أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ
(63)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ} المُحَادَّةُ: المُشَاقَّةُ، وَالمُخَالَفَةُ، وَالمُعَادَاةُ، والمعانَدَةُ، ومجاوَزَةُ الحَدِّ. قيلَ: مُشْتَقَّةٌ مِنَ الحَدِّ وهُوَ حَدُّ السِلاحِ الذي يُحارَبُ بِهِ مِنَ الحَديدِ. وقِيلَ: مِنَ الحَدِّ الذي هُوَ الجِهَةُ كأَنَّهُ في حَدٍّ غَيرِ حَدِّ صاحِبِهِ كَقَوْلِهم: شاقَّهُ، أيْ: كانَ في شِقٍ غَيرِ شِقِّ صاحِبِهِ. وعاداهُ: أَيْ كانَ في عُدْوَةٍ غَيْرِ عُدْوَتِهِ.
يقولُ ـ سُبْحانهُ وتَعالى، مهدِّداً متوعِّداً أُولئِكَ المُنافِقينَ الذينَ كانوا مَدارَ الحَديثِ في الآياتِ المُتَقَدِّماتِ، وغيرَهم ممَّنْ كانَ مثلَهم، فسَلَكَ سَبِيلَ العِداءِ للهِ ولِلرَسولِ وللمُؤمنين، أَلاَ يَعْلَمُ هَؤُلاَءِ المُنَافِقُونَ أَنَّ مَن شَاقَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وتَعَدّى حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللهُ، وَحَارَبَ اللهَ ورسولَهُ وَخَالَفَهُمَا، وَلَمَزَ رَسُولَ اللهِِ فِي أَعْمَالِهِ وَأَخْلاَقِهِ: "فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا" يَصْلاها ويُشوى بِها، وَيَبْقَى خَالِداً فِيهَا ما شاءَ اللهُ ذَلِكَ، وذلك هو "الْخِزْيُ الْعَظِيمُ" والذُّلُّ العميمُ والعذابُ المقيمُ، وَالشَّقَاءُ الذي لا شَقَاءَ مِثْلُهُ، والخَسارةُ الكُبرى التي لا تَعْدِلُها خسارةٌ أَبَداً. فقد أَخْرَجَ أَبو الشَيْخِ عَنْ يَزيدِ بْنِ هَرونَ قال: خَطَبَ أَبُو بَكْرٍ الصِدِّيقُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقال في خُطْبَتِهِ: يُؤْتَى بِعَبْدٍ قدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ، وبَسَطَ لَهُ في الرِزْقِ، قَدْ أَصَحَّ بَدَنَهُ، وقَدْ كَفَرَ نِعْمَةَ رَبِّهِ، فَيُوقَفُ بَينَ يَدَيِ اللهِ تَعالى، فيُقالُ لَهُ: ماذا عَمِلْتَ لِيَوْمِكَ هَذا، وما قَدَّمْتَ لِنَفْسِكَ؟ فَلا يَجِدُهُ قَدَّمَ خَيراً، فَيَبْكي حتى تَنْفَدَ الدُموعُ، ثمَّ يُعَيَّرُ ويَخْزَى بما ضَيَّعَ مِنْ طاعَةِ اللهِ، فيَبْكي الدَمَ، ثمَّ يُعَيَّرُ ويَخْزَى حتى يَأْكُلَ يَدَيْهِ إلى مِرْفَقَيْهِ، ثمَّ يُعَيَّرُ ويَخْزَى بما ضَيَّعَ مِنْ طاعَةِ اللهِ، فيَنْتَحِبُ حتّى تَسْقُطَ حَدَقَتاهُ على وَجْنَتَيْهِ، وكُلُّ واحِدٍ مِنْهُما فَرْسَخٌ في فَرْسَخٍ، ثمَّ يُعَيَّرُ ويَخْزَى حتَّى يَقولَ: يا رَبِّ ابْعَثْني إلى النَارِ وارْحَمْني مِنْ مَقامي هذا. وذَلِكَ قَوْلُهُ: "أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ ورَسُولَهُ فَأِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ".
قولُهُ تَعالى: {أَلَمْ يَعْلَموا} هُوَ الْتِفاتٌ مِنَ الغَيْبة إلى الخِطابِ، إنْ كانَ المُرادُ المُنافِقين. وقيلَ: الخطابُ للنبيِّ ـ صلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وأَتى بِصيغَةِ الجَمْعِ تَعْظيماً كما قالَ العَرْجيُّ مخاطباً امْرَأتَهُ:
وإنْ شئتِ حرَّمْتُ النِساءَ سِواكُمُ .. وإنْ شئتِ لم أَطْعَمْ نُقاخاً ولا بَرْدا
النُقاخُ: الماءُ العَذْبُ الذي يَنْقَخُ الفُؤادَ بِبَرْدِهِ. والنَقْخُ: النَقْفُ،
وهوَ كَسْرُ الرَأْسِ عَنِ الدِماغِ. واسمُ العَرْجِيِّ: عبدُ اللهِ ابْنُ عُمَرَ بْنِ عَمْرٍو بْنِ عُثمانَ الأُمَوِيُّ القُرَشيُّ. والعرجيُّ نِسْبَةً إلى العَرْجِ، وهوَ مَوْضِعٌ بَينَ مَكَّةَ والمَدينةَ فيهِ وُلِدَ أَوْ كانَ يَنْزِلُ بهِ، وقد صَحِبَ مَسْلَمةَ ابْنَ عبدِ المَلِكِ، وكانَ شاعِراً فارِساً سَخِيّاً شُجاعاً، مَيّالاً للَّهْوِ والصَيْدِ، وكان أَكْثرَ شِعرِهِ وأَجودَهُ الغزلُ والنسيبُ.
وقيلَ: الخطابُ للمؤمنين، وبهذِهِ التَقديراتِ الثلاثَةِ يَخْتَلِفً مَعنى الاسْتِفْهامِ: فعَلَى الأَوَّلِ يَكونُ الاسْتِفْهامُ للتَقْريعِ والتَوْبيخِ، وعلى الثاني يَكونُ للتَعَجُّبِ مِنْ حالِهم، وعلى الثالثِ يكونُ للتَقْريرِ.
والعِلْم هنا في قولِهِ: "أَلمْ يَعْلَموا" يُحْتَمَلُ أَنْ يَكونَ على بابِهِ فَتَسِدُّ "أَنَّ" مَسَدَّ مَفْعولَيْنِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، ومَسَدَّ أَحَدِهِما عِنْدَ الأَخْفَشِ والآخَرُ محَذوفٌ، ويحتَمَلُ أَنْ يَكونَ العلمُ هُنا بمعنى العِرْفانِ فتَسِدُّ "أَنَّ" مَسَدَّ مفعولٍ واحدٍ. و "مَنْ" شَرْطِيَّةٌ و {فَأَنَّ لَهُ نَارَ} جوابُها، وفُتِحتْ "أنَّ" بعدَ الفاءِ لِما تقدَّمَ بيانُه في سورةِ الأنْعامِ، والجملَةُ الشَرْطِيَّةُ في محَلِّ رَفْعِ خَبَرِ "أنَّ" الأُولى. وهذا تخريجٌ واضِحٌ، وقد عَدَلَ عَنْ هَذا الواضِحِ جماعةٌ إلى وجوهٍ أُخرَ فقالَ الزمخشريُّ: ويَجوزُ أَنْ يَكونَ "فأنَّ له" مَعْطوفاً على "أَنَّه" على أَنَّ جوابَ "مَنْ" محذوفٌ تَقديرُهُ: أَلم يَعْلَموا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ ورَسُولَهُ يُهْلَكْ "فأَنَّ لَهُ". وقالَ الجُرْمِيُّ والمُبَرِّدُ: "أَنَّ" الثانيةُ مُكَرَّرةٌ للتَوْكيدِ، كأَنَّ التَقديرَ: فَلَهُ نارُ جَهَنَّمَ، وكُرِّرَتْ "أنَّ" توكيداً. وشبَّهَهُ أَبو البَقاءِ بِقَوْلِهِ تَعالى في سُورَةِ النحلِ: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السوءَ} ثم قالَ: {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا} الآية: 119، قالَ:
"والفاءُ على هذا جَوابُ الشَرْطِ".
وقد رَدَّ الشيخُ أبو حيّانَ الأَنْدَلُسيُّ على الزَمَخْشَريِّ، قولَهُ بِأَنَّهم نَصُّوا على أَنَّهُ إذا حُذِفَ جَوابُ الشَرْطِ، لَزِمَ أَنْ يَكونَ فِعْلُ الشَرْطِ ماضياً، أوْ مُضارِعاً مَقْروناً بِ "لم"، والجوابُ على قولِهِ محذوفٌ، وفعلُ الشَرْطِ مُضارِعٌ غيرُ مُقْتَرِنٍ بِ "لم"، وأَيْضاً فإنَّا نَجِدُ الكلامَ تامّاً بِدونِ هَذا الذي قَدَّرَهُ.
وقد نُقِلَ عَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ قالَ: "الثانيةُ بَدَلٌ مِنَ الأُولى"، وهذا لا يَصِحُّ عَنْ سِيبَوَيْهِ فإنَّهُ ضَعيفٌ أوْ ممتَنِعٌ بوَجهين، أوَّلُهُما: أَنَّ الفاءَ تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، والحُكْمُ بِزِيادَتِها ضَعيفٌ. وثانيهُما: أَنَّ جَعْلَها بَدْلاً يُوجِبُ سُقوطَ جَوابِ "مَنْ" مِنَ الكَلامِ. وقالَ القاضي أبو محمَّدٍ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهذا يُعْتَرَضُ بأَنَّ الشيءَ لا يُبَدَّلُ مِنْهُ حَتى يُسْتَوْفى، والأُولى في هذا المَوْضِعِ لم يَأْتِ خَبرُها بَعْدُ، إذْ لمْ يَأْتِ جَوابُ الشَرْطِ، وتِلْكَ الجُمْلَةُ هِيَ الخبرُ. وأَيْضاً فإنَّ الفاءَ تمانعُ البدلَ، وأَيْضاً فهي في معنًى آخَرَ غيرِ البدَلِ فَيَقْلَقُ البَدَلُ. وقال بعضُهم: فيَجِبُ على تَقديرِ اللامِ، أَيْ: فَلأَنَّ لَهُ نَارُ جَهَنَّمَ وعلى هَذا فلا بُدَّ مِنْ إِضْمارِ شَيْءٍ يَتِمُّ بِهِ جَوابُ الشَرْطِ تَقْديرُهُ: فمُحادَّتُه، لأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ.
وهَذِهِ كُلُّها تَكَلُّفاتٌ لا يُحْتاجُ إلَيْها، فالأَوْلى ما تَقَدَّمَ ما ذَكَرَهُ: وهُوَ أَنْ يَكونَ "فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ" في مَحَلِّ رَفْعٍ بالابْتِداءِ، والخَبَرُ محذوفٌ، ويَنْبَغِي أَنْ تُقَدِّرَهُ مُتَقَدِّماً عَلَيْها كما فَعَلَ الزَمَخْشَرِيُّ وغيرُهُ أَيْ: فحَقٌّ أَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ. وقَدَّرَهُ غيرُهُ مُتَأَخِّراً، أَيْ: فأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ واجِبٌ. كذا قدَّرَهُ الأَخْفَشُ. ورَدُّوهُ عَلَيْهِ بِأَنَّها لا يُبْتَدَأُ بها، وهذا لا يُلْزِمُه فإنَّه يُجيزُ الابْتِداءَ بِ "أَنَّ" المفتوحَةِ مِنْ غيرِ تَقديمِ خَبرٍ، وغَيرُهُ لا يُجيزُ الابْتِداءَ بِها إلاَّ بِشَرطِ تَقَدُّمِ "أَمَّا"، نحوَ: "أمَّا أَنَّكَ ذاهِبٌ فَعِنْدِي" أَوْ بِشَرْطِ تَقَدُّمِ الخَبَرِ نحوَ: "عِنْدِي أَنَّكَ مُنْطَلِقٌ". وقيلَ: "فَأَنَّ لَهُ" خَبرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذوفٍ، أَيْ: فالواجِبُ أَنَّ لَهُ. وهذِهِ الجُمْلةُ التي بَعْدَ الفَاءِ مَعَ الفاءِ في محَلِّ جَزْمٍ جَواباً للشَرْطِ. و "خالداً" نَصْبٌ عَلى الحالِ.
قرأَ الجُمْهورُ: "يَعْلموا" بِياءِ الغَيْبَةِ رَدَّاً على المنافقين. وقرأَ الحَسَنُ والأَعْرَجُ: "تَعْلموا" بتاءِ الخِطابِ.
وقرأ الجمهورُ: {فأنَّ له نارَ جهنَّمَ} بالفتحِ، وقَرَأَ أَبو عَمْرٍو فيما رَواهُ أَبو عُبَيْدَةَ، والحَسَنُ، وابْنُ أَبي عَبْلَةَ: "فإنَّ" بالكَسْرِ، وهيَ قِراءةٌ حَسَنَةٌ قَوِيَّةٌ، تَقَدَّمَ أَنَّهُ قَرَأَ بها بَعْضُ السَبْعَةِ في الأَنْعامِ، وتَقَدَّم توجيهُها هناك.