وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
(99)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} وَهُنَاكَ مِنَ الأَعْرَابِ جَمَاعَةٌ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ، وَاليَوْمِ الآخِرِ، وهؤلاءِ هُمُ المؤمِنون مِنَ الأَعْرابِ، وفَاهُمُ اللهُ حَقَّهم مِنَ الثَناءِ عَلَيْهم، وهُم أَضْدادُ الفَريقَين الآخرين المتقدِّمِ ذكرهما في قولِه: {الأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً ونِفاقاً} وقولِهِ: {وَمِنَ الأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً}. وهُم بَنُو مُقْرِنٍ مِنْ مُزَيْنَةَ الذين نَزَلَ فيهم قولُهُ تَعالى: {ولا عَلى الذينَ إذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهم} الآية وقد تَقَدَّم. ومِنْ هؤلاءِ عَبدُ اللهِ ابْنُ مُغَفَّلٍ ذُو البِجادَيْن المُزَنيُّ. فقَد أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ عَنْ مُجاهِدٍ: "ومِنَ الأعْرابِ مَنْ يُؤمِنُ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ" هُمْ بَنُو مُقْرِنٍ مِنْ مُزَيْنَةَ.
قولُهُ: {وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللهِ} وَيَعُدُّونَ مَا يُنْفِقُونَهُ مِنْ مَالٍ فِي سَبِيلِ اللهِ، قُرْبَةً يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إلَى اللهِ، و "قُرُبات" بِضَمِّ القافِ والراءِ: جمعُ قُرْبَةٍ بِسكونِ الراءِ. وتًطْلَقُ بمَعنى المَصْدَرِ أَيْ: "القُرْب" وهوَ المُرادُ هُنا، أَيْ: يَتَّخِذونَ ما يُنْفقونَ تَقَرُّباً عِنْدَ اللهِ. وجمعُ "قُرُبات" باعْتِبارِ تَعَدُّدِ الإنْفاقِ، فُكُلُّ إنْفاقٍ هُوُ قُرْبَةٌ عِنْدَ اللهِ لأنَّهُ يُوجِبُ زِيادَةَ القُرْبِ. قالَ تَعالى في سورة الإسراء: {يَبْتَغونَ إلى رَبِّهِمُ الوَسيلَةَ أَيُّهم أَقْرَبُ} الآية: 57. فَ "قربات" هُنا مجازٌ مُسْتَعْمَلٌ في رِضَى اللهِ تعالى، ورَفْعِ الدَرَجاتِ في الجَنَّةِ، فلِذلِكَ وُصِفَتْ بِ "عند" الدالَّةِ على مَكانِ الدُنُوِّ. و "عند" مجازٌ في التَشْريفِ والعِنايَةِ، فإنَّ الجَنَّةَ تُشَبَّهُ بِدارِ الكَرامَةِ عِنْدَ اللهِ. قالَ تَعالى في سورة القمر: {إنَّ المُتَّقينَ في جَنَّاتٍ ونَهَرٍ * في مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَليكٍ مُقْتَدِرٍ} الآيتان: 54 و 55.
وأخرجَ ابنُ أبي حاتمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ والحَسَنِ، في قولِهِ تعالى في سورة التوبة: { الأعرابُ أَشدُّ كُفراً ونِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} الآية: 97. وقَدِ اسْتَثْنى فَقالَ "وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ".
قولُه: {وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} أيْ: يَبْتَغُونَ بِهَا دُعَاءَ الرَّسُولِ لَهُمْ لأَنَّهُ، صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وسلامُهُ، كَانَ يَسْتَغْفِرُ لِلْمُتَصَدِّقِينَ، وَيَدْعُو لَهُمْ. فَ "صلوات الرسول" دَعَواتُه. لأنَّ أَصْلَ الصلاةِ الدُعاءُ. وجُمِعَتْ هُنا لأنَّ كُلَّ إنْفاقٍ يُقَدِّمونَهُ إلى الرَسُولِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، يَدْعُو لهم بِسَبَبِهِ دَعْوَةً، فَبِتَكَرُّرِ الإنْفاقِ تَتَكَرَّرُ الصَلاةُ. وكانَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهَِ وسَلَّمَ، يُصَلِّي عَلى كُلِّ مَنْ يَأْتيهِ بِصَدَقِتِهِ، وإنْفاقِهِ امْتِثالاًّ لما أَمَرَهُ اللهُ بِه في قولِهِ: {خُذْ مِنْ أَمْوالِهم صَدَقَةً تُطَهِّرُهُم وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} سورةُ التوبة، الآية: 103. وجاء في الصحيحين منْ حديث عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ ابْنَ أَبِي أَوْفَى ـ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَاتِهِمْ قَالَ: ((اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِمْ)). فَأَتَاهُ أَبِي بِصَدَقَتِهِ فَقَالَ: ((اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى)). أخرجه السنن الكبرى للبيهقيِّ: (2/85) ورَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ وَغَيْرِهِ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ أَوْجُهٍ أُخَرَ عَنْ شُعْبَةَ.
قولُهُ: {أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ} يَقُولُ تَعَالَى: إِنَّهُ قَبِلَ هذِهِ النَّفَقَةَ مِنْهُمْ، وَسَتَكُونُ قُرْبةً عَظِيمَةً لَهُمْ عِنْدَهُ، وهذه الجملةُ مَسُوقَةٌ مَساقَ البِشارَةِ لهمْ بِقَبولِ ما رَجَوْهُ. وقد افتُتِحَتْ بحرفِ الاسْتِفْتاحِ "ألا" للاهتمام بها لِيَعِيَها السامِعُ وأُكِّدَتْ ب "إنَّ" لِتَأْكيدِ مَضْمونها.
قولُهُ: {سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ} وَسَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ، وَسَيَغْفِرُ لَهُمْ ذُنُوبَهُمْ، وَسَيَرْحَمُهُمْ لأَنَّهُ تَعَالَى كَثِيرُ الغُفْرَانِ لِذُنُوبِ عِبَادِهِ، رَحِيمٌ بِهِمْ.
وقولُهُ: {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} واقعٌ مَوْقِعَ البيانِ لقولِه: "إنها قربة لهم" لأنَّ القُرْبَةَ عِنْدَ اللهِ هِيَ الدَرَجاتُ العُلى ورِضْوانُهُ وذَلِكَ مِنَ الرَحمةِ/ والقُرْبَةُ عِنْدَ صَلَواتِ الرَسولِ ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، إجابةُ صَلاتِهِ. والصلاةُ التي يَدْعُو لهم بها طَلَبُ الرَحمةِ فمآلُ الأَمْريْنِ هُوَ إدْخالُ اللهِ إيَّاهُم في رَحمَتِهِ ومغفرتُه لهم؟
قولُهُ تُعالى: {قُرُبَاتٍ} مَفْعولٌ ثانٍ لِ "يَتَّخِذُ" كَما مَرَّ في "مَغْرَماً"، والمفعولُ الأوَّلُ هو: "ما".
قولُهُ: {عِندَ اللهِ} الأظهرُ: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِ "يَتَّخذ". وقيل إنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ لأنَّهُ صِفةٌ ل "قربات". وقيلَ إنَّهُ ظَرْفٌ ل "قرباتٍ" وليسَ بِذَاكَ.
قوله: {وَصَلَوَاتِ الرسول} الأظهرُ: أَنَّهُ عطفُ نَسَقٍ على "قربات"، والمعنى أَنَّ ما يُنْفِقُهُ سَبَبٌ لِحُصولِ القُرُباتِ عِنْدَ اللهِ و "وصلوات الرسول" لأنَّهُ كانَ يَدْعُو للمُتصدِّقين كما تقدَّم. وجَوَّزَ ابْنُ عَطِيَّةَ وأبو البَقاءِ أنَّه نَسَقٌ على "ما يُنْفِقُ"، أي: ويَتَّخِذُ بالأَعْمالِ الصالِحَةِ وصَلَواتِ الرَسُولِ قُرْبَةً.
قوله: {أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ} الضَميرُ في "إنها" عائدٌ على "صلوات" وقيلَ: عائدٌ على النَفَقاتِ المَفهومَةْ مِنْ قولِه: "يُنفقون".
قرأ الجمهورُ: {قُرْبَةٌ} بسكون الراء، وقرأ ورش: "قُرُبَة" بِضَمَّها، فقيل: هما لغتان. وقيل: الأصْلُ السُكونُ والضَمَةُ إتْباعٌ، وقد تَقَدَّمَ خِلافٌ بينَ أَهْلِ التَصْريفِ: هلْ يجوزُ تَثْقيلُ "فُعْل" إلى "فُعُل"؟ وأَنَّ بعضَهم جَعَلَ عُسُراً يُسُراً بِضَمِّ السينِ فَرْعين عَلى سُكونها. وقيل: الأَصْلُ "قُرُبة" بالضَمِّ، والسُكونُ تخفيفٌ، وقد أَجْرِيَ هذا عَلى لُغَةِ العَرَبِ إذْ مَبْناها الهَروبُ مِنَ الثِّقَل إلى الخِفَّةِ.