فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ
(81)
قولُهُ ـ تَعالى شأْنُهُ: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ} هو نَوْعٌ آخَرُ مِنْ قبائحِ أَعْمالِ المُنافِقينَ، وهُوَ فَرَحُهمْ بالقُعودِ، وكراهَتُهُمُ الجِهادَ في سبيلِ اللهِ، فقد ذَمَّ اللهُ تَعَالَى في هذِهِ الآيَةِ المُنَافِقِينَ الذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ صُحْبَةِ رَسُولِ اللهِ ـ صلّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ، فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَفَرِحُوا بِقُعُودِهِمْ بَعْدَ خُرُوجِهِ.
والفَرَحُ: هُوَ السُرورُ مِنْ فِعْلٍ تَبْتَهِجُ به النَفْسُ فَرَحَ المُتْعَةِ الذي لا يَنْظُرُ إلى مَغَبَّةِ الأَشْياءِ وعَواقِبِ الأُمورِ. وهُوَ صِفَةٌ مَذْمومَةٌ ذَمَّها اللهُ تَعالى في مَواضِعَ كَثيرةٍ مِنَ القُرآنِ الكريم، ومنْ ذَلكَ قَولُهُ في سُورَةِ (المؤمِنون): {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ * فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} الآيتان: 53 ، 54. وقد تقدَّمَ قولُهُ في الآية: 50. من سُورةِ التوبة هذه التي نحن بصدد تفسيرها: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ} وقالَ في سورةِ الرومِ: {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} الآية: 32. وقال في سورة القصص: {إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} الآية: 76. وقال في سورة النمل: {بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُون} الآية: 36. وقال في سورةِ غافر: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ} الآية: 75. فقد جاءَ الفرحُ في هذه الآيات مَذْموماً ممقوتاً صاحبُه، وكان مُرادِفاً للبَطَرِ والعُجْبِ.
و "المُخَلَّفونَ" اسْمُ مَفْعولٍ مَأْخُوذٍ مِنْ قولِهم: خَلَّفَ فُلانٌ فلاناً وراءَهُ إذا تَرَكَهُ خَلْفَهُ، أَيْ: الذينَ خَلَّفَهم اللهُ عَنْ غَزْوَةِ العُسْرَةِ (تَبوك)، وأَقْعَدَهمْ عَنْهُ، ولِذلك عَبَّرَ بالمُخَلَّفين دُونَ المُتَخَلِّفين، وهذا كما سَبَقَ قولُهُ تعالى في هذه السورة المباركة: {كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} الآية: 46 منْ هذه السورة. وقال تعالى بعد ذلك في هذه السورة: { فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِين} الآية: 83. والخالِفُ: المتأَخِّرُ عَنْكَ لِنُقْصانٍ أَوْ قُصورٍ كالمُتَخَلِّفِ، والخالِفَةُ: عَمودُ الخَيْمَةِ المُتَأَخِّرُ، ويُكْنى بهذه المفردة أيضاً عَنِ المَرْأَةِ لِتَخَلُّفِها عادةً عَنِ المُرْتحلينَ والمسافرين، حيث يسير الرجال في مقدَّمَةِ القافلة والنساء يسرن في مؤخَّرتِها، وجمعُهُ خَوالِفٌ. وقالَ بعدَ ذلك أَيضاً: {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ} الآيتان: 87 و 93 مِنْ هذه السورة. أَي رضوا أنْ يكنوا مَعَ النِّساءِ. والخالِفَةُ أَيضاً: الأَحْمَقُ لأنَّه متخلِفٌ عن الناسِ بعقله وإدراكه، ويقالُ هُوَ خالِفَةٌ، أيْ: بَيِّنُ الخَلاَفَةِ، أَي: أَحمقٌ. والخالِفَةُ أيضاً: الأُمَّةُ الباقِيَةُ بَعْدَ الأُمَّةِ السّالِفَةِ. وهُوَ خالِفَةُ أَهْلِ بَيْتِهِ يعني آخرُهم، وخالِفُهم إِذا كانَ لا خيرَ فيهِ، ولا هُوَ نجيبٌ. وقولُ أَميرِ المُؤمنينَ عُمَرَ بْنِ الخطابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لو أُطيقُ الأَذانَ مَعَ الخِلِّيفِيِّ لأَذََّنْتُ. كأَنَّهُ أَرادَ بالخِلِّيفِيِّ كَثْرَةَ جُهْدِهِ في ضَبْطِ أُمورِ الخِلافَةِ وتَصْريفِ أَعِنَّتِها؛ فإِنَّ هذا النَّوعَ مِنَ المَصادِرِ الدالَّةِ على مَعنى الكَثْرَةِ.
قولُهُ: {بمقعدِهم خلافَ رسولِ اللهِ} أيْ: أَنَّ سَبَبِ فَرَحِهم وسُرورِهم هُوَ قُعُودُهم في حينِ خَرَجَ النبيُّ لحربِ بني الأصفرِ، وتَخَلُّفُهم عنه ـ صَلى اللهُ عليه وسلَّمَ، والمَقْعَدُ هُوَ مَكانُ القُعودِ. والقُعودُ رَمْزٌ للبَقاءِ في المَكانِ، أَيِّ مَكانٍ. و "خِلاَفَ" مصدرُها خِلافاً؛ ومخالَفةً. وهِيَ إمَّا أَنْ تَكونَ مخالِفَةً في الرَأيِ، كأَنْ تَقولَ: فلانٌ في خِلافٍ مَعَ فُلانٍ، أَيْ: أَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُما رَأْياً. وإمَّا أَنْ تَكونَ في السَيرِ، كأنْ تَقومَ أَنْتَ لِتُغادرَ المكانَ؛ ويُخالِفُكَ زَميلُك، أَوْ مَنْ مَعَكَ فيَقْعدُ، أَوْ أَنْ تَقْعُدَ أَنْتَ، ويُخالِفُكَ هُوَ فيَمْشي.
والخلافُ مِنَ ناحيةِ الرأيِ هوَ عَمَلِيَّةٌ قَلْبِيَّةٌ، والخلافُ مِنْ ناحِيَةِ الحَرَكَة يَشْتَرِكُ فيها القَلبُ أَوِ الجَسَدُ، وهم حين فَرِحوا بالقُعودِ بعدَ قيامِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، والمؤمنين للجِهادِ، فهذا دليلٌ على أَنَّ مَسْأَلَةَ القُعودِ هذِهِ صادَفَتْ هَوًى في نُفوسِهم وارْتاحوا لها وبذلك خالَفُوا شَرْطَ الإيمانِ؛ لأنَّ الذين يحقُّ لهم أَنْ يَتَخَلَّفوا عَنِ الجِهادِ قد حدَّدَهمُ القُرآنُ الكريمُ في قولِ الحقِّ سبْحانَهُ وتَعالى: {لَيْسَ عَلَى الضعفاءِ وَلاَ على المرضى وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للهِ وَرَسُولِهِ . . .} سورةُ التوبة، الآية: 91.
وقولُهُ: {وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ . . .} سورة التوبة، الآية: 92.
أي: أوضحت لهم أنك لا تملك ما يركبون عليه، ليصلوا معك إلى موقع القتالِ. وقد بَيَّن لنا الحقُّ حالَ هؤلاءِ الذين لم يخرُجوا مَعَ رسولِ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، بسببِ هذِهِ الأَعذارِ فقالَ عنهم: "وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِِ". وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، "لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ" إِغْرَاءً لَهُمْ بِالثَّبَاتِ عَلَى المُنْكَرِ، وَتَثْبِيطاً لِعَزَائِمِ الْمُؤْمِنِينَ، أيْ: لاَ تَخْرُجُوا إِلَى الجِهَادِ فِي الحَرِّ.
قولُه: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} فَأَمَرَ اللهُ تعالى نَبِيَّهُ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ: إِنَّ نَارَ جَهَنَّمَ الَّتِي سَيَصِيرُونَ إِلَيْهَا، هِيَ أَشَدُّ حَرّاً مِنْ قَيْظِ الصَّحْرَاءِ الذِي فَرُّوا مِنْهُ. وَلَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُدْرِكُونَ وَيَعْقِلُونَ لَمَا خَالَفُوا وَقَعَدُوا، وَلَمَا فَرِحُوا بِقُعُودِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللهِ، أيْ لِمُخَالَفَةِ رَسُولِ اللهِ، أَوْ بَعْدَ خُرُوجِهِ.
قولُهُ تَعالى: {بِمَقْعَدِهِمْ} متعلقٌ ب "فرح"، وهو يَصلُحُ لمصدَرِ "قَعَدَ" وزمانِهِ ومَكانِه، والمُرادُ بِهِ هَهُنا المَصْدَرُ، أَيْ: بِقُعودِهم وإقامَتِهم.
قوله: {خِلاَفَ} مَنْصوبٌ على المَصْدَرِ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ مَدْلولٍ عَليْهِ بقولِهِ: "مَقْعَدَهُم" أَيْ: تخلَّفوا خِلافَ رَسُولِ اللهِ، لأنَّهُ في مَعْنى تَخَلَّفوا. أَوْ هُوَ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، والعاملُ فيه: إمَّا "فَرِحَ"، وإمَّا "مَقْعدِ"، أيْ: فَرِحوا لأَجْلِ مخالَفَتِهم رَسُولَ اللهِ حيثُ مَضَى هُو للجِهادِ وتَخَلَّفوا عنه، أو فرحوا بِقُعودِهم لمخالفَتهم له، وإليْهِ ذَهَبَ الطَبرِيُّ والزَجَّاجُ ومُؤَرِّجٌ، ويؤيِّدُ ذلكَ قراءةُ مَنْ قرأ "خُلْفَ" بضمِّ الخاءِ وسُكونِ اللامِ، أو هو نَصْبٌ على الظَرْفيَّةِ المكانيَّةِ، أَيْ: بَعْدَ رَسُولِ اللهِ. يُقالُ: أقامُ زَيْدٌ خلافَ القَوْمِ، أيْ: تخَلَّفَ بَعْدَ ذَهابِهم، ومن مجيءِ "خلافَ" ظرفاً قولُ الحَارِثِ بن خالدٍ المَخْزُومِيِّ:
عَقَبَ الربيعُ خِلافَهُمْ فكأنما ........... بَسَطَ الشَّواطِبُ بينهن حصيرا
أي بعدهم ، ويدل على هذا التأويل قراءة عمرو بن ميمون، قالَهُ في عائشةَ بِنْتِ طَلْحَةَ تَعريضًا، وتصريحًا بِبسرةَ جارِيَتِها، يقولُ قبلَهُ:
يَا رَبْع بُسرَةَ إن أضَرَّ بِكَ البِلَى ........... فَلَقد عَهِدتُكَ آهلا مَعْمورًا
وقالَ الشافعيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عنه:
فقلْ للذي يَبْقى خِلاَفَ الذي مضى ...... تَهَيَّأْ لأخرى مِثلها وكأنْ قَدِ
وقبلَه:
تمنَّى رجالٌ أن أموتَ وإن أمُت ........ فتلك سبيلٌ لست فيها بأوحد
وإليه ذهب أبو عبيدة وعيسى بن عمر والأخفش، ويؤيد هذا قراءة ابن عباس وأبي حيوة وعمرو بن ميمون "خَلْفَ" بفتح الخاء وسكون اللام.
وقولُهُ: {قلْ نار جهنَّمَ أشدُّ حَرًّا} حَرًّا: تمييزٌ للنوع الشدَّةِ منصوبٌ.
وقولُهُ: {لو كانوا يعلمون} جملة الشَرْطِم ُستأنَفَةٌ، وجوابُ الشَرْطِ محذوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ ما قَبْلَهُ.