[size=48]البسملة[/size]
[size=35]بسم الله الرحمن الرحيم[/size]
قال بعضُ العلماءِ: هو قَسَمٌ مِن ربِّنا ـ تَبارَك وتعالى، أَنزلَه أَوَّلَ كُلِّ سورةٍ، ليُقْسِمَ لِعبادِه بأنَّ هذا الذي وضعتُ لكم في هذه السورةِ حَقٌّ، وإنِّي أَفِي لَكمْ بِجميعِ ماضَمِنْتُ في هذه السُورةِ مِن وعْدي ولُطفي وبِرِّي. وقال آخرون: إنَّها تَضَمَّنَتْ جميعَ الشَّرْعِ، لأنَّها تَدُلُّ على الذّاتِ العَلِيَّةِ وعلى الصِّفاتِ السَنيَّةِ.
قال الشيخُ محمَّد متولي الشِعْراوي ـ رَحِمَهُ الله تعالى وأكرم مثواه: إذا اعتدتَ على قولِ: "بسم الله الرحمن الرحيم" عند شُروعِكَ بكلِّ عَمَلٍ تقوم به، فغداً أيْضاً يوم القيامَةِ، وعندما تُعطى صحيفةَ أعمالِك بيدِك فَسَتَقول قبلَ قراءتِها: "بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ" جَرياً على ما اعْتَدْتَ عَلَيْهِ في الدنيا، فإذا بذنوبِك قدِ امَّحَتْ، فتَقولُ: ما ذا حدث؟ فيأتي النِداءُ، ياعَبْدي: لقَدْ دَعَوْتَني بالرَحمنِ الرحيم، فعاملتُكَ وِفْقَ هذهِ الرَحمة.
ومن معجزات الإلهِ العَظيمِ في هذا الاسْمِ الكريم المُؤَلَّفٌ مِنْ عَشَرةِ أَحْرُفٍ هي: ا ـ ب ـ س ـ م ـ ه ـ ر ـ ح ـ ن ـ ل ـ ي. أنَّكَ مهما بحثتَ فلن تَجِدَ اسْماً عربيّاً واحداً إلاَّ وهو مؤلفٌ مِنْ هذه الحروفِ ولن تَجِدَ حرفاً من سوى هذه الأحرفِ في اسمٍ عربيٍّ.
و "بسمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحيم" عند الشافعيِّ هيَ الآيةُ الأُولى من سورة الفاتحة. وَتَرَدَّدَ قَوْلُهُ فِي سَائِرِ السُّوَرِ، فَمَرَّةً قَالَ: هِيَ آيَةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ، وَمَرَّةً قَالَ: لَيْسَتْ بِآيَةٍ إِلاَّفِي الْفَاتِحَةِ وَحْدَهَا. وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ الدَّارَ قُطْنِيُّ، وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ عَنْ أَبي هُرَيْرَة ـ رَضِي اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذا قَرَأْتُمْ "الْحَمدُ" فاقرؤوا "بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم" إِنَّهَا أُمُّ الْقُرْآن وَأُمُّ الْكِتابِ والسَبْعُ المَثاني و "بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم" إِحْدَى آياتِها ونُجمِلُ أَدِلَّةَ السادةِ الشافعيّةِ ـ رضيَ اللهُ عنهم، على أنّ "بسم الله الرحمن الرحيم" آيةٌ مِنْ سورةِ الفاتحةِ بالآتي:
ـ رَوى الشافعيُّ ـ رضيَ اللهُ عنه، عن ابْنِ جُريْجٍ عنْ أَبي مُلَيْكَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ـ رضيَ اللهُ عنها، أنَّها قالت: (قرأَ رسولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسَلَّمَ، فاتحةَ الكِتابِ فعَدَّ "بسم الله الرحمن الرحيم" آيةً. و "الحمدُ للهِ رَبِّ العالمين" آيةً. و "الرحمنِ الرحيم" آيةً. "مالك يَوْمِ الدين" آيَةً. و "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" آيةً، و "اهْدِنا الصِراطِ المُسْتَقيمَ" آيةً. و "صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضالين". آية. وهذا نصٌّ صَريحٌ.
ـ الحجة الثانية: روى سعيدٌ المقبريُّ عن أبيه عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه: أَنَّ رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلَّمَ، قال: ((فاتحةُ الكتابِ سبعُ آياتٍ أُولاهُنَّ "بِسم الله الرحمن الرحيم")). وهذا نصٌّ صريحٌ آخرُ في أنَّ "بسم اللهِ الرحمن الرحيم" هي أوَّلُ آياةِ فاتحةِ الكتاب.
ـ الحجَّةُ الثالثة: روى الثَعْلبيُّ بإسنادِهِ عن أَبي بُردةَ، عن أَبِيه، قال، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسَلَّمَ: ((أَلا أُخبِركَ بآية لم تَنْزِل على أحدٍ بعد سُلَيْمان بْنِ داوودَ غَيْري؟)). فقلتُ بلى. قال: ((بأي شيءٍ تَستفتحُ القرآنَ إذا افْتَتَحْتَ الصلاةَ؟)).فقُلْتُ: "بِسْم الله الرحمن
الرحيم" قال: ((هيَ هِيَ)).
ـ الحُجَّةُ الرابعةُ: روى الثعلبيُّ أيضاً بإسْنادِهِ عن جعفر بنِ محمَّدٍ، عن أبيه، عن جابرٍ بنِ عبدِ الله ـ رضي اللهُ عنه، أَنَّ النبيَّ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ، قالَ لَه: ((كيف تقول إذا قمتَ إلى الصلاة؟)). قال أَقولُ: الحمدُ للهِ ربِّ العالَمين، قال: ((قلْ: "بسم الله الرحمن الرحيم")). وروى أيضًا بإسنادِهِ عنْ أُمِّ سَلَمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنها: أنَّ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ، كان يَقْرأ: "بسم الله الرحمن الرحيم". الحمدُ للهِ رَبِّ العالمين ..". وروى أَيْضاً بإسناده عن عليٍّـ كرّمَ اللهُ وجهَهُ: "أنَّه كان إذا افتتح السورةَ في الصلاةِ يقرأ: "بسم الله الرحمن الرحيم" وكان يقول: (من تركَ قراءتها فقد نقص). وروى أيضًا بإسنادِه عن سعيدٍ بنِ جُبيْرٍ، عن ابنِ عباسٍ ـ رضيَ اللهُ عنهما، في قولِه تعالى: {وَلَقَدْ آتيناك سَبْعًا مِّنَ المثاني والقرآنَ العظيم}. سورة الحُجر، الآية: 78. قال: فاتحةَ الكتاب فقيل لابنِ عَبَّاس فأين السابعة فقال: "بِسْمِ اللهِ الرحْمن الرحيم". وبإسنادِهِ عنْ أَبي هُريرةَ ـ رضي الله عنه، عنِ النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلَّم، قال: ((إذا قرأتم أُمَّ القرآن فلا تَدَعوا "بسم الله الرحمن الرحيم" فإنَّها إحدى آياتِها)). وبإسنادِه أيضًا عن أبي هريرةَ ـ رَضِي اللهُ عنه، عن النبيِّـ صلى الله عليه وسلَّمَ، قال: ((يقولُ اللهُ ـ عزَّ وجلَّ، قَسَمتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نصفَيْنِ، فإذا قال: "بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيم". قال الله تعالى: مَجَّدني عبدي. وإذا قال: الحمدُ للهِ ربِّ العالمين. قال الله: حَمَدني عَبدي. وإذا قال: الرحمن الرحيم قال: أثنى عليَّ عبدي. فإذا قال: مالِكِ يومِ الدين. قال الله تعالى: فوَّضَ إليَّ عبدي. وإذا قال: إيَّاك نعبُد وإيّاك نَستعين. قال الله تعالى: هذا بيني وبين عبدي. وإذا قال: اهدِنا الصراطَ المستقيم. قال الله تعالى: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل)). وبإسنادِهِ أَيْضاً عن أبي هريرة قال: كنتُ مع النبيِّ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ، في المَسْجِدَ، والنَبيُّ يُحدِّثُ أَصْحابَه، إذا دَخَلَ رجلٌ يُصلّي فافْتَتَحَ الصلاةَ وتَعَوَّذَ ثم قال: الحمدُ لله رب العالمين، فسَمِعَ النَبيُّ ـ صلى الله عليه وسلَّم، ذلك فقال له: ((يا رجلُ قطعتَ على نفسِكَ الصلاةَ أَما عَلِمْتَ أنَّ "بسم الله الرحمن الرحيم" من "الحمدُ"، فمَنْ ترَكَها فقد ترك آيَةً منها، ومنْ تَرَكَ آيةً منها فقد قَطَعَ عليْهِ صلاتَهُ فإنّهُ لاصلاةَ إلّا بِها، فمَنْ تَرَكَ آيَةً مِنْها فَقَدْ بَطُلَتْ صلاتُه)). وبإسنادِه عن طلحةَ بنِ عُبيدِ اللهِ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسَلَّمَ: ((مَن ترك "بسم الله الرحمن الرحيم" فقد ترك آيةً من كتاب اللهِ)).
ـ الحجة الخامسة: قراءةُ "بسم الله الرحمن الرحيم" واجبةٌ في أَوَّل الفاتحةِ وإذا كان كذلك وَجَبَ أنْ تكونَ آيةً منها. بيان الأول: {اقرَأْ باسم رَبّكَ الذي خلق}. سورة العلق، الآية: 1. ولايجوز أن يُقالَ الباءُ صِلَةٌ لأنَّ الأصلَ أنْ تكونَ لكلِّ حرفٍ من كلامِ اللهِ تعالى فائدةٌ، وإذاكان الحرفُ مفيداً كان التقديرُ: اقرأْ مُفْتَتِحاً باسمِ ربِّك، وظاهرُ الأمرِ الوُجوبُ ولمْ يَثْبتْ في غيرِ القراءةِ للصلاةِ، فوَجَبَ إثباتُه في القراءة فيها صوناً للنصِّ عن التَعطيل.
ـ الحجَّةُ السادسة: التَسْمِيَةُ مكتوبةٌ بخطِّ القرآنِ وكلُّ ماليس مِنَ
القرآن فإنّه غيرُ مكتوبٍ بِخَطِّ القرآنِ، ألا ترى أنّهُ منعوا كتابةَ أسامي السورِ في المُصحف ومنعوا العلامات على الأعْشارِ والأَخْماسِ؟ والغرضُ من ذلك كلِّه أنْ يَمنَعوا اختلِاطَ القرآنِ بما ليس بقرآن، فلولم تكن التَسْمِيَةُ من القرآن لما كتبوها بخطِّ القرآن.
ـ الحجَّةُ السابعة: أَجْمَعَ المسلمون على أنَّ ما بين دُّفَّتيْ المُصْحَفِ الشَريفِ هو كَلامُ اللهِ تعالى والبَسْمَلَةُ مَوجودةٌ بينَهما فوَجَبَ جعْلُها منه.
ـ الحُجَّةُ الثامنة: أَطْبَقَ الأَكْثرون على أنَّ الفاتحةَ سَبْعُ آياتٍ إلاَّ أَنَّ الشافعيَّ قال: "بِسْمِ اللهِ الرحمن الرحيم" آيةٌ وأبو حنيفةَ قال: إِنّها ليْست آيةً، لَكِنَّ {صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} آية، وسَنُبَيِّن أنَّ قولَهُ مَرْجُوحٌ ضعيفٌ. فحينئذٍ يَبقى أنَّ الآياتِ لا تكون سبعاً إلاَّ بِجعْلِ البَسْمَلَةِ آيةً تامَّةً منها.
ـ الحُجَّةُ التاسعة: أنْ نقولَ قراءةُ التسميةِ قبلَ الفاتحةِ واجبةٌ فوَجَبَ كونُها آيةً منها، بيانُ الأوّلِ أنَّ أبا حَنيفةَ ـ رضي الله عنه، يُسَلِّمُ أنَّ قراءتَها أفضلُ، وإذا كان كذلك فالظاهرُ أنَّه ـ صلى الله عليه وسلَّم، قرأها، فوَجَبَ أنْ يَجِبَ علينا قراءتُها لقوله تعالى في سورة الأعراف: {واتَّبِعوهُ}، الآية: 158. وإذا ثَبَتَ الوُجوبُ ثَبَتَ أنَّهامِن السورةِ لأنَّه لا قائلَ بالفرقِ، وقولُه ـ عليه الصلاةُ والسلامُ: ((كلُّ أمرٍ ذي بالٍ لايُبْدَأُ فيه بِسمِ اللهِ فهو أَبْتَرُ)). وأعظمُ الأعمالِ بعدَ الإيمانِ الصلاةُ فقراءةُ الفاتحةِ بدون قراءتِها تُوجِبُ كونَ الصلاةِ عملاً أَبْتَرَ ولفظُه يَدُلُّ على غايةِ النُقصانِ والخَلَلِ، بدليلِ أنَّه ذَكرَ ذَمّاً للكافرِ الشانئِ فوَجَبَ أنْ يُقالَ للصلاةِ الخاليةِ عنها في غاية النُقصانِ والخَلَلِ، وكُلُّ مَنْ أَقَرَّ بذلك قال بالفَسادِ وهو يَدُلُّ على أنَّها من الفاتحة.
ـ الحُجَّةُ العاشرةُ: ما رُويَ أنَّ النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلّمَ، قال لأُبَيٍّ بْنِ كعبٍ ـ رضي اللهُ عنه: ((ما أعظمُ آيةٍ في القُرآن؟)) قال: "بسم الله الرحمن الرحيم" فصدَّقَه النبيُّ في قولِهِ. ووجْهُ الاسْتِدلالِ أنَّ هذا يدُلُّ على أنَّ هذا المِقدارَ آيةٌ تامَّةٌ، ومعلومٌ أنَّها لَيْسَتْ بِتامَّةٍ في سورةِ النملِ، فلابُدَّ أنْ تكونَ في غيرِها وليس إلاَّ الفاتحة.
ـ الحُجَّةُ الحاديةَ عَشْرَةَ: عن أنسٍ أنَّ أميرَ المؤمنينَ معاويةَ بْنَ أَبي سُفْيان ـ رضي اللهُ عنهما، قَدِمَ المَدينةَ فصلَّى بالنَّاسِ صَلاةً جَهْرِيَّةً فقرأ أمَّ القُرآنِ ولم يقرأْ البَسْمَلَةَ، فلَمَّا قَضى صَلاتَه ناداه المُهاجرون والأنصارُ ـ رضي اللهُ عنهم جميعاً، مِنْ كُلِّ ناحيةٍ أَنَسِيتَ؟ أيْنَ "بسم الله الرحمن الرحيم" حين اسْتَفْتحتَ القرآنَ؟ فأَعادَ مُعاوِيَةُ ـ رضي اللهُ عنه، الصلاةَ وجَهَرَ بها.
ـ الحجَّةُ الثانيةَ عَشْرةَ: أنَّ سائرَ الأَنْبياءِ كانوا عند الشُّروعِ في أعمالِ الخيرِ يَبْتَدِئون باسمِ اللهِ، فقد قال نوح ـ عليه السلامُ: {بِسْمِ الله مَجْرَاهَا}. سورةُ هودٍ، الآية: 14. وقالَ سُلَيْمانُ ـ عَلَيْهِ السَلامُ: {"بِسْمِ اللهِ الرحمن الرحيم" * أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وائتوني مسلمين} سورةُ النَمْلِ، الآيتان: 30 و 31. فوَجَبَ أنْ يَجِبَ على رَسُولِنا ذلك لِقولِه تعالى في سورة الأنعام: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}، الآية: 90. وإذا ثَبَتَ ذلك في حقِّهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثَبَتَ أَيْضاً في حَقِّنا لِقولِهِ تعالى في سورة الأعراف: {واتَّبِعُوهُ} ، الآية: 158. وإذا ثَبَتَ في حَقِّنا ثَبَتَ أنَّها آيةٌ مِن سُورَةِ الفاتحة.
ـ الحُجَّةُ الثالثةَ عَشْرَةَ: أنَّه تعالى قديمٌ وغَيْرُه مُحْدَثٌ فوَجَبَ بِحُكْمِ المُناسَبَةِ العَقْلِيَّةِ أنْ يَكون ذِكرُه سابقاً على ذِكرِ غيرِه، والسَبْقُ في الذِكْرِ لا يَحْصُلُ إلاَّ إذا كانت قراءةُ البَسْمَلَةِ سابقةً، وإذا ثَبَتَ أنَّ القولَ بوُجُوبِ هذا التَقديمِ، فمارآه المؤمنون حَسَنًا فهو عند اللهِ حَسَنٌ
لما أخرجه: الطيالسي (246)، وأحمد 1/379، والبزار (1816)، والطبراني في الجامع الكبير: (8583) و (8593)، والحاكم 3/78 - 79، وقال هو صحيح على شرط الشيخين ولم يخرِّجاه ووافقه الذهبي، وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" 1/375 - 376، والبغوي (105) من قولِ عَبْدِ اللهِ ابْنِ مَسْعودٍ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. قال: ما رآه المسلمون حَسَناً فهوَ عندَ اللهِ حَسَنٌ؛ لأنَّ إجماعَهم مَعْصومٌ. وإذا ثَبَتَ وُجوبُ القراءةِ ثَبَتَ أنَّها آيةٌ مِن الفاتحةِ لأنَّه لا قائلَ بالفرق.
ـ الحُجَّةُ الرابعةَ عَشْرَةَ: إنَّه لا شكَّ في أنَّها مِنَ القُرآنِ في سُورَةِ النَّمْلِ ثمَّ إنَّا نَراهُ مُكرَّراً بِخَطِّ القُرآنِ فوَجَبَ أنْ يكونَ مِن القرآن، كما أنَّا لمَّا رأيْنا قولَهُ تَعالى في سُورَةِ المُرْسَلاتِ: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ}، الآية: 15. وقولَه في سورة الرحمن: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ}، الآية: 13. مكرَّراً كذلك قُلْنا: إنَّ الكُلَّ مِنْهُ.
ـ الحُجَّةُ الخامسةَ عَشْرَةَ: رُويَ أنَّه ـ عليه الصلاةُ والسلامُ، كان يكتُبُ: "باسْمِكَ اللَّهُمَّ" الحديث وهو يَدُلُّ على أنَّ أَجزاءَ هذه الكلمةِ كلَّها من القرآنِ، مجموعُها منه، وهوَ مُثْبَتٌ فيه. فوَجَبَ الجَزْمُ بأَنَّه من القرآن إذْ لو جاز إخراجُه مع هذه المُوجباتِ والشُهْرةِ لَكان جوازُ إخراجِ سائرِ الآياتِ أَوْلى، وذلك يُوجِبُ الطعنَ في القرآن العظيم.
بينما لم يَعُدَّها الإمامُ مالكٌ كذلك، لأنَّ القرآنَ لا يَثبُتُ بأَخبارِ الآحادِ وَإِنَّمَا طَرِيقُهُ التَّوَاتُرُ الْقَطْعِيُّ الَّذِي لا يُخْتَلَفُ فيه. ويكفي كأنَّها لَيْسَتْ مِنَ الْقُرْآنِ اخْتِلافُ النَّاسِ فِيهَا، وَالْقُرْآنُ لا يُخْتَلَفُ فِيهِ. وَالأَخْبَارُ الصِّحَاحُ الَّتِيُ لا مَطْعَنَ فِيهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْبَسْمَلَةَ لَيْسَتْ بِآيَةٍ مِنَ الْفَاتِحَةِ وَلا غَيْرِهَا إِلاَّ فِي النَّمْلِ وَحْدَهَا. رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: ((قَالَ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ، قَسَمْتُ الصَّلاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي ما سألَ فإذا قال: "الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعالَمِينَ". قَالَ اللهُ تَعَالَى: حَمَدَني عبدي. وإذا قال العبدُ: "الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ". قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عبدي. وإذا قال العبدُ: "مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ". قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، وَقَالَ مرةً فوّض إِلَي عَبْدِي. فَإِذَا قَالَ: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ". قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ. فَإِذَا قَالَ: "اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ. قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ)). فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: "قَسَمْتُ الصَّلاةَ" يُرِيدُ الْفَاتِحَةَ، وَسَمَّاهَا صَلاةً لأَنَّ الصَّلاةَ لا تَصِحُّ إِلاَّ بِهَا، فَجَعَلَ الثَّلاثَ الآيَاتِ الأُوَلَ لِنَفْسِهِ، وَاخْتَصَّ بِهَا تَبَارَكَ اسْمُهُ، وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْمُسْلِمُونَ فِيهَا، ثُمَّ الآيَةَ الرَّابِعَةَ جَعَلَهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَبْدِهِ، لِأَنَّهَا تَضَمَّنَتْ تَذَلُّلَ الْعَبْدِ وَطَلَبَ الاسْتِعَانَةِ مِنْهُ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ تَعْظِيمَ اللهِ تَعَالَى، ثُمَّ ثَلاثَ آيات تَتِمَّةَ سَبْعِ آيات. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا ثَلاثٌ قَوْلُهُ: "هَؤُلاءِ لِعَبْدِي" أَخْرَجَهُ مَالِكٌ، وَلَمْ يَقُلْ: هَاتَانِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ "أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ" آيَةٌ. قَالَ مَالِكٌ: "أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ" آيَةٌ، ثُمَّ الآيَةُ السَّابِعَةُ إِلَى آخِرِهَا. فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ الَّتِي قَسَّمَهَا اللهُ تَعَالَى وَبِقَوْلِهِ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلامُ، لأُبَيٍّ: ((كَيْفَ تَقْرَأُ إِذَا افْتَتَحْتَ الصَّلاةَ؟)) قَالَ: فَقَرَأْتُ "الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعالَمِينَ "حَتَّى أَتَيْتُ عَلَى آخِرِهَا. فدَلَّ على أَنَّ الْبَسْمَلَةَ لَيْسَتْ بِآيَةٍ مِنْهَا، وَكَذَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَهْلُ الشَّامِ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ، وَأَكْثَرُ الْقُرَّاءِ عَدُّوا "أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ" آيَةً،وَكَذَا رَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: الآيَةُ السَّادِسَةُ "أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ". وَأَمَّا أَهْلُ الْكُوفَةِ مِنَ الْقُرَّاءِ وَالْفُقَهَاءِ فَإِنَّهُمْ عَدُّوا فِيهَا "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ" وَلَمْ يَعُدُّوا "أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ". فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّهَا ثَبَتَتْ فِي الْمُصْحَفِ وَهِيَ مَكْتُوبَةٌ بِخَطِّهِ وَنُقِلَتْ،كَمَا نُقِلَتْ فِي النَّمْلِ، وَذَلِكَ مُتَوَاتِرٌ عَنْهُمْ قلنا: مَا ذَكَرْتُمُوهُ صَحِيحٌ، وَلَكِنْ لِكَوْنِهَا قُرْآنًا، أَوْ لِكَوْنِهَا فَاصِلَةً بَيْنَ السُّوَرِ.كَمَا رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ: كُنَّا لَا نَعْرِفُ انْقِضَاءَ السُّورَةِ حَتَّى تَنْزِلَ "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ" أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُودَ.
أَوْ تَبَرُّكًا بِهَا. كما قد اتفقت الأمَّةُ على كتابتها فِي أَوَائِلِ الْكُتُبِ وَالرَّسَائِلِ؟ كُلُّ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ. وَقَدْ قَالَ الْجُرَيْرِيُّ: سُئِلَ الْحَسَنُ عَنْ "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ" قَالَ: فِي صُدُورِ الرَّسَائِلِ. وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا: لَمْ تَنْزِلْ "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ" في شيءٍ مِنَ الْقُرْآنِ إِلاَّ فِي (طس): {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ". وَالْفَيْصَلُ أَنَّ الْقُرْآنَ لا يُثْبَتُ بِالنَّظَرِ وَالاسْتِدْلالِ، وَإِنَّمَا يُثْبَتُ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ الْقَطْعِيِّ. ثُمَّ قَدِ اضْطَرَبَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِيهَا كما سَبَقَ بَيانه فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِآيَةٍ مِنْ كُلِّ سورةٍ. فإنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى جَمَاعَةٌ قُرْآنِيَّتَهَا، وَقَدْ تَوَلَّى الدَّارَ قُطْنِيُّ جَمْعَ ذَلِكَ فِي جُزْءٍ صَحَّحَهُ. أُجيبَ: لَسْنَا نُنْكِرُ الرِّوَايَةَ بِذَلِكَ وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَيْهَا، وَلَنَا أَخْبَارٌ ثَابِتَةٌ فِي مُقَابَلَتِهَا وقد رَوَاهَا كذلك أَئِمَّةٌ ثِّقَاتٌ وَفُقَهَاءُ أَثْبَاتٌ، ومِنْ ذلك ما نَقلوهُ عنْ أُمُّ المؤمنين عَائِشَةُ ـ رضي اللهُ عنها، فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَستفتِحُ الصلاة بالتكبير، والقراءةِ بالحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الْحَدِيثَ. وَرَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فكانوا يَسْتَفْتِحون ب {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعالَمِينَ}، لا يَذْكُرُونَ "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ" لا في أَوَّلِ قِرَاءَةٍ وَلا فِي آخِرِهَا. وَكذَلِكَ فإنَّ مَسْجِدَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِالْمَدِينَةِ انْقَضَتْ عَلَيْهِ الْعُصُورُ، وَمَرَّتْ عَلَيْهِ الأَزْمِنَةُ وَالدُّهُورُ، مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللهِ ـ صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى زَمَانِ مَالِكٍ، وَلَمْ يَقْرَأْ أَحَدٌ فِيهِ قَطُّ "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ" وذلك اتِّبَاعاً لِلسُّنَّةِ المُطَهَّرَةِ. بَيْدَ أَنَّهم اسْتَحَبُّوا قِرَاءَتَهَا فِي النَّفْلِ، وَعَلَيْهِ تُحْمَلُ الآثارُ الواردةُ في قراءتِها أوَّلاً عَلَى السَّعَةِ فِي ذَلِكَ. قَالَ مَالِكٌ: وَلا بَأْسَ أَنْ يَقْرَأَ بِهَا فِي النَّافِلَةِ، وَمَنْ يَعْرِضُ القرآنَ عَرْضًا. واتَّفقَ العُلَماءُ على أنَّها بعضُ آيةٍ من سورَةِ النملِ، وهي عند عَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُبَارَكِ آيةٌ مُسْتَقِلَّةٌ في أوَّلِ كلِّ سورةٍ، ما عَدا سورةِ التوبةِ (براءة) ذلك لأنَّ بدايتَها تَبرُّؤُ اللهِ ـ تباركت أسماؤهُ، من المُشرْكين والمُنافقين وتقريعٌ لهم ووعيدٌ، وهو أمرٌ فيه من اسْمِهِ الجَبَّار واسمِه المُنتقِمِ واسْمِه الشديدِ،وليس فيه مِنْ اسْمِه الرحمنِ الرحيم. وحُجَّةُ ابنِ المُبارَكِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَاتَ يَوْمٍ بَيْنَ أَظْهُرِنَا إِذْ أَغْفَى إِغْفَاءَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا، فَقُلْنَا: مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ((نَزَلَتْ عَلِيَّ آنِفاً سُورَةٌ فَقَرَأَ: {"بسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ}. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَجُمْلَةُ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ: أَنَّهَا لَيْسَتْ عِنْدَهُمْ آيَةٌ مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَلا مِنْ غَيْرِهَا، وَلا يَقْرَأُ بِهَا الْمُصَلِّي فِي الْمَكْتُوبَةِ وَلا فِي غَيْرِهَا سِرًّا وَلا جَهْراً، وَيَجُوزُ أَنْ يَقْرَأَهَا فِي النَّوَافِلِ. هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِهِ عِنْدَ أَصْحَابِهِ. وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهَا تُقْرَأُ أَوَّلَ السُّوَرِ فِي النَّوَافِلِ، وَلا تُقْرَأُ أَوَّلَ أُمِّ الْقُرْآنِ.
وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ لا بُدَ فِيهَا مَنْ "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ" مِنْهُمُ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ شِهَابٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَسْأَلَةٌ اجْتِهَادِيَّةٌ لا قَطْعِيَّةٌ.
وَقَدْ ذَهَبَ جَمْعٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى الإِسْرَارِ بِهَا مَعَ الْفَاتِحَةِ، مِنْهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ. وَرُوي ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَمَّارٍ، وَابْنِ الزُّبَيْرِ، ـ رضي الله عنهم، وَهُوَ قَوْلُ الْحَكَمِ، وَحَمَّادٍ، وبِه قال أحمدُ بنُ حَنْبَلٍ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَرُوِيَ عَنِ الأَوْزَاعِيِّ مَثْلُ ذَلِكَ، حَكَاهُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي (الاسْتِذْكَارِ). وَاحْتَجُّوا مِنَ الأَثَرِ فِي ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ مَنْصُورُ بْنُ زَاذَانَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يُسْمِعْنَا قِرَاءَةَ "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ" وَمَا رَوَاهُ عَمَّارُ بن زريق عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أنسٍ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخلفَ أبي بكرٍ وعُمَرَ، فلمْ أَسْمعْ أًحَداً منهم يَجْهرُ ب "بسم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" وهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، وَعَلَيْهِ تَتَّفِقُ الآثَارُ عَنْ أَنَسٍ وَلا تَتَضَادُّ وَيُخْرَجُ بِهِ مِنَ الْخِلافِ فِي قِرَاءَةِ الْبَسْمَلَةِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَحْضُرُونَ بِالْمَسْجِدِ، فَإِذَا قَرَأَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ" قَالُوا: هَذَا مُحَمَّدٌ يَذْكُرُ رَحْمَانَ اليَمامَةِ يَعنون مُسَيْلَمَةَ فأُمِرَ أَنْ يُخافَتَ ب "بسم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"، وَنَزَلَ: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها}. قَالَ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ: فَبَقِيَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا على ذَلِكَ الرَّسْمِ وَإِنْ زَالَتِ الْعِلَّةُ، كَمَا بَقِيَ الرَّمَلُ فِي الطَّوَافِ وَإِنْ زَالَتِ الْعِلَّةُ، وَبَقِيَتِ الْمُخَافَتَةُ فِي صَلاةِ النَّهَارِ وَإِنْ زَالَتِ الْعِلَّةُ. واتَّفَقَتِ الأُمَّةُ عَلَى جَوَازِ كَتْبِهَا فِي أَوَّلِ كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ الْعِلْمِ وَالرَّسَائِلِ، فَإِنْ كَانَ الكتابُ ديوانَ شِعْرٍ فروى مُجَالِدٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: أَجْمَعُوا أَلاَّ يَكْتُبُوا أَمَامَ الشِّعْرِ "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ" وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: مَضَتِ السُّنَّةُ أَلا يَكْتُبُوا فِي الشِّعْرِ "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ" وَذَهَبَ إِلَى رَسْمِ التَّسْمِيَةِ فِي أَوَّلِ كُتُبِ الشِّعْرِ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ الْمُتَأَخِّرِينَ. قَالَ أبو بكرٍ الخطيبُ: هو الَّذِي نَخْتَارُهُ وَنَسْتَحِبُّهُ. وقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَيُقَالُ لِمَنْ قَالَ بِسْمِ اللهِ: مُبَسْمِلٌ، وَهِيَ لُغَةٌ مُوَلَّدَةٌ، وَقَدْ جَاءَتْ فِي الشِّعْرِ، قَالَ عُمَرُ بنُ أبي ربيعةَ:
لقد بَسْمَلَتْ ليلى غَداةَ لَقِيتُها ....... فيَا حَبَّذا ذاكَ الْحَبِيبُ الْمُبَسْمِلُ
والْمَشْهُورُ عَنْ أَهْلِ اللُّغَةِ بَسْمَلَ. قَالَ يَعْقُوبُ بْنُ السِّكِّيتِ، وَالْمُطَرِّزُ، وَالثَّعَالِبِيُّ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ: بَسْمَلَ الرَّجُلُ، إِذَا قَالَ: بِسْمِ اللهِ. ويُقَالُ: قَدْ أَكْثَرْتَ مِنَ الْبَسْمَلَةِ، أَيْ مِنْ قَوْلِ بِسْمِ اللهِ. وَمِثْلُهُ حَوْقَلَ الرَّجُلُ، إِذَا قَالَ: لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ. وَهَلَّلَ، إِذَا قَالَ: لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ. وَسَبْحَلَ، إِذَا قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ. وَحَمْدَلَ، إِذَا قَالَ: الْحَمْدُ للهِ. وَحَيْصَلَ، إِذَا قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ. وَحَيْفَلَ، إِذَا قَالَ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ. وَجَعْفَلَ إِذَا قَالَ: جُعِلْتُ فِدَاكَ. وَطَبْقَلَ، إِذَا قَالَ: أَطَالَ اللهُ بَقَاءَكَ. وَدَمْعَزَ، إِذَا قَالَ: أَدَامَ اللهُ عِزَّكَ. وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُطَرِّزُ: الْحَيْصَلَةَ، إِذَا قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ. وَجَعْفَلَ، إِذَا قَالَ: جُعِلْتُ فِدَاكَ. وَطَبْقَلَ، إِذَا قَالَ: أَطَالَ اللهُ بَقَاءَكَ. وَدَمْعَزَ، إِذَا قَالَ: أَدَامَ اللهُ عِزَّكَ. وقد نَدَبَ الشَّرْعُ إِلَى ذِكْرِ الْبَسْمَلَةِ فِي أَوَّلِ كُلِّ فِعْلٍ، كَالأَكْلِ، وَالشُّرْبِ، وَالنَّحْرِ، وَالْجِمَاعِ، وَالطَّهَارَةِ، وَرُكُوبِ البحرِ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَفْعَالِ. قَالَ اللهُ تَعَالَى في سورة الأنعام: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ}، الآية: 118. وَقال في الآية: 41. من سورة هود {قالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}، وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: ((غَطُّوا الْإِنَاءَ، وَأَوْكُوا السِّقَاءَ، وَأَغْلِقُوا الْبَابَ، وَأَطْفِئُوا السِّرَاجَ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَحُلُّ سِقَاءً، وَلَا يَفْتَحُ بَابًا، وَلَا يَكْشِفُ إِنَاءً، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَحَدُكُمْ إِلَّا أَنْ يَعْرُضَ عَلَى إِنَائِهِ عُوداً، وَيَذْكُرَ اسْمَ اللهِ، فَلْيَفْعَلْ، فَإِنَّ الْفُوَيْسِقَةَ تُضْرِمُ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ بَيْتَهُمْ)). صحيح مسلم بشرح النووي: (13/ 184). وعندَ البخاري من حديث ابنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، قالَ: ((لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ قَالَ: بِاسْمِ اللهِ، اللهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِي ذَلِكَ، لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا)). (367). وَقَالَ لِعُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ: موسوعة الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (1/241). ورَوَى البُخارِيُّ ومُسلمٌ عَنْ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ يَقُولُ: ((كُنْتُ غُلاماً فِي حِجْرِ رَسُولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم، وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّفحْةِ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يَا غُلامُ سَمِّ اللهَ وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ، فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ)). وقال: ((إِنَّ الشَّيْطَانَ لَيَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ الذي لم يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ)). صحيحُ مُسْلَمٍ: /1653/. ورواهُ أَيْضاً الإمامُ أحمد، وأبو داوود، والنَّسائيُّ، عن حذيفة. وَقَالَ: ((مَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ بِاسْمِ اللهِ)). صحيح البخاري برقم (985) وصحيح مسلم بِرَقم (1960). وَشَكَا إِلَيْهِ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ وَجَعاً يَجِدُهُ فِي جَسَدِهِ مُنْذُ أَسْلَمَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ضَعْ يَدَك عَلَى الَّذِي تَأْلَمُ مِنْ جَسَدِكَ وَقُلْ بِسْمِ اللهِ ثَلاثًا وقُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْشَرٍّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ)). رواه مسلِمٌ بِرَقم (2202). فهَذَا كُلُّهُ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((سِتْرُ مَابَيْنَ الْجِنِّ وَعَوْرَاتِ بَنِي آدَمَ إِذَا دَخَلَ الْكَنِيفَ أَنْ يَقُولَ بِسْمِ اللهِ)). صحيح ابْنِ ماجة. وَرَوَى الدَّارَ قُطْنِيُّ عَنِ السيِّدَةِ عَائِشَةَ أُمِّ المؤمنين ـ رضي الله عَنْها، أَنَّها قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذا مَسَّ طَهُورَهُ سَمَّى اللهَ تَعَالَى، ثُمَّ يُفْرِغُ الْمَاءَ عَلَى يَدَيْهِ.
وَفِي هذه الأحاديثِ رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَقُولُ إِنَّ أَفْعَالَهُمْ مَقْدُورَةٌ لَهُمْ، وَمَوْضِعُ الاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللهَ ـ سُبْحَانَهُ، أَمَرَنَا عِنْدَ الابْتِدَاءِ بِكُلِّ فِعْلٍ أَنْ نَفْتَتِحَ بِذَلِكَ، كَمَا ذَكَرْنَا. فَمَعْنَى "بِسْمِ اللهِ"، أَيْ بِاللهِ. وَمَعْنَى "بِاللهِ" أَيْ بِخَلْقِهِ وَتَقْدِيرِهِ يُوصَلُ إِلَى مَا يُوصَلُ إِلَيْهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى قَوْلِهِ: "بِسْمِ اللهِ" يَعْنِي بَدَأْتُ بِعَوْنِ اللهِ وَتَوْفِيقِهِ وَبَرَكَتِهِ، وَهَذَا تَعْلِيمٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى عِبَادَهُ، لِيَذْكُرُوا اسْمَهُ عِنْدَ افْتِتَاحِ الْقِرَاءَةِ وَغَيْرِهَا، حَتَّى يَكُونَ الافْتِتَاحُ بِبَرَكَةِ اللهِ وذَهَبَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى إِلَى أَنَّ: "اسْمَ" صِلَةٌ زَائِدَةٌ وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ لَبِيدٍ:
إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلامِ عَلَيْكُمَا .. وَمَنْ يَبْكِ حَوْلاً كَامِلاً فقد اعتذَرْفَذَكَرَ "اسْمَ" زِيَادَةً، وَإِنَّمَا أَرَادَ: ثُمَّ السَّلامُ عَلَيْكُمَا. وَقَدِ اسْتَدَلَّ العُلَمَاءُ بِقَوْلِ لَبِيَدٍ هَذَا عَلَى أَنَّ الاسْمَ هُوَ الْمُسَمَّى. واخْتُلِفَ فِي مَعْنَى زِيَادَةِ "اسْمِ" فَقَالَ قُطْرُبٌ: زِيدَتْ لإِجْلالِ ذِكْرِهِ تَعَالَى وَتَعْظِيمِهِ. وَقَالَ الأَخْفَشُ: زِيدَتْ لِيَخْرُجَ بِذِكْرِهَا مِنْ حُكْمِ الْقَسَمِ إِلَى قَصْدِ التَّبَرُّكِ، لأَنَّ أَصْلَ الْكَلامِ: بِاللهِ. واخْتَلَفُوا أَيْضاً فِي مَعْنَى دُخُولِ الْبَاءِ عَلَيْهِ، فقال الفرّاءُ: دَخَلَتْ عَلَى مَعْنَى الأَمْرِ؟ فالتَّقْدِيرُ: ابْدَأْ "بِسْمِ اللهِ". وقال الزجّاجُ دَخَلَتْ عَلَى مَعْنَى الْخَبَرِ؟ فالتَّقْدِيرُ: ابْتَدَأْتُ "بسم الله". ف "بِسْمِ اللهِ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى التَّأْوِيلَيْنِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى ابْتِدَائِي "بِسْمِ اللهِ"، فَ "بِسْمِ اللهِ" فِي مَوْضِعِ رَفْعِ خَبَرِ الابْتِدَاءِ. وَقِيلَ: الْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، أَيِ ابْتِدَائِي مُسْتَقِرٌّ أَوْ ثَابِتٌ "بِسْمِ اللهِ"، فَإِذَا أَظْهَرْتَهُ كَانَ "بِسْمِ اللهِ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِثَابِتٍ أَوْ مُسْتَقِرٍّ، وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكَ: زَيْدٌ فِي الدَّارِ. وَفِي التَّنْزِيلِ: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي} سورة النمل، الآية: 40. فَ "عِنْدَهُ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، رُوِيَ هَذَا عَنْ نُحَاةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ. وَقِيلَ إنَّ التَّقْدِيرَ ابْتِدَائِي بِ "بِسْمِ اللهِ" مَوْجُودٌ، أَوْ ثَابِتٌ، فَ "بِاسْمِ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِالْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ ابْتِدَائِي أيضًا.