أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا} هو خطابٌ لمنْ شَقَّ عليه القِتالُ مِنَ المُؤمنينَ أَوِ المُنافقين: أَظَنَنْتُمْ أَنْ يَتْرُكَكُمُ اللهُ مُهْمَلِينَ، لاَ يَخْتَبِرُكُمْ بِأُمُورٍ تُظْهِرَ فِيكُمُ الصَّادِقَ مِنَ الكَاذِبَ، لِيَعْلَمَ الذِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِهِ، وَيُخْلِصُونَ فِي جِهَادِهِمْ وَنُصْحِهِمْ، للهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِلمُؤْمِنِينَ، وَيَكُونُ ظَاهِرُهُمْ كَبِاطِنِهِمْ، فِي الإِخْلاَصِ للهِ وَلِلرَّسُولِ، وَلَيْسَ لَهُمْ بِطَانَةٌ مِنَ المُشْرِكِينَ، وَلاَ رَوَابِطُ مَعَ المُشْرِكِينَ، وَلاَ يُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِأَسْرارِ المُسْلِمِينَ وَخُطَطِهِمْ، وَاللهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيءٍ عِلْماً .
قولُهُ: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} ولمّا يَعْلمِ: المُرادُ بهِ: لمَّا يَعْلَمْ ذلك مَوجوداً كما عَلِمَهُ أَزَلاً بِشَرْطِ الوُجودِ، ولمّا يَظْهَرْ فِعْلُكم واكْتِسابُكمُ الذي يَقَعُ عليْهِ الثَوابُ والعِقابُ، ففي العِبارَةِ تَجَوُّزٌ وإلاَّ فَحَتْمٌ أَنَّه قَدْ عَلِمَ اللهُ في الأَزَلِ الذينَ وَصَفَهم بهذِهِ الصِفَةِ مَشْروطاً وُجودُهم، وليسَ يَحْدُثُ لَهُ عِلْمٌ ـ تَبارَكَ وتعالى، عَنْ ذَلِكَ، فإنَّ علمَهُ قديمٌ أَزَليٌّ قائمٌ بذاتِهِ تَعالى، يعلمُ الأمورَ كلَّها على حقيقتها قبل أن توجدَ وبعدَ أنْ يوجِدَها، ولَيْسَ بحادِثٍ. وقد سبق أنْ أَشَرْنا إلى هذا في غيرِ مَوْضِعٍ من هذا السِفرِ.
قولُهُ: {وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} هذا يَقْتَضي لُزومَ اتِّباعِ المؤمنينَ، وتَرْكَ العُدولِ عَنْهم، كَما يَلْزَمُ اتِّباعُ النَبيِّ ـ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ. والوَليجة: بِوَزْنِ "فَعِيلة"، مِنَ الوُلوج وهو الدخول. والوليجة: مَنْ يُداخِلُك في باطِنِ أُمورِكَ. وأَخرجَ ابْنُ المُنذِرِ وابْنُ أَبي حاتمٍ وأَبو الشيخِ عَنِ ابْنِ عباسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قال: الوَليجةُ: البِطانَةُ مِنْ غَيرِ دِينِهم. وكُلُّ شيءٍ أَدْخَلْته في شيءٍ وليسَ مِنْه فهو وليجةٌ أولجتَها فيه، والرجلُ يدخُل في القومِ وليس منهم، ويُكونُ للمُفردِ والمثنى والمجموع. وقد يُجمع على وَلائج ووُلُجٍ، ك "صحيفة" وصَحائف وصُحُف. ومنه قول عُبادةَ بْنُ صَفوان الغَنَوِيِّ:
وَلائِجُهُمْ في كلِّ مَبْدًى ومَحْضَرٍ ...... إلى كلِّ مَنْ يُرجى ومَنْ يُتَخَوَّفُ
قولُهُ: {وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} تَذْييلٌ لإنْكارِ ذلكَ الحُسْبانِ، أَيْ: لا تَحْسَبُوا ذَلِكَ مَعَ عِلْمِكُمْ بِأَنَّ اللهَ خَبيرٌ بِكُلِّ ما تَعْمَلونَه. وَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ أَنَّ التَكْلِيفَ الذِّي يَشُقُّ عَلَى الأَنْفُسِ هُو الذِي يُمَحِّصُ مَا فِي القُلُوبِ، وَيُطَهِّرُ السَّرَائِرَ، وَيَكْشِفُ مَكْنُونَاتِ السَّرَائِرِ الخَبِيثَةِ.
قولُهُ تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ} أَمْ: هي هُنا المتوسِّطةُ في الكلامِ وليْسَتِ المُعادِلَةُ، وهي التي تتضمَّن اسْتِفهاماً وإضْراباً عَنِ اللفظِ لا عَنْ مَعناهُ عندَ سيبويْهِ، فهي تَسُدُّ مَسَدَّ "بَلْ" و "أَلِفِ الاسْتِفهامِ"، كما هي في قولهم: إنها لإبلٌ أَمْ شاءٌ؟. والتَقديرُ: بَلْ أَهِيَ شاءٌ؟. و "حَسِبْتُم" ظَنَنْتم، ومصدرُ حَسِبَ، التي بمَعنى ظَنَّ "الحِسْبانُ" بكسْرِ الحاءِ، فأمَّا مَصْدَرُ "حَسَبَ" بمَعنى أَحْصى العَدَدَ فهو "الحُسْبانُ" بِضَمِّها.
وقولِه: {أَنْ تُتْرَكُوا} يَسُدُّ عِنْدَ سيبويْهِ مَسَدَّ مَفعوليْ "حَسِبَ"، وقالَ المُبرِّدُ: "أَنْ" وما بعدَها مَفْعولٌ أَوَّلُ والثاني محذوف، تقديرُهُ: مُهْمَلينَ، أَوْ سُدًى، ونحو ذلك. ولا بُدَّ لِفِعْلِ التَرْكِ مِنْ تَعليقِهِ بمُتَعَلّقٍ: مِنْ حالٍ أَوْ مَجْرورٍ يَدُلُّ على الحالَةِ التي يُفارِقُ فيها التاركُ مَتْروكَهُ، كقولِهِ تعالى في سورة العنكبوت: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} الآية: 2. ومنهُ قولُ عَنتَرةَ:
فتركتُه جَزَرَ السِباعِ يَنُشْنَهُ .............. يَقْضَمْنَ حُسْنَ بَنانِهِ والمِعصَمِ
ومنه أَيْضاً قَوْلُ كَبْشَةَ بِنْتِ مَعْدِ يَكْرِبَ الزبيدي، أُخْتُ عَمْرٍو، على لِسانِ شَقيقِها عَبْدِ اللهِ حينَ قَتَلَتْهُ بَنُو مازِنِ في بَلْدَةِ صَعْدَةَ اليَمَنِ:
ولا تَأْخُذوا مِنهمْ إفالاً وأَبْكُراً ........... وأُتْرَكَ في بَيْتٍ بِصَعْدَةَ مُظْلِمِ
وكانوا قد جاؤوا إلى عَمرٍو حين قُتِلَ أخوه عبدُ اللهِ فقالوا: إنَّ أَخاكَ قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنَّا سَفِيهٌ وهوَ سَكْران، ونحنُ يَدُكَ وعَضُدُك، فَنَسْأَلَكَ الرَّحِمَ وإلاَّ أَخَذْتَ الدِيةَ ما أَحْبَبْتَ، فهَمَّ عَمْرٌو بذلك، فلمَّا قالتْ أختُه كَبْشَةَ أبياتاً تعيِّرُها فيها ومنها البيت السابق، أَكَبَّ على بَني مازِنٍ وهُم غارّونَ فقَتَلَهم أمّا بقيَّةُ الأبياتِ التي عيَّرَتُه فيها وحمَّسَتًهُ فهي:
أَرْسَلَ عبدُ اللهِ إِذْ حانَ يَوْمُهُ ............. إِلى قَوْمِهِ: لا تَعْقِلُوا لهُمُ دَمِي
ولا تَأْخُذُوا مِنْهُمْ إِفالاً وأَبْكُراً ........... وأُتْرَكَ في بَيْتٍ بِصَعْدَةَ مُظْلِمِ
ودَعْ عَنْكَ عَمْراً، إِنَّ عَمْراً مُسالِمٌ ... وهَلْ بَطْنُ عَمْرٍو غَيْرُ شِبْر لمَطْعَمِ
فإِنْ أَنْتمُ لَمْ تَثْأَرُوا بأَخِيكُمُ ................ فمَشُّوا بِآذان النَّعام المُصَلَّمِ
ولا تَشْرَبُوا إِلاَّ فُضُولَ نِسائِكُمْ ......... إِذا ارْتَمَلَتْ أَعقابُهُنَّ مِن الدَّمِ
وقد حُذِفَ مُتَعَلّقُ "تُتْرَكُوا" في الآية: لِدَلالَةِ السِياقِ عَليْه، أَيْ: أحسبتم أَنْ تُتْرَكوا دونَ جِهادٍ، أَيْ: أَنْ تُتْرَكوا في دَعَةٍ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ.
وقوله: {ولمّا} الواو: هنا حاليَّةٌ، و "لمّا" مِنَ الجَوازِمِ، وهي للنَفْيِ مَعَ تَوَقُّعِ الحدوث، ونَفى العِلْمَ والمُرادُ نَفْيُ المَعلومِ، وهو الجهادُ على أَبْلَغِ وَجْهٍ، ودَخَلَتْ على "لمْ" للمُبالَغَةٌ، والمعنى: أَظَنَنْتم أَنْ تُتْرَكوا دُون اخْتِبارٍ وامْتِحانٍ؟. وجملةُ: "وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ" في مَوْضِعِ الحالِ مِنْ ضَميرِ قولِهِ: "تُتْرَكُوا".
{وَلَمْ يَتَّخِذُواْ} يجوزُ في هذه الجملة أَنَّ تَكونَ داخلةً في حيِّزِ الصَلاةِ من قولِهِ في الآية: 11، السابقةِ من هذه السورة: {فإنْ تابوا وأَقاموا الصلاةَ} لِعَطْفِها عليها، أَيْ: الذين عاهدوا ... ولم يتَّخذوا. ويجوزُ أنَّها في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ مِنْ فاعلِ "جاهدوا"، أيْ: جاهَدوا حالَ كونِهم غيرَ مُتَّخِذين وَلِيْجَةً. و "وَلِيجةً" مفعولٌ به منصوبٌ.
قولُهُ: {مِن دُونِ الله} مفعولٌ ثانٍ، إنْ كانَ الاتخاذُ بمعنى التَصْييرِ، أو هو متعلقٌ باتخاذِ الوليجة في موضِعِ الحالِ المبيّنةِ إنْ كان على بابِه. و "مِنْ" ابْتِدائِيَّةٌ، أَيْ: وَليجَةٌ كائنةٌ في حالةِ تَشبيهِ المكانِ الذي هُوَ مَبْدَأٌ للبُعْدِ مِنْ اللهِ ورَسُولِهِ والمؤمنين
قرأَ العامَّةُ: {بما تَعْملون} بتاء الخطاب، وقرأَ الحَسَنُ، ويعقوبُ في رِوايةِ سَلاَّمٍ عنه: "بما يَعْملون" بالغَيْبةِ على الالْتِفاتِ.