يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ
(64)
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ
تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ} مَعنى "تَنْبئهم" بما في قلوبهم مَعَ أَنَّهُ مَعْلومٌ لهم، هو أَنَّ المحذورَ عندَهم إطْلاعُ المُؤمنينَ على أَسْرارِهم لا إطْلاعُ أَنْفُسِهم عَلَيْها، وأَنَّها تُذيعُ ما كانوا يُخْفُونَهُ مِنْ أَسْرارِهم، فتَنْتَشِرُ بينَ الناسِ، فيَسْمَعونها مِنْ أَفْواهِ الرِجالِ مُذاعَةً، فَكَأَنَّها تُخْبرُهم بِها. أَوِ المُرادُ ب "تَنَبِِّئُهم" المُبالَغَةُ في كَوْنِ السُورَةِ مُشْتَمِلَةً على أَسْرارِهم كأنَّها تَعْلَمُ مِنْ أَحْوالِهِمُ الباطِنَةِ ما لا يَعْلَمونَهُ فتُنْبِئُهم بها وتَنْعي عَلَيْهم قَبائحَهم. فقد كَانَ المُنَافِقُونَ يَقُولُونَ القَوْلَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ يَقُولُونَ عَسَى اللهُ أَنْ لاَ يَفْشِي عَلَيْنَا سِرَّنَا هَذَا بِإِنْزَالِ آيَةٍ عَلَى رَسُولِهِ، تَفْضَحُ مَا قُلْنَاهُ مِنَ الأَسْرارِ الخَفِيَّةِ، فَضْلاً عَمَّا كانوا يُظْهِرونَهُ فيما بَيْنَهم مِنْ أَقاويلِ الكُفْرِ والنِفاقِ.
قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: أَنْزَلَ اللهُ أَسماءَ المُنافِقينَ وكانوا سَبْعينَ رَجُلاً، ثمَّ نَسَخَ تِلْكَ الأسماءَ مِنَ القُرآنِ رَأْفَةً مِنْهُ ورَحمةً، لأنَّ أَوْلادَهم كانوا مُسْلِمينَ والنّاسُ يُعَيِّرُ بعضُهم بَعضاً. وقد جاءَ في رِوايَةٍ أُخرى عَنْهُ ـ رَضِيَ اللهُ عُنْهُ، أنَّ عَدَدَ المنافقين بالمدينةِ مِنَ الرِجالِ ثَلاثمئةٍ، ومِنَ النِساءِ سَبعينَ ومئةَ امْرَأَة. فالسبعون إذاً هم الذين نزلتْ أسماؤهم، وليس الجميع.
وروى مكحول عن أبي الدرداء أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفة المنافق : فقال : « إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا اؤتُمِنَ خَانَ ، وَإِذا وَعَدَ أَخلَفَ ، وَإِذَ خَاصَمَ فَجَرَ ، وَإِذَا عَاهَدَ نَقَضَ ، لاَ يَأْتِي الصَّلاَةَ إِلاَّ دُبُراً وَلاَ يَذْكُرِ اللَّهَ إِلاَّ هَجْراً
وقالَ الطَبَرِيُّ: كانَ المُنافِقونَ إذا عابوا رسولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، وذَكَروا شيئاً مِنْ أَمْرِهِ قالوا لَعَلَّ اللهَ لا يُفْشي سِرَّنا فَنَزَلَتْ هذه الآيةُ في ذَلِكَ.
قولُهُ: {قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} يَرُدُّ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَائِلاً: إِنَّهُ سَيُخْرِجُ مَا يَحْذَرُونَ لِيَعْلَمَهُ الرَّسُولُ وَالمُؤْمِنُونَ، فَلْيَسْتَهْزِئُوا مَا شَاؤُوا. فقدِ ابْتدَأَ الإخبارَ عَنْ أَنَّهُ يُخْرِجُ لهم إلى حيِّزِ الوُجودِ ما يَحْذَرونَهُ، وقدْ فَعَلَ ذَلِكَ ـ تَبارك وتعالى، في هذه السُورَةِ التي تُسَمَّى الفاضِحَةَ لأنَّها فَضَحَتِ المُنافقين.
فعلى هذا قدْ أَنْجَزَ اللهُ وعدَهُ بإظْهارِهِ ذَلِكَ إذْ قالَ: "إن الله مخرِجٌ ما تحْذَرون". وقيلَ: إخْراجُ اللهِ أَنَّه عَرَّفَ نَبِيَّهُ ـ صلى اللهُ عليْهِ وسلَّم، أَحوالَهم وأَسماءَهم، لا أَنَّها نَزَلَتْ في القُرآنِ، ولقد قالَ اللهُ تَعالى في سورةِ محمَّدٍ: {ولَتَعْرِ فَنَّهم في لَحْنِ القَولِ} الآية: 30. وهوَ نَوْعٌ من الإلهامِ.
وَخَوْفُ المُنَافِقِينَ مِنَ الْفَضِيحَةِ، وَمِنْ كَشْفِ عَوْرَاتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ، همُاَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الشَّكِّ وَالارْتِيَابِ، لأَنَّهُمْ مُذَبْذَبُونَ، لاَ هُمْ مَعَ المُؤْمِنِينَ الْمُوقِنِينَ، وَلاَ هُمْ بِالكَافِرِينَ الجَازِمِينَ بِصِحَّةِ الكُفْرِ.
قالَ السُدِّيُّ: قالَ بَعْضُ المُنافِقينَ: واللهِ لَوَدَدْتُ أَنِّي قُدِّمْتُ فَجُلِدْتُ مئةَ جَلْدَةٍ ولا يَنْزِلُ فِينا شَيْءٌ يَفْضَحُنا فَأَنْزَلَ اللهُ هذِهِ الآيةَ. وقالَ مجاهِد: كانوا يَقولونَ القولَ بَيْنَهم ثمَّ يَقولونَ عَسى اللهُ أَنْ لا يُفْشِيَ عَلَيْنا سِرَّنا.
قولُهُ تَعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ} يحذرُ: خبرٌ عَنْ حالِ قلوبهم، والمصدرُ المنسبكُ من "أَنْ تُنَزَّلَ" مَفعولٌ بِهِ منصوبٌ ل "يحذَر"، فإنَّ "يَحْذَر" مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ لِقولِهِ تعالى في سورة آلِ عمران: {وَيُحَذِّرْكُمُ الله نَفْسَهُ} الآية: 30. فلولا أَنَّهُ مُتَعَدٍّ في الأَصْلِ لِواحِدٍ لَما اكْتَسَبَ التَضْعيفُ مَفْعولاً ثانياً، ومن ذلك قولُ الشاعر:
حَذِرٌ أُموراً لا تَضيرُ وآمِنٌ ................. ما ليسَ مُنْجيَه من الأَقْدارِ
هذا البَيْتٌ مَصْنُوعٌ، صَنَعَهُ أَبَانُ اللاحِقِيُّ، صاحبُ أبي نُواسٍ، كما روى الإمامُ السُيوطيِّ في كتابه (المزهرِ في علومِ اللّغةِ)، صَنَعَهُ لِسيبَوَيْهِ حين سألَهُ: هل تحفظُ للعرَبِ شاهداً على إعمالِ فَعِلَ قال: فوَضَعْتُ لَهُ هذا البيت.
وقالَ المُبَرِّدُ: إنَّ "حَذِرَ" لا يَتَعَدَّى لأنَّهُ مِنْ هَيْئاتِ النَفْسِ كَ "فَزِعَ"، وهذا لا يصِحُّ فإنَّ مِنْْ هيئاتِ النَفْسِ ما هُوَ مُتَعَدٍّ ك "خاف"، و "خشِي"، وهابَ ،وأَحَبَّ وكَرِهَ وحَسَدَ وغيرها. فقد أَعْربَ المُبرِّدُ "أَنَّ تُنَزَّل" نَصْباً بِنَزْعِ الخافِضِ، أَيْ: مِنْ أَنْ تُنَزَّلَ.
وقولُهُ: {تُنَبِّئهم} هذه الجملةُ في مَوْضِعِ الرَّفْعِ صِفَةً لقولِهِ تَعالى: "سورةٌ".
وقولُهُ: {قُلِ اسْتَهْزِئوا} لَفْظُهُ الأَمْرُ ومعناهُ التَهْديدُ. وجملةُ: "قُلْ" مُسْتَأْنَفَةٌ.
وقولُهُ: {إن الله مخرج ما تحذرون} ما: هذا الموصولُ في محلِّ نصبِ مَفْعولٍ بِهِ لاسْمِ الفاعِلِ "مُخْرِجٌ"، والجملةُ مُسْتَأْنَفَةٌ في حَيِّزِ القَوْلِ.
قرَأَ الحَسَنُ والأَعْرَجُ وعاصِمُ والأَعْمَشُ: {أَنَّ تُنَزَّل} بِفَتْحِ النُونِ مُشدَّدَةَ الزايِ وَقَرَأَ أَبو عَمْرٍو وجماعَةٌ مَعَهُ "أَنْ تُنْزَل" ساكنةَ النُونِ خَفيفةَ الزايِ.