لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)
قولُهُ: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} خِطابٌ لجَميعِ المؤمنينَ في عَهْدِ النبوَّةِ، يُذَكِّرُهُم فيهِ بِفَضْلِهِ عَلَيهِمْ، وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، بِأَنْ نَصْرَهم فِي مَوَاقِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ غَزَوَاتِهِمْ، وهذِه المَواطِنُ المُشارُ إليها أو المعاركُ هي بَدْرٌ، والخَنْدَقُ، والنَضيرُ، وقُريْظَةَ، وفتحُ مَكَّة، وتلِكَ الانْتصاراتُ كُلُّها إنَّما كَانَت مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَبَتَأيِيدِهِ وَتَقْدِيرِهِ، لاَ بِعَدَدِ المُسْلِمِينَ، وَلاَ بِعُدَدِهِمْ، وَلاَ بِعَصَبِيَّتِهِمْ، وَلا بِقُوَّتِهِمْ، وَلاَ بِكَثْرَةِ أمْوَالِهِمْ. لِيُنَبِّهَهُمْ إلى أَنَّ النَّصْرَ إنّما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وحدَهُ، قَلَّ الجَمْعُ أوْ كَثُرَ.
وقد كانت هذِهِ الآيةُ أَوَّلَ ما أَنْزَلَ اللهُ تَعالى مِنْ سُورَةِ (بَراءة)، فيما أَخْرَجَ الفِرْيابيُّ، وابْنُ حاتمٍ، وابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وابْنُ المُنْذِرِ، وغيرُهم عَنْ مجاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وذَلِكَ لِيُعَرِّفَهم نَصْرَهُ ويُوَطِّنَهم لِغَزْوَةِ تَبوك.
قولُهُ: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} فِي يَوْمِ حُنَينٍ داخلَ العُجْبُ نفوسَ المُسْلِمِينِ بِكَثْرَتهِمْ، حتى قال قائلهم: لَنْ نُغلَبَ اليومَ مِنْ قلَّةٍ، فَلَمْ تنفعْهُمْ كثرتُهم هذه شَيْئاً، ووَلَّوا مُدْبِرِينَ حَتَّى ضَاقَتْ عَلَيْهِم الأَرْضَ، عَلَى سَعَتِها، مِنْ شِدَّةِ فَزَعِهِمْ، فَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَى النَّجَاةِ سَبِيلاً، وَلَمْ يَثْبُتْ مِنْهُمْ إلاَّ عَدَدٌ قَلِيلٌ مَعَ الرَّسُولِ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، فقد شاء اللهً أنْ يلقِّنهم والمؤمنينَ من بعدهم إلى يوم القيامةِ بأنَّ النصرَ هو من عنده وحدَه يؤتيه مَن يشاءُ من عبادِه، فقد نصرهم لما كانوا قلّةً ضعفاءَ لا يكادُ عدَدُهم يتجاوز الثلاثَ مئةِ رجلهم، حين توكَّلوا عليهِ، وانهزَموا وهم جيشٌ جرّارٌ يتجاوز تعدادُه الاثني عشر ألفاً مدجَّجين بالسلاحِ أمامَ أربعة آلافِ مقاتلٍ لمّا اطمأنوا إلى قوَّتهم واعتمدوا على كثرتهم، والنبيُّ بين أَظْهُرِهم، فكيفَ بمَنْ بَعْدَهم. لقد كَانَ ذَلِكَ ابْتِلاءً مِنَ اللهِ لَهُمْ عَلَى عُجْبِهِم بِكَثْرَتِهِمْ. ودرساً للمؤمنين في كلِّ زمانٍ وفي كلِّ مكانٍ.
و "حُنَيْن" ماءٌ بَين مَكَّةَ والطائِفِ، في وادٍ إلى جَنْبِ ذِي المَجَازِ، حيثُ قاتَلَ النَبيُّ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فيهِ هَوازِنَ وعليها مالكُ بْنُ عَوْفٍ، وثَقيفَ وعَلَيْها عَبْدُ يَالِيلَ بْنُ عَمْرٍو الثَقَفِيُّ. فقد بَلَغَ رَسولَ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ، أَنَّ هَوزانَ جمَعوا لَهُ لِيُقاتِلوهُ، ومعَهم ثَقيفٌ بِكامِلِها، وبَنُو سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ. كانَ ذلك بَعْدَ فَتْحِ مكَّةَ بِنِصْفِ شَهْرٍ أيْ في شَوال سَنَةَ ثمانٍ مِنْ الهِجْرَةِ: بَعدَ أَنْ فَرَغَ ـ صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، مِنْ فَتْحِ مَكَّةَ، وتَمَهَّدَتْ أُمُورُها، وأَسْلَمَ عامَّةُ أَهْلِها، وأَطْلَقَهم.
فخَرَجَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، في جيشِهِ الذي فَتَحَ به مكةَ وقوامُه عَشَرَةُ آلافٍ مِنَ المُهاجرينَ والأَنْصارِ وقَبائلِ العَرَبِ، ومَعهم ألفان مِنْ أَهلِ مَكَّةَ الذين أَسْلموا وعلى رأسِهم زعيمهم أَبو سُفيانَ بنُ حربٍ. فسَارَ بِهمْ حتى الْتَقوا بعدوُّهم في حُنين، فكانَتْ فيه الموقِعةُ أَوَّلَ النَهارِ في غَلَسِ الصُبْحِ. إذِ انْحَدروا في الوادي، وقدْ كَمَنَتْ لهم فيهِ هَوَزانُ، فلم يَشْعُرِ المُسْلِمونَ بهم إلاَّ حين بادروهم بالنبالِ، يرشقونهم بها، وحملوا عليهم حملةَ رَجُلٍ واحِدٍ مصلتي السيوفِ. فولى المسلمونَ الأَدْبارَ، وثَبَتَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وثَبَتَ مَعَهُ ما يقرُبُ المئةَ مِنْ أصحابِهِ منهم عمّهُ العباسُ وأبو سفيانَ بنُ حربٍ الذي أرادَ أن يكفِّرَ عمَّا سَلَفَ منه في عداء المسلمين وحربهم. ثمَّ أَمَرَ ـ صلى الله عليه وسلم، عمَّهُ العبَّاسَ ـ وكانَ جهيرَ الصَوْتِ، أَنْ يُنادى بِأَعلى صوتِهِ يا أَصْحابَ الشَجَرَةِ ـ مذكِّراً أهلَ بَيْعَةِ الرِضوانِ الذين بايعوه تحتَها على أَنْ لا يَفِرّوا عَنْهُ، فجَعَلوا يَقولُونَ: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ. وانْعَطَفَ الناسَ ورجَعوا. فأَمَرَهم رَسولُ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، أَنْ يَصْدُقوا الحَمْلةَ، وأَخَذَ قَبْضَةً مِنْ تُرابٍ ثمَّ رَمى بها وجوه القَوْمِ، كما فعلَ في بدرٍ، فما بَقِي رجلٌ مِنْهم إلاَّ أَصابَهُ مِنها في عَيْنَيْهِ وفَمِهِ ما شَغَلَهُ عَنِ القِتالِ، ثمَّ انْهَزَموا فاتَّبَعَ المُسلمون أَقْفاءَهم يَقْتُلونَ ويَأْسُرونَ، وما تَراجَعَ بَقِيَّةُ الناسِ إلاَّ والأَسْرى في الأغلالِ بينَ يَدَيْهِ ـ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ.
أَخْرَجَ البَيْهَقِيُّ في الدَلائِلِ عَنِ الرَبيعِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنُْه، أَنَّ رَجُلاً قالَ يَومَ حُنينٍ: لَنْ نُغْلَبَ مِنْ قِلَّةٍ. فَشَقَّ ذَلكَ على رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ، فأَنْزَلَ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ: "ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم" قالَ الرَبيعُ: وكانوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفاً، مِنْهم أَلْفانِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ.
وأَخرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ وأحمدُ والحاكمُ وصَحَّحَهُ وابْنُ مردويْهِ والبَيْهَقيُّ في الدلائلِ عَنْ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنه. أَنَّ هَوازِنَ جاءتْ يَوْمَ حُنَينٍ بالنِساءِ والصِبْيانِ والإِبِلِ والغِنَمِ، فجَعلوهُم صُفوفاً لِيَكْثُروا عَلى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، فالتَقى المُسلمونَ والمُشْرِكونَ، فوَلَّى المُسْلَمونَ مُدْبِرينَ كما قالَ اللهُ ـ عَزَّ وجَلَّ، فقالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، يا عبادَ اللهِ أَنَا عَبْدُ اللهِ ورَسولُهُ، ثمَّ قالَ: يا مَعْشَرَ الأَنْصارِ أَنَا عَبْدُ اللهِ ورَسُولُهُ، فهَزَمَ اللهُ المُشْرِكينَ، ولم يَضْرِبْ بِسَيْفٍ، ولم يَطْعَنْ بِرُمْحٍ.
وأَخرَجَ عبدُ الرَزّاقِ، وابْنُ سَعْدٍ وأَحمدُ ومُسلم والنَسائيُّ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبي حاتمٍ والحاكمُ وصَحَّحَهُ وابْنُ مَرْدَويْهِ عَنِ العَبَّاسِ بْنِ عَبدِ المُطَّلِبِ قال: شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، يومَ حُنينٍ، فلَقدْ رَأَيْتُ النَبيَّ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وما مَعَهُ إلاَّ أَنَا وأَبو سُفيانَ بْنُ الحَرْثِ بْنُ عبدِ المُطَّلِبِ، فَلِزِمْنا رَسُولَ اللهِ فَلَمْ نُفارِقْهُ وهُوَ على بَغْلَتِهِ الشَهباءِ التي أَهْداها لَهُ فَرْوَةُ بْنُ مُعاوِيَةَ الجُذامِيُّ، فلَمَّا الْتَقى المُسلِمونَ والمُشرِكون، ولّى المسلمونَ مُدْبِرينَ وطَفِقَ النَبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، يُرْكِضُ بَغْلَتَهُ قِبَلَ الكُفَّارِ، وأَنَا آخِذٌ بِلِجامِها أَكُفُّها إرادةَ أَنْ لا تُسْرِعَ وهو لا يَأْلو ما أَسْرَعَ نحوَ المُشْرِكينَ، وأَبو سُفيانَ بْنُ الحَرْثِ آخِذٌ بِغرزِ رَسولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ. فقالَ رَسُولُ الله صَلّى اللهُ عليه وسَلَّم: يا عبَّاسُ نادي أَصْحابَ السَمُرَةِ يا أَصْحابَ البَقَرَةِ، فو اللهِ لَكَأني عَطَفْتُهم حِينَ سمِعوا صَوتي عطْفَةَ البَقَرَةِ على أَوْلادِها يُنادونَ يا لَبَّيْكَ يا لَبَّيْك، فأَقبلَ المُسلمون فاقْتَتَلوا هُمْ والكُفَّارُ، وارْتَفَعَتِ الأَصْواتُ وهُمْ يَقولونَ: يا مَعْشرَ الأَنْصارِ، يا مَعْشَرَ الأَنْصارِ. ثمَّ قُصِرَتِ الدَعوةُ على بَني الحَرْثِ بْنِ الخَزْرَجِ، فَتَطاوَلَ رَسُولُ اللهِ ـ صلّى اللهُ عليهِ وسَلّمَ، وهو على بَغْلَتِهِ فقالَ: هذا حينَ حميَ الوَطيسُ، ثمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، حُصيَّاتٍ فرَمى بهِنَّ وُجوهَ الكُفَّارِ، ثمَّ قالَ: انْهَزَموا ورَبِّ الكَعْبَةِ. فذَهَبْتُ أَنْظُرُ فإذا القِتالُ على هَيْنَتِهِ فيما أَرْى، فما هُو إلاَّ أنْ رَماهُم رَسُولُ اللهِ ـ صلّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ بحُصَيَّاتٍ، فما زَلتُ أَرَى حَدَّهم كَليلاً وأَمْرَهم مُدْبِراً حتى هَزَمَهُمُ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ.
وأَخرَجَ الحاكِمُ وصَحَّحهُ عَنْ جابرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنه، قالَ: نَدَبَ رَسولُ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، يومَ حُنينٍ الأَنْصارَ فقالَ: ((يا مَعْشَرَ الأَنْصارِ)). فأَجابوهُ لَبَّيْكَ ـ بِأَبينا أَنْتَ وأُمِّنا، يا رَسُولَ اللهِ. قالَ: ((أقبلوا بِوُجوهِكم إلى اللهِ ورَسُولِهِ يُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تجْري مِنْ تحتِها الأَنهارُ)). فأَقْبَلوا ولهم حَنينٌ حتى أَحْدَقوا بِهِ كَبكبة تحاكُ مَناكِبُهم يُقاتِلونَ حَتى هَزَمَ اللهُ المُشْرِكين.
قولُهُ تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} عطفٌ على محلِّ قَوْلِهِ "في مواطنَ"، عَطَفَ ظَرْفَ الزَمانِ مِنْ غيرِ واسِطَةِ "في" على ظَرْفِ المَكان المجرورِ بها. ولا غَرْوَ في نَسَقِ ظَرفِ زَمانٍ على مَكانٍ أَوِ العَكْس تَقولُ: "سِرْتُ أَمامَكَ يَومَ الجُمُعةِ" إلا أَنَّ الأَحْسَنَ أَنْ يُتْركَ العاطفُ مِثله. وزَعَمَ ابْنُ عَطيَّةَ أَنَّه يجوزُ أَنْ يُعْطَفَ على لَفْظِ "مواطن" بِتَقديرِ: "وفي"، فحَذَفَ حرفَ الخَفْضِ. وهذا لا حاجةَ إليه. وقالَ الزَمخْشَرِيُّ: فإنْ قلتَ: كَيْفَ عطفَ الزمانَ على المكان، وهو "يوم حنين" على "مواطن"؟، قلتُ: معناه: وَمَوْطِن يومِ حُنينٍ أَوْ في أَيامِ مَواطنَ كَثيرةٍ ويَوْمَ حُنين. ويجوزُ أَنْ يُرادَ بالمواطِنِ الأَوْقاتُ، فيكون حينئذٍ عَطْفَ زَمانٍ على زَمانٍ. وقالَ الزمخشريُّ بعدما تقَدَّمَ عنه: ويجوزُ أَنْ يُرادَ بالمَواطِنِ الوقتُ، على أَنَّ الواجبَ أَنْ يَكونَ "يومَ حُنينٍ" مَنْصوباً بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ لا بهذا الظاهر. ومُوْجِبُ ذلك أَنَّ قولَهُ: "إذا أعجبتكم" بدلٌ من "يوم حنين"، فلو جَعَلْتَ ناصبَه هذا الظاهرَ لم يصحَّ؛ لأنَّ كثرتَهم لم تُعْجبهم في جميع تلك المواطن، ولم يكونوا كثيرين في جميعها، فبقي أَنْ يَكونَ ناصبُه فعْلاً خاصّاً بِهِ. ولا أَدْرِي ما حَمَلَهُ على تقدير أحد المضافين أو على تأويل الموطن بالوقت ليصحَّ عَطْفُ زمانٍ على زمان ، أو مكان على مكان ، إذ يصحُّ عَطْفُ أحدُ الظرفين على الآخر؟
وأمَّا قولُه: على أن الواجبَ أن يكون إلى آخره. كلامٌ حسن، وتقديره أن الفعلَ مقيدٌ بظرفِ المكان ، فإذا جعلنا "إذ" بدلاً من "يوم" كان معمولاً له؛ لأنَّ البدلَ يَحُلُّ مَحَلَّ المبدل منه، فيلزم أنه نصرهم إذا أعجبتهم كثرتُهم في مواطن كثيرة، والفرض أنهم في بعض هذه المواطن لم يكونوا بهذه الصفة. إلا أنه قد ينقدح فإنه تعالى لم يقل: في جميع المواطن حتى يلزم ما قال، ويمكن أن يكونَ أراد بالكثرة الجميعَ، كما يُراد بالقلة العدمُ.
قوله: {بِمَا رَحُبَتْ} ما: مصدريةٌ أي: رَحْبها وسَعَتها. وقرأ زيد ابن علي في الموضعين: "رَحْبَت" بسكون العين، وهي لغة تميم، يَسْلُبون عين فَعُل فيقولون في شَرُف: شَرْف.
والرُّحْب بالضم: السَّعَة، وبالفتح: الشيء الواسع. يقال: رَحُب المكان يَرْحُب رُحْباً ورَحَابة وهو قاصر. فأمَّا تعدِّيه في قولهم: "رَحُبَتْكم الدار" فعلى التضمين لأنه بمعنى وَسِعَتْكم.
وحُنَيْن اسمُ وادٍ، فلذلك صَرَفَه. وبعضُهم جعله اسماً للبقعة فَمَنَعَه كما في قولِ حَسّانِ بْنِ ثابتٍ الأَنْصاريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
نَصَرُوا نبيَّهُم وشَدُّوا أَزْرَه .................. بحنينَ يومَ تواكُلِ الأبطال
وهذا كما قال الآخر في "حِراءٍ" اسْمِ الجَبَلِ المعروفِ، اعتباراً بتأنيثِ البُقْعَةِ كما في قولِ جَريرٍ:
أَلَسْنا أَكْبرَ الثَّقَلَيْنِ رَحْلاً .................. وأَعْظَمَهم بِبَطْنَ حِراءَ نارا
والمواطن جمع مَوْطِن بكسر العين، وكذا اسم مصدره وزمانه لاعتلالِ فائه كالمَوْعد قال يَزيدُ بْنُ الحَكَمِ الثَقَفي:
وكم مَوْطنٍ لولايَ طِحْتَ كما هوى .... بأَجْرامِهِ مِنْ قُلَّةِ النِّيْقِ مُنْهَوى