يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ
(35)
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} حَمْيُ الشيءِ رَفْعُ درجة حَرارتِهِ بِشِدَّةُ. وحمِيَ الشيءُ: اشْتَدَّ حَرُّهُ. ويجوزُ أَنْ يَكونَ مِنْ حمَيْتُ الثلاثيِّ ومن أَحميتٌ الرباعيِّ، فتقولُ: حمَيْتُ الحديدَ وأَحميتُه، أي: أَوْقدتُ عليه لِيحْمى. فالمعنى أَنَّ المَالُ الذِي لَمْ تُؤدَّ زَكَاتُهُ سَيُحمَى عَلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ حتى ترتفع حرارتُه ويُصبحَ جمراً ملتهباً، وبإضافَةِ النارِ إلى جهنَّمَ عُلِمَ أَنَّ المَحْمِيَّ هو نارُ جَهنَّم التي هيَ أَشَدُّ نارٍ حرارةً، فجَاءَ هذا التركيبُ بَديعاً مِنَ البَلاغَةِ والمُبالَغَةِ في إيجازٍ.
وَبعد أَنْ يُحْمى على هذا المالِ الذي كُنِزَ ولم تُؤَدَّ زكاتُه، حتى يَكونَ مُلْتِهِباً كالجمرِ، ستُكْوَى بِهِ جِبَاهُ أَصْحَابِهِ الذين كَنَزوهُ ولمْ يُؤدُّوا زَكاتَهُ، وَكذلك تكوى به جُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ أيضاً. والكَيُّ: أَنْ يُوضَعَ على الجِِلْدِ الشيءُ الحاميِ، سواءً أكانَ جمراً ملتهباً أَوْ أيَّ شيءٍ آخرَ، حتى يحْترِقَ الجلدُ.
والجِباهُ: جمعُ جَبْهَةٍ، وهيَ أَعْلى الوَجْهِ مما يَلي الرَأْسَ. والجُنُوبُ: جمعُ جَنْبٍ، وهُوَ جانِبُ الجَسَدِ مِنَ جهة اليَمين أَوْ من جهةِ اليَسار. والظُهُورُ: جمعُ ظَهْرٍ، وهو ما بين العَنْفَقَةِ في الرقبةِ إلى مُنْتَهى فِقارِ العَظْمِ أسفل الظَهْرِ.
واتبعَ في التَعبيرِ عَنْ التَعْميمِ أُسْلوبَ الإطْنابِ بأن عدَّدَ الأَماكِنَ التي سَتُكوى، لاسْتِحْضارِ حالَةِ ذَلكَ العِقابِ الأَليمِ، تَهويلاً لِشَأْنِهِ، فلم يقل: فَتُكْوى بها أَجْسادُهم. فإنَّ السامع يستشعرُ حالة الإحساسِ بألمِ الكيِّ مَعَ كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْ هذِهِ المَواضِعِ التي سَتُكوى، والمعنى: أنَّ الكيَّ سَيَعُمُّ جِهاتِ الجَسَدِ كلَّها، فإنَّ تِلْكَ الجِهاتِ مُتَفاوتَةٌ ومختَلِفَةُ الإحْساسِ بِالأَلمِ، فيَحْصُلُ مَعَ تَعميمِ الكَيِّ إذاقةٌ لأَصْنافٍ مِنَ الآلام.
ثمَّ إنَّ إحضارَ تِلكَ الدَّراهِمِ والدَنانيرِ لَتُحْمى هو شأنٌ مِنْ شُؤونِ الآخِرَةِ الخارِقَةِ لِكُلِّ ما اعتدنا عليه وأَلفناهُ في الدنيا، فإنَّ تلك الدَنانيرَ والدَراهمَ التي مُنِعَتْ زَكاتُها ولم تؤدَّ في الدنيا، تُحضَرُ جميعُها بقُدْرَةِ اللهِ تعالى أوْ أَمثالُها، كما جاءَ في الحديثِ الشرف الذي أُخرج في "المُوَطِّأ" و "الصَحيحين" أَنَّهُ يُمَثَّلُ لَصاحبِهِ شُجاعاً أَقْرَعَ يَأْخُذُ بِلَهزمَتَيْهِ ويقول: "أَنَا مالُكَ أَنَا كَنْزُكَ" ويكوى به الممتَنِعونَ مِنْ إنفاق زكاتِهِ في سبيلِ اللهِ، وإنْ تَداولَ أَعيانَها في الدنيا خَلقٌ كَثيرٌ وتناقلتْها الأيدي، وانتقلت مِنْ بَلَدٍ إلى آخر، ومِنْ عَصْرٍ إلى عَصْرٍ.
وهذا تَفصيلٌ للعَذاب الأليم الذي سوف يَذوقونَه، وبيانٌ لميقاتِهِ، لعلَّ البُخلاءَ يُقلعوا عن بُخْلهم، ويتخلَّص الأشِحّاءُ من شُحِّهم.
وإنما غَلَّظَ سبحانَه هذا الوَعيدَ لما في طِباعِ النُفوسِ مِنَ الشُحِّ بالأَمْوالِ لِيَسْهُلَ عليهم إخْراجُها في الحُقوق.
أخرج الشيخان، وأَبو داوودَ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وابْنُ مردويْهِ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، قال: ما مِنْ صاحِبِ ذَهَبٍ ولا فِضَّةٍ لا يُؤدِّي حَقَّها إلاَّ جُعِلَتْ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ صَفائحَ، ثمَّ أُحميَ عَليها في نارِ جَهَنَّمَ، ثمَّ يُكْوى بها جَبينُهُ وجَبْهَتُهُ وظَهْرُهُ في يومٍ كانَ مِقْدارُهُ خمسينَ أَلْفَ سَنَة حتى يُقضي بين الناسِ، فيَرى سَبيلَهُ إمَّا إلى الجَنَّةِ أَوْ إلى النارِ)). وأَخرجَ أَبو يَعلى، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: قالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: لا يُوضَعُ الدينارُ على الدِينارِ ولا الدِرْهَمُ على الدِرْهَمِ، ولكنْ يُوَسِّعُ اللهُ جِلْدَهُ "فَتُكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون)). وهذا يعني أنَّ العذابَ أيضاً بقدْرِ المالِ المكنوزِ فكلما كثُرَ ازدادَ الجلدُ اتِّساعاً ليزدادَ العذابُ. وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ، والطَبرانيُّ، وأَبو الشَيْخِ، عَنِ عبدِ اللهِ ابْنِ مُسعودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، بمعناه. وكذلك ابْنُ المُنذِرِ فقد أَخرَجَ حديثاً آخر بمعناه عَنِ ابْنِ عبّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما.
قولُهُ: {هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} وَسَيُقَالُ لَهُمْ تَبْكِيتاً وَتَقْرِيعاً: هَذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَلَمْ تُؤَدُّوا مِنْهُ حَقَّ اللهِ، وَهَذَا مَا خَبَّأْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا طَعْمَهُ الآنَ عَذَاباً أَلِيماً، ليتضاعفَ عذابُهم، وتتمكَّنَ الحسرةُ من قلوبهم. والذَوْقُ مَجازٌ في الحِسِّ بِعلاقَةِ الإطْلاق.
أَخْرَجَ أَبو الشَيْخِ عَنِ ابْنِ عبّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهم جميعاً، قولَهُ في قولِهِ تعالى: "يومَ يُحْمَى عَلَيْها". قال: حَيَّةٌ تَنْطَوي على جَنْبَيْهِ وجَبْهَتِهِ فتَقول: أَنَا مالُكَ الذي بَخِلْتَ بي.
وأَخرجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ عَنْ ثَوْبَان ـ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ما مِنْ رَجُلٍ يَموتُ وعِنْدَهُ أَحمرُ وأَبْيضُ إلاَّ جَعَلَ اللهُ لَهُ بِكُلِّ قيراطٍ صَفْحَةً مِنْ نارٍ تُكْوى بها قَدَمُهُ إلى ذَقْنِهِ مَغْفُوراً لَهُ بَعْدُ أَوْ مُعَذَّباً. قلتُ وهذا لأنَّ زكاةَ هذا المالِ هي من حقِّ الفقيرِ الذي فرضَهُ اللهُ في مال الغنيِّ، وليست من حقِّهِ ـ سبحانَهُ وتعالى واللهُ لا يَغْفِرُ حقوقَ الخلقِ بعضهم على بعضٍ وإنَّما يغفر حقوقه إن شاء. واللهُ أعلم.
وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنْ ثوبان ـ رَضيَ الله عنه، نحوَهُ مَرْفوعاً.
قوله تعالى: {يَوْمَ يحمى عليها} يوم: ظَرْفُ زمانٍ والعاملُ فيهِ {عذاب أليم} من الآية السابقة لهذه الآية، لما فيه من معنى (يُعذِبون) فهو منصوبٌ به، وقيل: هو منصوبٌ بمحذوفٍ يدلُّ عليه "عذاب" أي: يُعَذَّبون يوم يُحمى، أَوْ هو منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ ب (اذْكَرْ يومَ يُحْمى). وقيل: هو منصوبٌ بأليم. وقيلَ: الأصلُ: عذاب يوم، وعذاب بدلٌ مِنْ عذابٍ الأوَّل، فلمَّا حُذِفَ المضافُ أُقيمَ المضافُ إليه مُقامَه. و "يحمى" فاعلُه المحذوفُ هُوَ النارُ تَقديرُه: يوم تُحمى النارُ عليها، فلما حُذِفَ الفاعلُ ذهبت علامةُ التأنيث لذَهابِه، كقولك: رُفِعَت القضيةُ إلى الأمير، ثمَّ تقول: رُفع إلى الأمير. وقيل: المعنى: يُحْمَى الوقود. و "عليها" جارٌّ مجرورٌ في موضع رَفْعٍ لقيامه مقامَ الفاعل. ويجوز أن يكون القائم مقام الفاعل مضمراً، أي: يحمى الوقود أو الجمر عليها.
قولُهُ: {هذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ} معمولٌ لقولٍ محذوفٍ، أيْ: يُقال لهم ذلك يومَ يحمى.
وقوله: {مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} أيْ: جزاءَ ما كنتم؛ لأنَّ المكنوزَ لا يُذاق. و "ما" يجوزُ أَنْ تَكون بمعنى الذي، فالعائدُ محذوفٌ، ويجوزُ أَنْ تكونَ مَصدَريَّةُ.
قرأ العامةُ: {يُحمى} بالياء، وقرأ الحسن: "تُحْمَى" بالتاء من فوق أي: النار وهي تؤيد التأويل الأول.
قرأ العامَّةُ: {تكوى} بالتاء، وقرأ أبو حيوة: "يُكوى" بالياء من تحت، لأن تأنيثَ الفاعلِ مجازيٌّ.
وقرأ الجمهور: "جباهُهم" بالإِظهار، وقرأ أبو عمرو في بعض طرقه بالإِدغام كما أَدْغم: {سَلَكَكُمْ} المدثر: 42. {مَّنَاسِكَكُمْ} البقرة: 200، ومثل: جباههم: "وجوههم" المشهور الإِظهار. وقرأ قوم « جباهم » بالإدغام وأَشَمُّوها الضَمَّ حَكاهُ أَبو حاتم.
وقرأ الجمهور: {تكنزون} بكسر عين المضارع، وقرئ "تَكْنُزون" بضمها، وهما لغتان يقال: كَنَزَ يَكْنِز، وكَنَزَ يَكْنُز.