وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
(71)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} الآية بَيانٌ لِحُسْنِ حالِ المُؤمنينَ والمُؤمناتِ حالاً ومآلاً، بعدَ بَيانِ حالِ أَضْدادِهم عاجِلاً وآجِلاً، فكما ساوى سُبحانَهُ، بينَ المنافقين والمنافقاتِ وبين صفاتهم وأحوالهم وعقوبتهم وعاقبتهم قبلَ ذَلِكَ في الآيةِ: 67. السابقَةِ فقال: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} كذلك فقد ساوى بين المُؤْمِنُينَ وَالمُؤْمِنَاتِ في هذِهِ الآية فقال: "وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ" فهُمْ سواءٌ أُخُوَّةً، وَمَوَدَّةً، وَتَعَاوُناً، وَتَرَاحُماً، وَيَتَّصِفُونَ بِالصِّفَاتِ الحَمِيدَةِ التِي يَأْمُرُهُمْ بِهَا دِينُهُمْ، فَيَتَنَاصَرُونَ وَيَتَعَاضَدُونَ وَيَفْعَلُونَ الخَيْرَ، فقد أَخْرَجَ أَبو الشَيْخِ عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما: "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض" قال: إخاؤهم في اللهِ يَتَحابُّونَ بجَلالِ اللهِ والوِلايَةِ للهِ. وجاءَ في الحديثِ الصَحيحِ: عَنْ أَبِى مُوسَى الأشعريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صلّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ، قَولُهُ: ((إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا)). وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. السُنَنُ الكبرى للبَيْهَقيِّ وفي ذيْلِهِ الجَوْهَرُ النَقِيُّ: (6/94). ورَوَاهُ الْبُخَارِيُُّّ وَمُسْلِمٌ أيضاً فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ. وفي الصحيحين أَيْضاً مِنْ حديثِ النُعْمانِ بْنِ بَشيرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قولُهُ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَثَلُ المُؤمنينَ في تَوَادِّهم وتَراحُمِهم كَمَثَلِ الجَسَدِ الواحِدِ إذا اشْتَكى مِنْهُ عُضْوٌ تَداعى لَهُ سائرُ الجَسَدِ بالحُمَّى والسَهَرِ)). صحيحُ البُخاريِّ بِرَقَمِ: (6011). وصحيحُ مسلم برقم: (2586).
والوِلايَةُ ضِدُّ العَداوةِ، والأَصْلُ في لَفْظِ الوِلايَةِ القُرْبُ، ولَفْظَةُ العَداوَةِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ عَدا الشَيْءُ الشَيْءَ إذا جاوَزَ عَنْهُ وابْتَعَدَ. فلهذا السَبَبِ قالَ في المؤمنين: "بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ"، لأنّ الموافَقَةَ الحاصِلَةَ بينَ المؤمنين إنَّما حَصَلَتْ بالمُشارَكَةِ في الاسْتِدْلالِ والتَوْفيقِ والهِدايةِ، وقال في المُنافقين: {بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ} لأنَّه يَدُلُّ على أَنَّ نِفاقَ الأَتْباعِ، كالأَمْرِ المُتَفَرِّعِ على نِفاقِ الأَسْلافِ، فإنَّ نفاقَ الأَتْباعِ وكفرَهم حَصَلَ بِسَبَبِ التَقْليدِ لأُولئكَ الأَكابِرِ، وبسبَبِ مُقْتَضى الهوى والطبيعةِ والعادَةِ.
قولُهُ: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} وَيَأْمُرُونَ بِهِ، وَيَنْتَهُونَ عَنِ المُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ، أمّا المنافقون فهم بالعكس: {يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ}. أَخْرَجَ ابْنُ أَبي الدُنيا عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ قال: قالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((إنَّ أَهْلَ المَعروفِ في الدُنيا هُمْ أَهْلُ المعروفِ في الآخَرةِ، وأَهْلُ المُنْكَرِ في الدُنيا أَهْلُ المُنكَرِ في الآخِرَةِ، أَنَّ اللهَ لَيَبْعَثَ المعروفَ يَوْمَ القيامَةِ في صُورَةِ الرَجُلِ المُسافِرِ، فيَأْتي صاحبَهُ إذا انْشَقَّ قبرُهُ فيَمْسَحُ عَنْ وَجْهِهِ التُرابَ ويَقولُ: أبْشِرْ يا وَلِيَّ اللهِ بِأَمانِ اللهِ وكَرامَتِهِ، لا يَهوِلَنَّكَ ما تَرى مِنْ أَهْوالِ يَوْمِ القِيامَةِ. فلا يَزالُ يَقولُ لَهُ: احْذَرْ هذا واتَّقِ هَذا، يُسَكِّنُ بِذلِكَ رَوْعَهُ حتى يُجاوِزَ بِهِ الصِراطَ، فإذا جاوَزَ بِهِ الصِراطَ عَدَلَ وليُّ اللهِ إلى مَنازِلِهِ في الجنَّةِ، ثمَّ يُثْني عنْهُ المعروفُ فيَتَعَلَّقُ بِهِ فيَقولُ: يا عبدَ اللهِ مَنْ أَنْتَ خَذَلَني الخَلائقُ في أَهوالِ القِيامَةِ غيرَكَ فَمَنْ أَنْتَ؟ فيَقولُ لَهُ: أَمَا تَعْرِفُني؟! فيَقولُ: لا. فيَقولُ: أَنا المَعْروفُ الذي عَمِلْتَهُ في الدُنيا، بَعَثَني اللهُ خَلْقاً لأُجازيكَ بِهِ يَوْمَ القيامَةِ.
وأَخْرَجَ الحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنْ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: قالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((اطْلُبوا المَعْروفَ مِنْ رُحماءِ أُمَّتي تَعيشوا في أَكْنافِهم، ولا تَطْلُبوهُ مِنَ القاسِيَةِ قُلوبهم، فإنَّ اللَّعنةَ تَنْزِلُ عَليهم، يا عَلِيُّ إنَّ اللهَ خَلَقَ المَعروفَ وخَلَقَ لَهُ أهْلاً، فحَبَّبَهُ إليْهم وحَبَّبَ إليْهم فِعالَهُ، ووَجَّهَ إليهم طُلاَّبَهُ كما وَجَّهَ الماءَ في الأَرْضِ الجَدِبَةِ لِتَحْيا بِهِ ويَحيى بِهِ أَهْلُها، إنَّ أَهْلَ المَعْروفِ في الدُنيا هُمْ أَهْلُ المعروفِ في الآخِرَةِ)).
وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي الدُنيا عَنْ أَبي سَعيدٍ الخِدْرِيِّ ـ رضي اللهُ عنه، قال: قالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَليْهِ وسَلَّمَ: ((إنَّ اللهَ جَعَلَ للمَعْروفِ وُجوهاً مِنْ خَلْقِهِ، وحَبَّبَ إلَيْهِمْ فِعالَهُ ووَجَّهَ طُلابَ المَعْروفِ إليهم، ويَسَّرَ عَلَيْهِمْ إعْطاءَهُ كما يَسَرَّ الغَيْثَ إلى الأَرْضِ الجَدْبَةِ لِيُحْييها ويُحْيي بِهِ أَهْلَها، وإنَّ اللهَ جَعَلَ للمَعْروفِ أَعْداءً مِنْ خَلْقِهِ بَغَّضَ إلَيْهمُ المَعْروفَ وبَغَّضَ إلَيْهِمُ فِعالَهُ، وحَظَرَ عَليهم إعْطاءَهُ كَما يَحْظُرُ الغَيْثَ عَنْ الأَرْضِ الجَدْبَةِ لِيُهْلِكَها ويُهْلِكَ بها أَهْلَها، وما يَعْفو اللهُ أَكْثَرُ)).
وأَخْرَجَ ابْنُ مردوَيْهِ عَنْ ابْنِ عبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قالَ: قالَ رسولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((إذا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ جمَعَ اللهُ الأَوَّلينَ والآخِرينَ، ثمَّ أَمَرَ مُنادِياً يُنادي: أَلاَ لِيَقُمْ أَهْلُ المَعروفِ في الدُنيا. فيَقومونَ. حتى يَقِفوا بَينَ يَدَيِ اللهِ، فيَقولُ اللهُ: أَنْتمْ أَهْلُ المَعروفِ في الدُنيا؟ فيَقولونَ: نَعَم. فيقولُ: وأَنْتُمْ أَهْلُ المَعروفِ في الآخِرَةِ فَقوموا مَعَ الأَنْبِياءِ والرُسُلِ فاشْفَعوا لِمَنْ أَحْبَبْتُم، فأَدْخِلوهُ الجَنَّةَ حتى تُدْخِلوا عَلَيْهِمُ المَعروفَ في الآخرَةِ كما أَدْخَلْتُمْ عَليهِمُ المَعْروفَ في الدُنيا)). وأخرج الحاكمُ عَنْ أَنَسٍ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ: ((صَنائعُ المَعْروفِ تَقي مَصارِعَ السُوءِ والآفاتِ والهَلَكاتِ، وأَهْلُ المَعْروفِ في الدُنيا هُمْ أَهْلُ المَعروفِ في الآخِرَةِ)). وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي الدُنيا في كتابِ قَضاءِ الحَوائجِ عَنْ بِلالٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ: ((كُلُّ مَعروفٍ صَدَقَةٌ، والمَعْروفُ يَقي سَبْعين نَوْعاً مِنَ البَلاءِ، ويَقي مِيتَةَ السُوءِ، والمَعْروفُ والمُنْكَرُ خَلْقانِ مَنْصوبانِ للنّاسِ يومَ القِيامَةِ، فالمَعروفُ لازِمٌ لأهْلِهِ والمُنْكَرُ لازِمٌ لأَهْلِهِ، يَقودُهم ويَسُوقُهم إلى النّارِ)). وأَخْرَجَ أيضاً عَنْ أَبي سَعيدٍ الخِدْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنه، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ: ((إنَّ أَحَبَّ عِبادِ اللهِ إلى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، مَنْ حبَّبَ إلَيْهِ المَعروفَ وحبَّبَ إليْهِ فِعالَهُ)). وأَخْرَجَ عَنِ ابْنِ عَباسٍ ـ رضي اللهُ عنهما، عَنِ النَبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَليْهِ وسَلَّمَ، قال: ((عَلَيْكُمْ باصْطِناعِ المَعروفِ فإنَّهُ يَمْنَعُ مَصارِعَ السُوءِ، وعَليكم بِصَدَقَةِ السِرِّ فإنَّها تُطْفِئُ غَضَبَ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ)).
قولُهُ: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ} وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ أيْ: وَيُؤَدُّونَهَا حَقَّ أَدَائِهَا، في أوقاتها تامَّةً غيرَ منقوصةٍ بحضورٍ القَلْبِ وخُشُوعِ النَفْسِ، وَيُؤَدُّونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَى مُسْتَحِقِّيهَا، مبتغين في ذلك وجه اللهِ تعالى وحدَه، وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ فِيمَا أَمَرَ، وَيَتْرُكُونَ مَا نَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ. أمَّا المنافقون فهُم: {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ}.
قولُهُ: {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} سيرحمهم: السينُ مُدْخَلَةٌ في الوَعْدِ لِتَتَنعَّمَ النفوسُ برجائهِ سبحانه؛ وفضلِه بالإنجازِ. وَالمُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الطَّيِّبَةِ الْكَرِيمَةِ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللهُ عَزِيزُ الجَانِبِ، يُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ، وَهُوَ حَكِيمٌ فِي قِسْمَتِهِ الصِّفَاتِ بَيْنَ خَلْقِهِ، فَجَعَلَ المُؤْمِنِينَ يَخْتَصُّونَ بِالصِّفَاتِ الحَمِيدَةِ، وَالمُنَافِقِينَ يَخْتَصُّونَ بِالصِّفِاتِ الذَمِيمَةِ المُنْكَرَةِ. بينما قال في حق المنافقين {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.
وقولُهُ تَعالى: {المؤمنونَ بَعْضُهُم أَوْلِياءُ بعضٍ يَأْمرون} المؤمنون: مُبْتَدَأٌ خَبرُهُ "بعضُهم"، و "أولياءُ بعضٍ" نعتُهم، وجملةُ: "يَأْمُرونَ" خَبرٌ ثانٍ عنهم.
وَقَوْلُهُ: {أُولئكَ سَيرْحَمُهُمُ اللهُ} أولئكَ: مبتدأٌ خبرُه جملة: "سيرحمهم الله" والسينُ للاسْتِقْبالِ، إذِ المُرادُ رَحمةٌ خاصَّةٌ، وهِيَ ما خَبَّأَهُ اللهُ لهم في الآخِرَة. وجملةُ "أولئك سيرحمهم" مُسْتَأْنَفَةٌ.