رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} استئنافٌ لبيانِ سُوءِ صُنْعِهم وعَدَمِ امْتِثالِهم فقد رَضُوا لأَنْفُسِهِمُ القُعُودَ، وعَارَ البَقَاءِ مَعَ النِّسَاءِ المُتَخَلِّفَاتِ فِي البَلَدِ، بَعْدَ خُرُوجِ الْجَيْشِ. والخَوَالِفُ: النَّسَاءُ المُتَخَلِّفَاتِ عَنِ الجِهَادِ، وهيَ صفةُ ذَمٍّ. قالَ زُهيرُ بْنُ أَبي سُلْمى:
وما أَدْري وسَوْفَ إخالُ أَدْري .............. أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِساءُ
فإنْ تَكُنِ النِساءُ مُخَبَّآتٍ .................... فَحُقَّ لكل مُحْصَنَةٍ هِداءُ
وقال عُمَرُ بْنُ أَبي رَبيعةَ:
كُتِبَ القَتْلُ والقتالُ علينا ................. وعلى الغانيات جَرُّ الذيولِ
وقالَ أَبو جعفر النَحّاسُ: يُقالُ للرَجُلِ الذي لا خَيرَ فيه خالِفَةٌ، فهذا جمعُهُ بحَسَبِ اللفْظِ والمُرادُ أَخِسَّةُ الناسِ وأَخالِفَهم، و "خوالف" جمعُ خالِفٍ، فهو جارٍ مُجْرى فَوارِسَ ونَواكِسَ وهَوالِكَ، وقد تقدّمَ معناها مفصَّلاً.
وكان مِنْ أَشَدِّ العارِ على أَهْلِ المُروءَةِ والشهامَةِ والنخوة، أنْ يوسمَ الرجلُ بذلك. فهذا سيّدُنا عليٌّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، يَبْكي عِنْدَما خَلَّفَهُ النبيُّ على المدينةِ حين خَرَجَ إلى تَبوكٍ. فقدْ أَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبي وَقَّاصٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ عليَّ بْنَ أَبي طالِبٍ ـ كرّمَ اللهُ وجهَهُ، خَرَجَ مَعَ النَبيِّ ـ صلى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ، حتى جاءَ ثنيَّةَ الوداعِ يُريدُ تَبوكَ، وعَلِيٌّ يَبْكي ويَقولُ: تُخَلِّفُني مَعَ الخَوالِفِ؟ فقالَ رَسولُ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ: ((أَلاَ تَرْضى أَنْ تَكونَ مِني بمَنزِلَةِ هَرونَ مِنْ مَوْسى إلاَّ النُبُوَّةَ؟)).
قولُهُ: {وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} لما كانَ الطَبْعُ على الكِتابِ حفاظاً عليه شُبِّهَ القلبُ الذي غَشِيَهُ الكُفْرُ والضَلالُ حتى مَنْعَ الإيمانَ والهدى مِنْه بالمطبوعِ عَلَيْهِ، ومِنْ هنا اسْتِعارَةُ القَفْلِ والكِنانِ للقلب. فقَدْ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِ المُنافقينَ، وَخَتَمَ عَلَيْهَا، فَالْتَبَسَتْ عَلَيْهِمُ الأُمُورُ، وَأَصْبَحُوا لاَ يَفْقَهُونَ، وَلاَ يَعْرِفُونَ مَا فِي الجِهَادِ مِنْ خَيْرٍ لِلنَّفْسِ وَلِلجَمَاعَةِ، وَلاَ مَا فِي القُعُودِ عَنِ الجِهَادِ مِنْ مَضَرَّةٍ لِلنَّفْسِ وَلِلجَمَاعَةِ، فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
قولُهُ تَعالى: {رَضُوا} فعلٌ ماضٍ مَبْنيٌّ على الضَمِّ المُقدَّرِ على الياءِ المحذوفَةِ لالْتِقاءِ الساكِنَينِ بعدَ تَسْكينِها.
وقولُهُ: {فهم لا يفقهون} جملةٌ مَعْطوفَةٌ على جملَةِ "طُبِعِ" لا محَلَّ لها. وأسند الطبع إلى المجهول إمَّا للعِلْمِ بِفاعِلِهِ وهُوَ اللهُ تعالى، وإمَّا للإشارة إلى أنهم خُلِقوا كذلِكَ وجُبِلوا عَلَيْهِ، وفُرِّعَ على الطَبْعِ انْعدامُ عِلْمِهم بالأُمورِ التي يَخْتَصُّ أَهْلُ الأَفهامِ بعلمِها، وهُوَ العِلْمُ المُعَبَّرُ عَنْهُ بالفِقْهِ، أَيْ إدراكِ الأشياءَ الخَفِيَّةِ، وجيءَ في إسْنادِ نَفْيِ الفَقاهَةِ عَنْهُم بالمُسْنَدِ الفِعْلِيِّ للدَلالَةِ على تَقَوّي الخَبرِ وتحقيقِ نِسْبَتِهِ إلى المُخْبَرِ عَنْهم وتَمَكُّنِهِ مِنْهم.