[size=48]الموسوعةُ القرآنية[/size]
[size=48]فَيْضُ[/size][size=48] [/size][size=48]العَليمِ[/size][size=48] [/size][size=48]مِنْ[/size][size=48] [/size][size=48]مَعاني[/size][size=48] [/size][size=48]الذِّكْرِ[/size][size=48] [/size][size=48]الحَكيمِ[/size]
[size=32]تفسير[/size][size=32] [/size][size=32]ـ[/size][size=32] [/size][size=32]أسباب[/size][size=32] [/size][size=32]نزول[/size][size=32] [/size][size=32]ـ[/size][size=32] [/size][size=32]قراءات[/size][size=32] [/size][size=32]ـ[/size][size=32] [/size][size=32]أحكام[/size][size=32] [/size][size=32]ـ[/size][size=32] [/size][size=32]إعراب[/size][size=32] [/size][size=32]ـ[/size][size=32] [/size][size=32]تحليل[/size][size=32] [/size][size=32]لغة[/size]
[size=37]اختيار[/size][size=37] [/size][size=37]وتأليف[/size][size=37]:[/size]
[size=48]الشاعر[/size] [size=48]عبد[/size][size=48] [/size][size=48]القادر[/size][size=48] [/size][size=48]الأسود[/size]
الجزءُ الحادي عَشَرَ ـ المُجلَّدُ الحادي عَشَرَ
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ
(93)
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ} جَعَلَ اللهُ تَعَالَى المَلاَمَةَ عَلَى الذِينَ يَسْتَأْذِنُونَ الرَّسُولَ فِي القُعُودِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلاَ ضَرُورَةٍ، وَهُمْ أَصِحَّاءَ أَغْنِيَاءُ، قَادِرُونَ عَلَى الإِنْفَاقِ، فطَريقُ الإثمِ واللَّومِ والتَعْنيفِ والتَوبيخِ إنَّما يَتَّجِهُ إلى هؤلاءِ الأَغْنياءِ الذين اسْتَأْذَنوا النبيَّ في القُعودِ والتَخَلُّفِ عَنْ القتالِ.
وإذا أُطْلِقَ لفظُ الغِنى فإنَّما يَنْصَرِفُ إلى غِنى المالِ، ولكنَّه إذا جاءَ بالمعنى الخاصِّ فإنَّ مَعناهُ هُوَ ما يَدُلُ عَليْهِ النَصُّ. فإنَّ الذي لا يَجِدُ ما يُنْفِقُهُ قد أُعْفِيَ في الآيةِ السابِقَةِ، وقد تقدَّمَ.
إذاً: فمَنْ يَجْدُ ما يُنْفِقُهُ فهوَ غَنيّ بِطَعامِهِ. والضَعيفُ قَدْ أُعْفيَ أيضاً، إذاً: فالقَوِيُّ غَنيٌّ بِقُوَّتِهِ. والمريضُ أُعْفيَ كذلك، إذاً: فالصَحيحُ غَنيٌّ بِصِحَّتِهِ، وَمَنْ لم يَجدْ ما يَنْقُلُهُ إلى مَكانِ الجِهادِ قَدْ أُعْفِيَ، إذاً: فَمَنْ مَلَكَ رَاحِلَةً كانَ غنيّاً بِراحِلَتِهِ.
فإنَّ اللومَ إذاً والتَوبيخَ والتَعنيفَ والإثمَ كُلُّ ذَلِكَ مُنْصَبٌّ على الأغْنياءِ بهذِهِ الأشياءِ، ومَعَ ذَلكَ فقَدْ اسْتَأْذَنوا في القُعودِ عَنِ الجِهادِ.
قولُهُ: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} وَمنْ يَرْضَ أَنْ يَكونَ مَعَ الخَوالِفِ، فهو مُتَّصِفٌ بِدَناءَةِ النَفْسِ وانْحِطاطِ الهِمَّةِ؛ فهُمْ قد رَضُوا أنْ يُعامَلوا مُعامَلَةَ النِساءِ، ولِذلكَ فقد وَبَّخَهُمْ لرِضَاهُمْ بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ العَجَزَةِ وَالمَرْضَى وَالنِّسَاءِ القَوَاعِدِ.
قولُهُ: {وَطَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} وَقَالَ تَعَالَى إِنَّهُ طَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَخَتَمَ عَلَيْهَا، وَأَحَاطَتْ بِهِمْ خَطَايَاهُمْ وَذُنُوبُهُمْ، فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ حَقِيقَةَ أَمْرِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَلاَ سُوءَ عَاقِبَتِهِمْ فِي الآخِرَةِ.
وقال الحقُّ سُبْحانَهُ، قبلَ ذَلِكَ: {وَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} الآية: 87. مِنْ هذه السورة، بالبناء للمفعولِ، ليَلْفِتَنا إلى أَنَّ المُنافَقينَ هُمُ الذين جَلَبوا لأَنْفُسِهم هَذا الطَبْعَ على القُلُوبِ؛ لأنَّهم وَضَعُوا في قُلوبهِمُ الكُفْرَ، ثمَّ أَخَذوا يَتَحَدَّثونَ بِأَلْسِنَتِهم عَنِ الإيمانِ، ويحاوِلونَ خِداعَ المؤمنين، ويخادِعونَ اللهَ؛ فأَرادَ اللهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعالى، أَنْ يُوضِحَ لهم: ما دُمْتُم قَدِ اخْتَرْتُمُ النِفاقَ والكُفْرَ؛ فَسَنَطْبَعُ على قلوبكم، ونَخْتِمُ عَلَيْها حتى لا يَخْرُجَ الكُفْرُ مِنْها ولا يَدْخُلُها الإيمانُ.
أمَّا قولُهُ هنا: "وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ" فقد نَسَبَ سبحانَهُ، الطَّبْعَ إلى نفسِهِ لِيَكونَ أقْوى، وليَأْتي الطَبْعُ مِنْه كَحُكْمٍ نِهائيٍّ بأَنَّ اللهَ قَضى عَلَيْهمْ بِهِ، فَلا يخْرُجُ مِنْ قلوبهم قدْرٌ ضَئيلٌ مِنَ النِفاقِ، ولا يَتَسَرَبُ إلى قلوبهم ذَرَّةٌ مِنْ إيمانٍ؛ لأنهم لا يَفقهونَ هذا الإيمانَ. ونَفْيُ الفِقْهِ أَوِ الفَهْمِ لا يَنْفي العِلْمَ عنهم، ولكنَّ نَفْيَ العِلْمِ نَفْيٌ للفَهْمَ أَيْضاً, فقولُهُ: "لاَ يَفْقَهُونَ" أَيْ: لا يَفْهَمونَ بأنفُسِهم، ولكنْ قدْ يَتَعَلَّمونَ مِنْ غَيرِهِم.
وقد نَزَلَتْ هذهَ الآيةُ في المنافقينَ المُتَقَدِّمِ ذِكْرُهم وهم: عبدُ اللهِ ابْنُ أُبيٍّ بْنِ سَلولٍ، والجُدِّ بْنِ قَيْسٍ، ومُعْتِبٍ وغيرِهِم.
قولُهُ تَعالى: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} هو كلامٌ مُسْتَأْنَفٌ وكأَنَّ قائلاً قالَ: ما بالُ هؤلاءِ المنافقينَ اسْتَأْذَنوا الرسولَ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ، في القُعودِ وَهُمْ قادرونَ على الجَهادِ؟، فَأُجيبَ: "رَضُوا بأنْ يَكونوا مَعَ الخَوالِفِ". أَوْ هُوَ في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحالِ منهم، و "قد" مُقَدَّرَةٌ في قولِهِ "رَضُوا".
وقولُهُ: {وَطَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} عطفُ نَسَقٍ على "رضُوا .." تَنْبيهاً على أَنَّ السَبَبَ في تخلُّفِهم هو رِضاهم بِقُعودِهِم عن الجهادِ مع رسولِ الله ـ صلى اللهُ عليهِ وسلّمَ، وطَبْعُ اللهِ تعالى على قلوبهم.
وقولُهُ: {إِنَّمَا السبيل على} إنَّما: لَيْسَتْ للحَصْرِ هُنا وإنَّما هِيَ للمُبالَغَةِ فيما يُرادُ تَقريرُهُ على نحوِ قولِكَ إنَّما الشُجاعُ عَنْتَرَةُ، ويَقْضي بِذَلكَ أنَّا نَجِدُ السبيلَ في الشَرْعِ على غيرِ هذِهِ الفِرْقَةِ مَوْجُوداً أَيضاً.
وقد تُوصَلُ "السبيلُ" بِ "على" وقد توصَلُ بِ "إلى" فتقولُ: (لا سبيلَ عَلى فُلانٍ)، و (لا سَبيلَ إلى فُلان)، غيرَ أَنَّ وَصلَها بِ "على" يَقْتَضي أَحْياناً ضَعْفَ المُتَوَصَّلِ إليهِ وقِلَّةَ مِنْعَتِهِ، فلذلك حَسَنُتْ في هذِهِ الآيةِ، وليسَ ذَلِكَ في إلى، ألاَ تَرى أَنَّكَ تَقولُ: لا سَبيلِ إلى الأَمْرِ، ولا سبيلَ إلى طاعَةِ اللهِ، ولا يَحْسُنُ " على" في هَذا وشِبْهِ، و "السبيلُ" في هذهِ الآيَةِ هو سَبيلُ المُعاقَبَةِ. فقد أُتِي بِ "على" وإنْ كانَ قَدْ يَصِلُ بِ "إلى" لما ذَكرنا من فَرْقٍ، ولأَنَّ "على" تَدُلُّ على الاسْتِعْلاءِ بخلافِ "إلى" فإذا قلتَ: "لا سبيل عليك" فهو مغايرٌ لقولِك: لا سبيلَ إليك. ومِنْ مجيءِ "إلى" معَهُ، قولُ الرَّمّاحِ بْنِ مَيّادَةَ:
أَلاَ لَيْتَ شِعْري هَلْ إلى أُمِّ مالكٍ ...... سَبيلٌ فأَمَّا الصبرُ عَنْها فلا صَبْرا
ومن ذلك قولُ الذَلْفاءِ:
هل من سبيلٍ إلى خَمْرٍ فأَشْرَبَها ...... أَمْ مِنْ سبيلٍ إلى نَصْرِ بن حَجَّاجِ
وبعده:
إِلى فَتىً ماجِدِ الأَعْراقِ مُقْتَبَلٍ .......... تُضِيءُ غُرَّتُهُ في الحالِكِ الدَّاجِي
نِعْمَ الفَتى في ظَلامِ اللَّيلِ نُصْرَتُهُ .......... لِبائِسٍ أَو لِمسْكِينٍ ومُحْتاجِ
رُوِيَ أنَّ أمير المؤمنينَ عمرَ بْنَ الخَطّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، كان يَعسُّ بِنَفْسِهِ، فَسَمِعَ امْرَأَةً تَقولُ هذه الأبياتِ، فقالَ: أَمَّا ما دامَ عُمُرُ إماماً فَلا، فلَمَّا أَصْبَحَ قالَ: عَلَيَّ بِنَصْرِ بْنِ الحَجاجِ، فأُتيَ بِهِ، فإذا هُوَ رَجُل جميلٌ، فقالَ: اخْرُجْ مِنَ المَدينةِ. قال: ولِمَ، ما ذَنْبي؟. قالَ: اخْرُجْ فوَ اللهِ ما تُساكِنُني، فخَرَجَ حتى أَتى البَصْرَةَ، وكَتَبَ إلى عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عُنْهُ:
لَعَمْري لَئِنْ سَيَّرْتَني وحَرَمْتَني ............... ولم آتِ إثماً، إنَّ ذا لَحَرامُ
ومالي ذنبٌ غيرَ ظَنٍّ ظَنَنْتَهُ ................ وبَعْضُ تَصاديقِ الظُنونِ إِثامُ
وإنْ غَنَّتِ الذَلْفاءُ يوماً بِمُنْيَةٍ ................ فبَعْضُ أَمانيِّ النِساءِ غَرامُ
فَظَنَّ بي الظَنَّ الذي لو أَتَيْتُه .............. لما كانَ لي في الصالحين مُقامُ
ويمنعني مما تمنَّتْ حَفيظَتي .................. وآباءُ صِدْقٍ سالفونَ كِرامُ
ويمنَعُها ممَّا تَمَنَّتْ صَلاتُها .................. وبيتٌ لها في قومِها وصِيامُ
فهذان حالانا فهلْ أَنْتَ مُرْجِعي .......... فقد جُبَّ مِنّي غارِبٌ وسَنامُ
فرَدَّهُ أميرُ المؤمنين عُمَرُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، بَعْدَ ذَلِكَ لِما وَصَفَ مِنْ عِفَّتِهِ.