يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ
(32)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} يُرِيدُ الكُفَّارُ مِنَ المُشْرِكِينَ، وَمِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، أَنْ يُخمدوا نُورَ اللهِ، وَهُوَ قرآنُه ودِينُ الإِسْلاَمِ الذِي شَرَعَهُ لِهِدَايَةِ عِبَادِهِ، وَأَنْ يُخْفُوا مَا بَعَثَ اللهُ رَسُولَهُ بِهِ، مِنَ الدَّعْوَةِ إلَى التَّوْحِيدِ وَالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ بِمُجَرَّدِ جِدَالِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ، كَقولِهم فيهِ أنَّهُ سِحْرٌ، أوْ شِعْرٌ، وغير ذلك، فقد أخرَجَ ابنُ أَبي حاتمٍ عَنِ الضَحَّاكَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في قوله: "يُريدونَ أَنْ يُطْفِئوا نُورَ اللهِ" يَقول: "يُرِيدُونَ أَنْ يَهْلِكَ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ، أَنْ لا يَعْبُدُوا اللهَ بِالإِسْلامِ فِي الأَرْضِ". يَعْني بها كُفَّارَ العَرَبِ وأَهْلَ الكِتابِ مَنْ حاربَ مِنْهمُ النَبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّم، وكَفَرَ بِآياتِهِ. وأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حميدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، عَنْ قَتادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، في قولِهِ: "يُريدون أَنْ يُطْفِئوا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِم: قالَ: هُمُ اليَهودُ والنَصارى.
والإطْفاءُ إِبْطالُ الإسْراجِ وإزالةُ النُورِ بِالنَفْخِ عَليْه، أَوْ هُبوبِ ريحٍ، أَوْ غيرِ ذلك. وإطفاءُ النارِ إِذْهابُ لَهَبِها المُوجِبِ لإذْهابِ نورِها، والنُورُ: هو الضَوْءُ. و "نُورَ اللهِ" أَيْ: دَلالَتَهُ وحُجَجُهُ على تَوْحيدِه. فجعلَ البراهينَ بِمَنْزِلَةِ النُورِ لما فيها مِنَ البَيانِ. وفيهِ إشارةٌ إلى ضَعْفِ حِيلَتِهم فيما أَرادوا، فَمَثَلُهُمْ فِي ذَلِكَ كَمَثَلِ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يُطْفِئَ شُعَاعَ الشَّمْسِ، أَوْ نُورَ القَمَرِ، بِنَفْخَةٍ مِنْ فَمِهِ.
قولُهُ: {وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} وَبِمَا أَنَّ إطفاءَ نُورِ اللهِ لاَ سَبِيلَ إِلَيْهِ، كَذَلِكَ لاَ سَبِيل َإِلَى إِخْفَاءِ نُورِ النُّبُوَّةِ، وَلاَ بُدَّ لِمَا أَرْسَلَ اللهُ بِهِ رَسُولَهُ مِنْ أَنْ يَتمَّ وَيَظْهَرَ، وَاللهُ يَأْبَى إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ، بإعلاءِ كلمةِ التوحيدِ وإظهارِ الإسْلامِ، وإعْزازِ القُرآنِ وأَهْلِه.
قولُهُ: {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ ذَلِكَ. وأخرجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ، ـ رَضِيَ اللهُ عنه، فِي قَوْلِهِ: "وَيَأْبَى اللهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ" يَعْنِي بِهَا كُفَّارَ الْعَرَبِ، وَأَهْلَ الْكِتَابِ مَنْ حَارَبَ مِنْهُمُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَفَرَ بِآيَاتِ الله.
قولُهُ تعالى: {يريدونَ أنْ يطفئوا} المصدرُ المؤوَّلُ من "أَنْ يطفئوا" مَفْعولٌ بِه ل "يُريدُ" وجملة "يُريدون" مُسْتَأْنَفَةٌ.
وقولُهُ: {ويأبى اللهُ إلاَّ أَنْ يُتِمَّ نورَهُ} المَصْدَرُ المؤوَّلُ مِنْ "أَنْ يَتِمَّ" مَفْعولٌ بِهِ ل "يَأْبى" وتَقديرُ الكَلامِ: لا يُريدُ اللهُ إلاَّ إتمامَ؛ لأنَّ الاسْتِثْناءَ المُفَرَّغَ مَسْبوقٌ بِنَفْيٍ، فقيلَ إنَّ معنى يَأْبَى: أي يَمْنَعُ. وقيلَ: دَخَلَتْ "إلاَّ" لأنَّ في الكلام طَرَفاً مِنَ الجَحْدِ. وقيلَ: أَجْرى "أبى" مُجْرَى لم يُرِدْ، أَلا تَرى كَيْفَ قُوبِلَ "يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ" بقولِهِ: "ويَأْبى اللهُ"، وكيفَ أُوقِعَ مَوْقِعَ: ولا يُريدُ اللهُ إلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ. وقيل: إنَّ المُسْتَثْنى مِنْهُ محذوفٌ تَقديرُهُ: ويَأْبى، أَيْ وَيَكْرَهُ كُلَّ شَيْءٍ إلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ. وقيلَ: يَأْبى بمعنى يَكْرَهُ، ويَكْرَهُ بمَعنى يَمْنَعُ، فلِذلك اسْتَثْنى، لِما فيه مِنْ مَعْنى النَفيِ، والتَقديرُ: يَأْبى كُلَّ شَيْءٍ إلاَّ إتْمامَ نُورِهِ.
وقولُهُ: {ولو كره} الواوُ: حالِيَّةٌ عَطَفَت على حالٍ محذوفةٍ، أَيْ: يُتِمَّ نُورَهُ في كُلِّ حالٍ، ولو في هذِهِ الحالِ، وهذا لاسْتِقْصاءِ الأَحْوالِ. وجَوابُ الشَرْطِ محذوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ ما قَبْلَهُ. وجملةُ "ولو كره الكافرون" حالِيَّة مِنَ الإتمامِ المُتَقَدِّمِ.