[size=48]الموسوعةُ القرآنية[/size]
[size=48]فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ[/size]
[size=32]تفسير ـ أسباب النُزول ـ قراءات ـ أحكام ـإعراب ـ تحليل ـ للغة[/size]
[size=37]اختيار وتأليف[/size][size=37]:[/size]
[size=48]الشاعر عبد القادر الأسود[/size]
الجزءُ الثاني عَشَرَ ـ المُجلَّدُ الثاني عَشَرَ
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ
(6)
قولُهُ ـ تبارك وتعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا} الدَابَّةُ كلُّ ما دَبَّ على الأَرْضِ، وهيَ مَأْخوذَةٌ مِنَ الدَبِيبِ، وهوَ فيِ الأَصْلِ المَشْيُ الخَفيفُ، ومِنْهُ قولُ أَبِي أُمَيَّةَ أَوْسٍ الْحَنَفِيِّ:
زَعَمَتْني شَيْخاً ولَسْتُ بِشَيْخٍ ............... إنَّما الشَيْخُ مَنْ يَدِبُّ دَبيباً
فلْيَعْلَمْ هؤُلاَءِ أَنَّ قُدْرَةَ اللهِ وَنِعَمَهُ وَعِلْمَهُ شَامِلَةٌ لِكُلِّ شَيءٍ فِي الوُجُودِ، فَلاَ تُوجَدُ دَابَّةٌ مِنْ أَيِّ نوعٍ مِنْ أَنواعِ الدوابِّ الني تَتَحَرَّكُ فِي الأَرْضِ العاقلِ مِنْها كالإنْسانِ، وغيرِ العاقِلِ مِنَ الحيوانِ، مَهْما اخْتَلَفَتْ أَشْكالُها وأَلْوانُها وأَسماؤها وأَحْجَامُها، إِلاَّ وَقَدْ تَكَفَّلَ اللهُ سُبْحَانَهُ، بِرِزْقِهَا. وغِذائها المُناسِبِ لَها اللائِقِ بِها فمِنْها اللاّحِمُ الذي لا يأْكُلُ إلاَّ اللّحومَ، ومِنْها النباتيُّ الذي لا يأْكلُ إلاَّ النَبَاتَ، ومنها الإنْسانُ الذي لا يَسْتَغْني بِلَونٍ واحِدٍ، فهو يَتَغَذَّى بها جميعاً، وهذِهِ المَخْلوقاتُ لَيْسَتْ مُختلِفةً فيما بينها على أنواع الغذاءِ وإنَّما هي مُخْتِلِفَةٌ أَيضاً في كميَّتِه وأوقاتِ تناولِه، وما يُقالُ في الأَطْعِمَةِ يُقالُ في الأَشْرِبَةِ والكساءِ والمَسْكَنِ كذلك، وكلُّ ذلك رزقٌ مقسومٌ منه ـ تبارك وتعالى. وكلُّهُ إنّما يُعْطيهِ لِخَلْقِهِ إحْساناً منه عليهم وتكرُّماً وتَفَضُّلاً. وإنَّما جِيءَ بِهِ على طَريقِ الوُجوبِ، الذي تُشْعِرُ به"عَلَى" اعْتِبارًا بِسَبْقِ الوعدِ بِهِ مِنْه تعالى، وتحقيقاً لِوُصولِهِ، وحَمْلاً على التَوَكُّلِ فيه، وقيلَ: إنَّ "عَلَى" هُنا بِمَعْنى: "مِنْ"؛ أَيْ: مِنَ اللهِ رِزْقُها. وَالرِّزْقُ حَقِيقَتُهُ مَا يَتَغَذَّى بِهِ الْحَيُّ وَيَكُونُ فِيهِ بَقَاءُ رُوحِهِ وَنَمَاءُ جَسَدِهِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرِّزْقُ بِمَعْنَى الْمِلْكِ، لِأَنَّ الْبَهَائِمَ تُرْزَقُ وَلَيْسَ يَصِحُّ وَصْفُهَا بِأَنَّهَا مَالِكَةٌ لِعَلَفِهَا، وَهَكَذَا الْأَطْفَالُ تُرْزَقُ اللَّبَنُ وَلَا يُقَالُ: إِنَّ اللَّبَنَ الَّذِي فِي الثَّدْيِ مِلْكٌ لِلطِّفْلِ. وَقَالَ تَعَالَى في سورة الذاريات: {وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ} الآية: 22. وَلَيْسَ لَنَا فِي السَّمَاءِ مِلْكٌ، وَلِأَنَّ الرِّزْقَ لَوْ كَانَ مِلْكاً لَكَانَ إِذَا أَكَلَ الْإِنْسَانُ مِنْ مِلْكِ غَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَكَلَ مِنْ رِزْقِ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ مُحَالٌ، لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَأْكُلُ إِلَّا رِزْقَ نَفْسِهِ. قِيلَ لِأَبِي أُسَيْدٍ: مِنْ أَيْنَ تَأْكُلُ؟ فَقَالَ: سبحانَ اللهِ وَاللهُ أَكْبَرُ! إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ الْكَلْبَ أَفَلَا يَرْزُقُ أَبَا أُسَيْدٍ!. وَقِيلَ لِحَاتِمٍ الْأَصَمِّ: مِنْ أَيْنَ تَأْكُلُ؟ فَقَالَ: مِنْ عِنْدِ اللهِ، فَقِيلَ لهُ: اللهُ يُنْزِلُ لَكَ دَنَانِيرَ وَدَرَاهِمَ من السماء؟ فقال: كأن ماله إِلَّا السَّمَاءُ! يَا هَذَا الْأَرْضُ لَهُ وَالسَّمَاءُ لَهُ، فَإِنْ لَمْ يُؤْتِنِي رِزْقِي مِنَ السَّمَاءِ سَاقَهُ لِي مِنَ الْأَرْضِ، وَأَنْشَدَ:
وَكَيْفَ أَخَافُ الْفَقْرَ وَاللهُ رَازِقِي ... وَرَازِقُ هَذَا الْخَلْقِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ
تَكَفَّلَ بِالْأَرْزَاقِ لِلْخَلْقِ كُلِّهِمْ .. وَلِلضَّبِّ فِي الْبَيْدَاءِ وَالْحُوتِ فِي الْبَحْرِ
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ فِي "نَوَادِرِ الْأُصُولِ" بِإِسْنَادِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ أَبَا مُوسَى، وَأَبَا مَالِكٍ، وَأَبَا عَامِرٍ، فِي نَفَرٍ مِنْهُمْ، لَمَّا هَاجَرُوا وَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي ذَلِكَ وَقَدْ أَرْمَلُوا مِنَ الزَّادِ "أي نَفَدَ زادُهم"، فَأَرْسَلُوا رَجُلًا مِنْهُمْ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُهُ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى بَابَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَمِعَهُ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ: "وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ" فَقَالَ الرَّجُلُ: مَا الْأَشْعَرِيُّونَ بِأَهْوَنِ الدَّوَابِّ عَلَى اللهِ، فَرَجَعَ وَلَمْ يَدْخُلْ عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَبْشِرُوا أَتَاكُمُ الْغَوْثُ، وَلَا يَظُنُّونَ إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَلَّمَ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَعَدَهُ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ أَتَاهُمْ رَجُلَانِ يَحْمِلانِ قَصْعَةً بَيْنَهُما مَمْلُوءَةً خُبْزًا وَلَحْماً فَأَكَلُوا مِنْهَا مَا شَاؤوا، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَوْ أَنَّا رَدَدْنَا هَذَا الطَّعَامَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِيَقْضِيَ بِهِ حَاجَتَهُ، فَقَالُوا لِلرَّجُلَيْنِ: اذْهَبَا بِهَذَا الطَّعَامِ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّا قَدْ قَضَيْنَا مِنْهُ حَاجَتَنَا، ثُمَّ إِنَّهُمْ أَتَوْا رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ مَا رَأَيْنَا طَعَاماً أَكْثَرَ وَلَا أَطْيَبَ مِنْ طَعَامٍ أَرْسَلْتَ بِهِ، قَالَ: ((مَا أَرْسَلْتُ إِلَيْكُمْ طَعَاماً)) فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ أَرْسَلُوا صَاحِبَهُمْ، فَسَأَلَهُ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَهُ مَا صَنَعَ، وَمَا قَالَ لَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ذَلِكَ شَيْءٌ رَزَقَكُموهُ اللهُ)).
وَأخرج ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تعالى: "وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض إِلَّا على الله رزقها" يَعْنِي مَا جاءَها مِنْ رِزْقٍ فَمِنَ اللهِ وَرُبّمَا لَمْ يَرْزُقْها حَتَّى تَمُوتَ جُوعاً وَلَكِن مَا كَانَ لَهَا مِنْ رِزْقٍ فَمِنَ اللهِ.
قولُه: {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} وَرَزَقَها ذَاكَ الذي ضَمِنَه ـ سُبْحَانَهُ وتَعالى، وتَكفَّلَ لها بِهِ أَنْ يوصِلَهُ إِلَيْها في مَوْعدِهِ، ووَقْتِهِ، ومِقْدارِهِ، ونَوْعِهِ، حَيثُما كانَتْ، لا يَنْقُصُ ولا يَزيدُ، ولا يَتَبَدَّلُ، ولا يَتَغَيَّرُ، ولا يَتَقَدَّمُ، ولا يَتَأَخَّرُ، وكَفَالَتُهُ تَعالى لِخَلْقِهِ بِرِزْقِهم معناها أنَّهُ سَخَّرَهُ لَهم، وهدَاهم إلى طَلَبِه، وأَعانَهم على وتَحْصيلِهِ، ويسَّرَ ذَلِكَ لَهُمْ، وفي هذا المَعْنَى جاءَ أيضاً قَوْلُهُ تعالى في الآية: 50، مِنْ سُورَةِ (طه) حيثُ قالَ على لِسانِ سَيِّدِنا مُوسى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}. وهذا لا يَكونُ إلاَّ مِنْ عَليمٍ بِكُلِّ شَيْءٍ قادِرٍ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وهُوَ الذي قَدّرَ هذِهِ الأَقْدارَ كُلَّها، وهوَ مَعَ ذَلِكَ يَعْلَمُ مَكَانَ اسْتِقْرَارِهَا فِي حَالِ حَيَاتِهَا، وَالمَكَانَ الذِي تُوْدَعُ فِيهِ بَعْدَ مَوْتِهَا. قَالَ مِقْسَمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَ. "يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها" أَيْ مِنَ الْأَرْضِ حَيْثُ تَأْوِي إِلَيْهِ. و "مُسْتَوْدَعَها" أَيِ الْمَوْضِعَ الَّذِي تَمُوتُ فِيهِ فَتُدْفَنُ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: "مُسْتَقَرَّها" أَيَّامُ حَيَاتِهَا. وَ "مُسْتَوْدَعَها" حَيْثُ تَمُوتُ وَحَيْثُ تُبْعَثُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أيضاً عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهم: "مُسْتَقَرَّها" فِي الرَّحِمِ. وَ "مُسْتَوْدَعَها" فِي الصُّلْبِ. وَقِيلَ: "يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها" فِي الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ. و "وَمُسْتَوْدَعَها" فِي الْقَبْرِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي وَصْفِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ: {حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً} سورة الفرقان، الآية: 76. و {ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً} سورة الفرقان الآية: 66. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِه تعالى: "وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها" قَالَ: حَيْثُ تَأْوي و "مستودعها" قَالَ: حَيْثُ تَمُوتُ. وَأخرج أَبُو الشَّيْخ عَنْ أَبي صَالِحٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي الْآيَة قَالَ: "مستقرَّها" بِاللَّيْلِ، و "مستودعها" حَيْثُ تَمُوت. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "وَيعلم مستقرها" قَالَ: يَأْتِيهَا رِزْقُها حَيْثُ كَانَتْ. وَأخرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِم، وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: "وَيعلم مستقرها ومستودعها" قَالَ: مُسْتَقَرَّها فِي الْأَرْحَامِ ومُسْتَوْدَعها حَيْثُ تَمُوتُ. وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الإِيمانِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ((قَالَ إِذا كَانَ أَجَلُ أَحَدِكُم بِأَرْضٍ أُتيحَتْ لَهُ إِلَيْهَا حَاجَةٌ حَتَّى إِذا بَلَغَ أَقْصَى أَثَرِهِ مِنْهَا فَيُقْبَضُ فَتَقولُ الأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: هَذَا مَا اسْتَوْدَعْتَني)).
قولُهُ: {كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} وَكُلُّ مخلوقٍ مِنْ هَذِهِ المخلوقات، كَبُرَ أَوْ صَغُرَ كائناً ما كان، في أي مكانٍ كانَ برّاً أو بَحْراً، في جَبَلٍ أو جُحْرٍ، كلُّ ذَلِكَ مُثَبَّتٌ عِنْدَهُ مُبَيَّنٌ موضَّحٌ لا لَبْس فيه ولا غموضَ، مُدَوَّنٌ في كتابٍ لا يَأْتِيهِ الباطلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ومِنْ خَلْفِهِ، وهو اللوحُ المحفوظ، الذي لا يَصِلُهُ أُنسٌ ولا جانٌّ، ولا يَسْتَطيعُ أَحَدٌ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ أَوْ تَطَالُهُ يِدُهَ، بِتَغْييرٍ أَوْ تحريف أو مَحْوٍ أَوْ غيرِ ذَلِكَ إلاَّ اللهُ القَديرُ الذي لَهُ وَحْدَه ُأَنْ يمْحُوَ مِنْهُ ما يَشاءُ ويُثْبِت، وعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ.
قولُه تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ} وَمَا: الواوُ: اسْتِئْنافِيَّةٌ، و "مَا" نافيَةٌ مهملةٌ، "مِنْ" زائدةٌ، و "دَابَّةٍ" مُبْتَدَأٌ أَوَّلُ، مجرورٌ لفظاً بحرف الجرِّ الزائدِ "من"، مرفوعٌ محلاًّ بالابتداء، و "فِي الْأَرْضِ" جارٌّ ومَجْرورٌ، صِفَةٌ لِـ "دَابَّةٍ".
قوْلُهُ: {إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا} إِلاَّ: أداةُ حصرٍ، أو أَداةُ اسْتِثْناءٍ مُفَرَّغٍ، و "عَلَى اللهِ" جارٌّ ومَجْرورٌ، في محلِّ رفع خبرٍ مُقَدَمٍ و "رِزْقُهَا" مُبْتَدَأٌ ثانٍ مؤخَّرٌ، والجُمْلَةُ مِنَ المُبْتَدَأِ الثاني وخبرِهِ خَبَرٌ للأَوَّلِ، والجُمْلَةُ مِنَ المُبْتَدَأِ الأَوَّلِ، وخَبَرِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ،
قولُهُ: {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} الواوُ فِعْلٌ مضارعٌ وفاعلُه ضميرٌ مستترٌ جوازاً تقريرُه "هو" يعودُ على الله تعالى، ومَفْعولُهُ "مستقرَّ" وهو مضافٌ، والهاءُ ضميرٌ متصلٌ في محلِّ جرِّ مضافٍ إليه، و {وَمُسْتَوْدَعَهَا} إِعْرابُها كَسابِقَتِها التي عطفت عليها، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ في مَحَلِّ الرَفْعِ عَطفاً علىَ جُمْلَةِ المُبْتَدَأِ الثاني، كونَها خَبَرًا للأَوَّلِ.
قولُهُ: {كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبينٍ} كلٌّ: مُبْتَدَأٌ مرفوعٌ، وقد سَوَّغَ الابْتِداءَ بالنَكِرَةِ نِيَّةُ الإضافَةِ فِيه، والمُضافُ إِلَيْه مَحْذوفٌ، تَقْديرُهُ: كُلُّ ما ذُكِرَ مِنَ الدابَّةِ، ورِزْقِها، ومُسْتَقَرِّها، ومُسْتَوْدَعِها، والتَنْوينُ في "كلٍّ" للتَعْويضِ عَنْ مُفْرَدٍ مُضافٍ، تَقَدَّمَ تقديرُه.
"فِي كِتَابٍ" جارٌّ ومجرورٌ في محلِّ رفعِ خَبَرِ المُبْتَدَأِ، و "مُبِينٍ" صِفَةٌ لِـ "كِتَابٍ"، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِما قَبْلَها.
ويجوزُ أنْ يكون "مُسْتَقَرَّهَا" وَ "مُسْتَوْدَعَهَا" مصدَرْين، أيْ: اسْتِقرارَها واسْتِيداعَها، ويجوزُ أَنْ يَكونا مَكانَيْنِ، أَيْ: مَكَانَ اسْتِقرارِها واستيداعها. ويَجوزُ أنْ يَكونَ "مُسْتَوْدَعَها" اسْمَ مفعولٍ لِتَعدِّي فِعْلِه، ولا يجوزُ ذَلِكَ في "مستقر" لأنَّ فعلَه لازمٌ، ونظيرُهُ في المصدريَّةِ قولُ جرير:
ألم تعلمْ مُسَرَّحِيَ القوافي .................... فَلاَعِيّاً بِهِنَّ وَلاَ اجْتِلاَبَا
أيْ: تَسْريحي.