مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ
(17)
قولُهُ ـ جلَّ وعَلا: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ} لا يَنْبَغِي لِلمُشْرِكِينَ بِاللهِ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ التِي بُنِيَتْ عَلَى اسْمِهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ـ وَمِنْهَا المَسْجِدُ الحَرَامِ، وليس أهلاً لهذا الشَرَفِ، وكيف يَعْمُرُ مَساجِدَهُ، ويَزورُ بُيوتَهُ، ويَقومُ بِحَقِّها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِرَبِّها أَوْ يُشْرِكُ بِهِ؟! ولا يُطِيعُهُ فيها، فإنَّ مَنْ أَرادَ زِيارَتَكَ في بَيْتِكَ يجبُ أَنْ يكون صديقاً لكَ محبّاً مطيعاً مُلْتَزِماً بآدابِ الزيارة، أَمَّا أَنْ يَزورَكَ مَنْ يُناصِبُكَ العِداءَ ويَؤْذيكَ في نَفْسِك أو بَيْتِكَ أو عيالِكَ أوْ أَهْلِكَ فهو مِنْ عجيبِ المفارقات. وعِمارَةُ بُيُوتِ اللهِ سبحانَه، إنَّما تَكونُ بِبِنْائها أَوِ المُساهمَةِ في ذلك، وتكونُ بِالإِقَامَةِ فِيهَا أو الاعتكافِ لِلعِبَادَةِ، أَوْ بالخِدْمَةِ فيها أَوْ لِلوِلاَيَةِ عَلَيْهَا، ومِنْ عِمارَةِ المَسْجِدَ الحَرَامَ في مكَّةَ المشرَّفةِ زِيارتُهُ لأَداءِ مَناسِكِ الحَجِّ والعُمْرَةِ.
وكأَنَّ هذِهِ الآيةَ الكريمة جاءتْ لتوضِّح حيثيَّاتِ البراءةِ التي حَمَّلَها رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليه وسِلَّمَ، لِعَلِيٍّ بْنِ أَبي طالِبٍ ـ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ لِيُعْلِنَها يَوْمَ الحَجِّ الأَكْبرِ؛ كما تقدَّمَ إيضاحُهُ في بداية هذه السورة المباركة، لأنَّ البراءةَ هِي القطيعةُ، ومَعْناها أَلاَّ يَدْخُلَ بيتَ اللِ الحرامَ مُشْرِكٌ، ولا يَطوفُ بهِ عُرْيانٌ أبداً، ومما كانُ يفعلُه مُشْرِكو مكَّةَ، أَنّهم كانوا يَسْقونَ الحَجيجَ شرابَ الزَبيبِ المُخَمَّرِ، ويُطعمونَهم مما لم يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ تَعالى عليه، إلى غيرِ ذلِكَ مما يَتَنافى مَعَ المُرادِ مِنْ إقامَة هذا البَيْتِ المعظَّمِ، أَلاَ وَهوَ عبادةُ اللهِ تعالى وطاعتُه فيهِ، والاجْتماعُ على ذَلِكَ.
وكأَنَّ براءةَ اللهِ ورسولِهِ مِنَ المُشركين مَنْعٌ لهم مِنْ دُخُولِ المَسْجِدِ الحَرامِ، وكانَ عدَدٌ مِنَ المُشْرِكينَ قدْ جَعَلوا مِنَ المَسْجِدِ الحَرامِ مُنْتَدًى لهم، فكانوا يَجْلِسُونَ فيه للسَمَرِ، واللَّهوِ والتِجارَةِ. كما يفعلُ الكثير من المسلمين اليوم ولا حَوْلَ ولا قوة إلاّ بالله العَلِيِّ العَظيم، وقد حذَّرَ النبيُّ الكريمُ ـ عليه أَفْضَلُ الصلاةِ وأَكْمَلُ التَسْليم، فيما أَخْرَجَ الحاكِمُ وصَحَّحَهُ و وافقَهُ الذهبي، عنْ أَنَسٍ ـ رضي اللهُ عنه، أنَّه قال: قالَ رَسولُ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((يَأْتي على الناسِ زَمانٌ يَتَحَلَّقونَ في مَساجِدِهم، وليسَ همَّهم إلاَّ الدنيا، ليسَ للهِ فيهم حاجَةٌ فلا تُجالِسوهم)). وقد دعا ـ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، بالبَوارِ على كلِّ صَفْقَةٍ تُعْقَدُ في المَسْجِدِ. ودَعا على كُلِّ مَنْ يُريدُ شيْئاً دُنْيَوِيّاً مِنَ المسْجِدِ، بأَلاَّ يُوَفِّقَهُ اللهُ فيه، ودعا عَلى كُلِّ مَنْ يَنْشُدُ ضالَّةً في المَسْجِدِ أَلاَّ يَرُدَّ اللهُ عَلَيْهِ ضالَّتَهُ، فقالَ ـ صلَّى الله عليْهِ وسَلَّمَ، فيما رواهُ أَبو هُريرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْه: ((إذا رَأَيْتُمْ مَنْ يَبيعُ أَو يَبْتاعُ في المَسْجِدِ فَقولوا: لا أَرْبَحَ اللهُ تِجارَتَكَ، وإذا رَأَيْتُم مَنْ يَنْشُدُ ضالَّتَهُ فقُولوا: لا رَدَّها اللهُ عليك)), وفي روايةٍ أخرى عنهُ قال: إنَّهُ سمعَ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلّم، يقول: ((مَنْ سَمِعَ رَجُلاً يَنْشُدُ ضالَّتَهُ في المَسْجِدِ فَلْيَقُلْ: لا رَدَّها اللهُ عَليْكَ، فإنَّ المَساجِدَ لم تُبْنَ لهذا)). وروي مثلُهُ عن بُرَيْدَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنه. وقالَ أميرُ المؤمنينَ عُمَرُ بنُ الخطابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (مَنْ أَرادَ الثوابَ والأَجْرَ وسُوقَ الآخِرَةِ فَلْيأْتِ إلى المَسْجِدِ، وَمَنْ أَرادَ البَيعَ أَوِ الشِراءَ أَوِ الحَديثَ فَلْيَخْرُجْ إلى أَسْواقِ الدُنيا)، وقدْ بَنى ـ رضي اللهُ عنه، رَحْبَةً في غَرْبيِّ المَسْجِدِ، وقالَ: (فَمَنْ أَرادَ حَديثَ الدُنيا فَلْيَخْرُجْ إلى هَذِهِ الرَحْبَةَ، ومَنْ أَرادَ حديثَ الآخرَةِ فَلْيَبْقَ في المَسْجِدِ).
قال العلماءُ: الذي يَجِدُ ساقِطَةً في الحَرَمِ المَكّيِّ لا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَها إلاَّ إذا كان على اسْتِعْدادِ أَنْ يَنْشُدها، ومَهْما أَنْشَدَها سَنَةً أَوْ سَنَواتٍ فلا يَتَمَلَّكُها، بخلافِ الساقِطَةِ في غَيرِ الحَرَمِ المَكِّيِّ، فإنَّهُ يَتَمَلَّكُها بعدَ سَنَةٍ، فإنْ جاءَ صاحِبُها بعدَ ذلكَ، فإنْ كانَ قدِ اسْتَفادَها لِنَفْسِهِ واقْتَناها سَلَّمَهُ قِيمَتَها، وإنْ كانَ قَدْ تَصَدَّقَ بِقِيمَتِها على نِيَّةِ صاحِبِها فيُخْبرُهُ ويَقولُ لَهُ: لَقَدِ انْتَظَرْتُ وعَرَّفْتُ فلم يَأْتِ أَحَدٌ، فَتَصَدَّقْتُ بها على نِيَّةِ صاحِبِها، فإنْ َقَبِلْتَ الصَدَقَةَ فَأَجْرُها لَكَ، وإنْ لم تَقْبَلْ فَأَكونُ قدْ تَصَدَّقْتُ بِغيرِ ما أَمْلِكُ، فهَذِهِ قِيمَتُها والصَدَقَةُ لي.
قولُهُ: {شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} الشهادةُ إمَّا أَنْ تَكونَ شهادةَ قولٍ؛ وإمَّا أَنْ تَكونَ شهادةَ حالٍ، وَهم قَدْ شَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالكُفْرِ، قَوْلاً وَعَمَلاً، بإعلانهم أَنَّ للهِ شُرَكاءَ في مُلْكِهِ ووُسَطاءَ بَيْنَهُ وبَينَ خَلْقِهِ وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفى} سورةُ الزُمَر، الآية: 3. وبِعِبَادَتِهِم الأَصْنَامَ، والاسْتِشْفَاع بِهَا، وَالسُّجُودِ لِمَا وَضَعُوهُ مِنْهَا فِي الكَعْبَةِ عَقِبَ كُلِّ شَوْطٍ مِنْ طَوَافِهِمْ، إِذْ أَنَّ عَمَلهُمْ هَذا يُعْتَبَرُ جَمْعاً لِلنَّقِيضَينِ، فَإنَّ عِمَارَةَ المَسْجِدِ الحَرَامِ الحِسِّيَّةِ إِنَّمَا تَكُونُ بِعِمَارَتِهِ المَعْنَوِيَّةِ بِالعِبَادَةِ للهِ وَحْدَهُ، وَذَلِكَ لا يَقَعُ إلا مِنَ المُؤْمِنِ المُوَحِّدِ. أَمَّا المُشْرِكُونَ فَإنهُمْ يُشْرِكُونَ بِالعِبَادَةِ مَعَ اللهِ غَيْرَهُ، وَيُسَاوُونَ اللهَ بِبَعْضِ خَلْقِهِ فِي العِبَادَةِ. وهذا هو الإشراك بعينه، وهذِهِ هيَ شهادُتُهم على أَنْفُسِهم بالكُفْرِ.
قولُهُ: {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} وَهَؤُلاَءِ المُشْرِكُونَ بِاللهِ، وَالكَافِرُونَ بِهِ، هَلَكَتْ أَعْمَالُهُمْ التِي يَفْخَرُونَ بِهَا: مِنْ عِمَارَةِ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَسِقَايَةِ الحُجَّاجِ، وَقِرَى الضَّيفِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ، ... إلخ، بِسَبَبِ شِرْكِهِمْ. و "حَبِطَتْ" أي: ظَهَرَتْ على حَقيقَتِها وتلاشت، ونَزَلَتْ مِنْ مُسْتَوىً عالٍ رَفيعٍ إلى مُسْتَواها الحَقيقيِّ، وكأنها كانت منفوخةً كالبالونِ الضَخْمِ، وهي في حقيقةِ الأَمْرِ مجَرَّدُ فُقاعَاتٍ ضَخْمَةٍ ما لبِثَتْ أَنْ انْكَمَشتْ أو سقطتْ، فهيَ لا وَزْنَ لها ولا قِيمَة.
قولُهُ: {وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} وَسَيَكُونُونَ فِي جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فيها أَبَداً، لأَنَّ الجنَّةَ بالإيمان بالله والعملِ الصالحِ ابتغاء وجههِ الكريم، وهؤلاء، لا إيمانَ لهم بالله تعالى، وأعمالُهم التي يعدونها صالحةً إنما كانت للشهرة والسمعة الحسنةِ. والنارُ للكُفْرِ بالله والعملِ السَيِّءِ، وهم كفروا به وسبحانه، وقدموا الأعمال السيئة الشريرة.
قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله} أَنْ يَعْمُروا: المصدرُ المسبوك من أنْ وما بعدها في محلِّ رفعِ اسْمٍ ل "كانَ". و "للمشركين" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرِها.
وقولُهُ: {شاهدين} حالٌ مِنَ المُشْرِكينَ، والجارَّانِ: "على أنفسهم"، و "بالكفر" مُتَعَلِّقانِ ب "شاهدين".
وقولُه: {أُولئك حبطت أعمالُهم} أولئك: مبتدأ، خبره جملةُ "حبطت أعمالُهم".
وقولُهُ: {وفي النارِ هُمْ خَالدون} في النار: جار وجرور متعلقٌّ بالخبر، وقدِّم للاهتمام به، أو لمراعاة الفاصلة، و "هم خالدون" مبتدأٌ وخبره، والجملةُ في محلِّ رَفْعٍ عَطْفاً على جملةِ: "حبطت أعمالُهم".
قَرأَ العامَّةُ: {مساجد} بالجمع، وهي محتملةٌ للأمرين. ووجه الجمع: إمَّا لأنَّ كلَّ بقعةٍ من المسجد الحرام يُقال لها مسجدٌ، وإمَّا لأنه قبلةُ سائر المساجد، فصَحَّ أن يُطْلَقَ عليه لفظُ الجمع لذلك.
وقرَأَ ابن كثير وأبو عمرو "مسجد الله" بالإِفراد وهي تحملُ وجهين: أَنْ يُراد به مسجدٌ بعينه، وهو المسجد الحرام لقوله: {وَعِمَارَةَ المسجد الحرام} سورة التوبة، الآية: 19، وأَنْ يَكونَ اسْمَ جِنْسٍ فَتَنْدَرِجَ فيهِ سائرُ المَساجِدِ، ويَدْخُل المسجدُ الحرامُ دُخولاً أَوَّلِيَّاً.
وقرَأَ الجمهورُ: {شَاهِدِينَ} على قراءَتِهِ بالياءِ نَصْباً على الحالِ مِنْ فاعل "يَعْمُروا". وقرأ زيد بن علي "شاهدون" بالواو رفعاً على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ، والجملةُ حالٌ أيضاً.
وقرأ ابنُ السَّمَيْفع "يُعْمِروا" بضم الياء وكسرِ الميم مِنْ أَعْمَرَ رباعياً، والمعنى: أن يُعينوا على عمارته.
قرأ الجمهورُ: {على أَنْفُسِهِمْ} جمعَ نَفْس. وقُرئ "أَنْفَسِهم" بفتح الفاء، من النَّفاسة، ووَجهُها أنْ يُرادَ بالأنْفَسِ الأشرفُ الأجَلُّ، وهو رسولُ اللهِ ـ صلَّى الله عليه وسلم.
وقرأ زيد بن علي: "خالدين" بالياء نصباً على الحالِ من الضمير المستتر في: الجارِّ قبله، لأنَّ الجارَّ صار خبراً كقولك: في الدار زيد قاعداً، فقد رفع زيد بن علي "شاهدين"، ونصب "خالدون" عكسَ قراءةِ الجمهور فيهما.