَةً أيضاً لأَنَّها تُقْطَعُ بالافْتِراعِ. قال ابْنُ الأَعْرابيِّ: يَقولون: اعْتَذَرَتِ المِياهُ، أَيْ: انْقَطَعَتْ، وكأَنَّ المُعْتَذِرَ حينَ يُقَدِّمُ عُذرَهُ إنَّما يُحاوِلُ قَطْعَ الذَمِّ عَنْهُ واللومِ أَوِ العُقوبةَ.
قولُهُ: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً} يُعْلِنُ الحقُّ تبارك وتعالى أَنَّ الطائفةَ التي سَتَتوبُ تَوْبةً صادقةً، والتي لم تَشْتَركْ في هذا الخَوْضِ سَيَغْفِرُ لها. أَمَّا الذين بَقَوْا على نِفاقِهم وإجْرامِهم، فسوفَ يُعذِّبُهم الحقَّ سُبْحانَهُ. فَإنْ يَعْفُ اللهُ تَعَالَى عَنْ بَعْضِكُمْ لِتَوْبَتِهِمْ، فَإِنَّهُ سَيُعَذِّبُ بَعْضكمُ الآخَرَ، فلم يُوصِدْ الحقُّ تعالى بابَ التَوْبَةِ أَمامَهم، بَعْدَ أَنْ كَشَفَ اللهُ تعالى ما في نُفوسِهِم. قالَ محمَّدُ بْنُ إسْحاقَ: الذي عُفِيَ عَنْهُ رَجُلٌ واحدٌ هُوَ يَحيى بْنُ حُمَيِّر الأَشْجَعيُّ، فإنَّه لمَّا نَزَلَتْ هذِهِ الآيةُ تَابَ عَنْ نِفاقِهِ وقالَ: اللهمَّ إني لا أَزالُ أَسمَعُ آيةً تَقْشَعِرُّ مِنْها الجُلودُ وتجِبُ منها القُلوبُ، اللَّهمَّ اجْعَلْ وَفاتي قَتْلاً في سَبيلِكَ لا يَقولُ أَحَدٌ: أَنَا غَسَّلْتُ، أَنَا كَفَّنْتُ، أَنَا دَفَنْتُ، فأُصيبَ يَومَ اليَمامَةِ فما أَحَدٌ مِنَ المُسْلِمينَ إلاَّ عُرِفَ مَصْرَعُهُ غيرَهُ.
قولُهُ: {بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} لأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ بِهَذِهِ المَقَالَة الفَاجِرَةِ، وَلأَنَّهُمْ ظَلُّوا مُصِرِّينَ عَلَى نِفَاقِهِمْ. والإجْرامُ هُوَ القَطْعُ، وجَرَمْتُ الثَّمَرَةَ أَيْ قَطَعْتُها، وقد سُمِّيَ إِجْراماً لأَنَّهُ قَطَعَ حَقّاً عَنْ باطِلٍ، أَيْ: الذين قَطَعوا واقعَهم عن الإيمان بِقُلوبهم وسُلُوكِهم.
قوله تعالى: {إِنْ تُعْفَ} القائم مقامَ الفاعلِ إمّا ضَميرُ الذُنوبِ أَيْ: إنْ تُعْفَ هَذْهِ الذُنوبُ. وإمّا أَنَّه الجارُّ، وإنما أُنِّثَ الفعلُ حَمْلاً على المعنى. والوَجْهُ التَذكيرُ، لأَنَّ المُسنَدَ إلَيْهِ الظَرْفُ، كما تَقولُ: سِيرَ بالدّابَةِ. ولا تقول: سِيرَتْ بالدابَّةِ، وكأنَّهُ قيلَ: إِنْ تُرحَمْ طائفةٌ، فأنَّثَ لِذلكَ.
وقولُه: {أَبِاللهِ} تقدَّم المعمولُ على فعلِهِ العامِلِ فيهِ لِقَصْدِ قَصْرِ التَعيينِ لأنَّهم لما أَتَوا في اعْتِذارِهِمْ بِصيغَةِ قَصْرِ تَعيينٍ "إنّما" جِيءَ في الرَدِّ عَلَيْهم بِصِيغَة قَصْرِ تَعيينٍ لإبْطالِ مُغالَطَتَهم في الجواب.
قولُه: {بأنَّهم كانواْ} المَصْدَرُ المؤوَّلُ من أنَّ وما بعدها مجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِ "نُعذِّبْ"، والجمْلَتانِ "قد كفرتم" و "إِنْ نَعْفُ" مُسْتَأْنَفَتانِ لا محَلَّ لهُما.
قرأ الجمهورُ: {يُعْفَ} في الموضعين بالياءِ مِنْ تحتِ مَبْنِيَّاً للمَفعولِ، ورَفْعِ "طائفةٌ" على قيامِها مَقامَ الفاعِلِ. والقائمُ مقامَ الفاعل في الفعل الأوَّلِ الجارُّ بعدَهُ. وقرأَ عاصم "نَعْفُ" بنونِ العظمةِ، و "نُعَذِّب" كذلك أَيضاً، "طائفةً" نَصْباً على المفعوليَّة، وهي قراءاتُ أَبي عبدِ الرحمنِ السُلَمِيِّ، وزيدِ بْنِ عَلِيٍّ أيضاً. وقرأَ الجحدريُّ: "إنْ يَعْفُ" بالياءِ مِنْ تحتِ فيهِما مَبنياً للفاعِلِ وهوَ ضميرُ اللهُ تَعالى، ونَصَبَ "طائفةً" على المفعولِ بِهِ، وقرَأَ مجاهِدٌ "تَعْفُ" بالتاءِ مِنْ فوْقِ فيهِما مَبْنيَّاً للفاعِلِ وهوَ ضميرَ اللهِ تَعالى، ونَصْبِ "طائفةً" على المفعولِ بِهِ. وقرأَ مجاهِد: "تُعفَ" بالتاءِ مِنْ فوقِ فيهِما مَبْنِيّاً للمَفْعولِ ورَفْعِ "طائفةٌ" لقيامها مَقامَ الفاعل.