وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ
(54)
قولُهُ ـ تبارك وتعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ} يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ أنَّ سَبَبَ عَدَمِ تَقَبُّلِهِ نَفَقَاتِهِمْ أَمْرانِ: الأَوَّلُ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ، ويترتَّبُ على ذلك أَنَّ أَعْمالهَم لَنْ تَكونَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِهِ سُبْحانَهُ، وإنَّما لأَغْراضٍ أُخْرى دُنيَويَّةٍ مِنْ جاهٍ وسُمْعَةٍ وغيرِِ ذَلِكَ مِنْ الأسَبابِِ، فكيفَ يَقْبَلُ اللهُ تَعالى شَيْئاً لمْ يُقَدَّمْ إليْهِ أَصْلاً؟ وإنَّما قُدِّمِ لِغَيْرِهِ، وهلْ تَقْبَلُ أَنْتَ شَيْئاً قُدِّمَ لِغَيرِكِ أَوْ تَدفعُ أجرَ عَمَلٍ هو في الأساس لِغَيرِكَ وليسَ لَكَ؟، فكيف بربِّ السموات والأرضِ ومن فيهِنَّ! واللهُ تعالى يَقولُ في الحديث القدسيِّ: (أنَا أغْنَى الشُّركاءِ عَنِ الشِّرْكِ، فَمنْ عَمِلَ عملاً أشْرَكَ فِيهِ معي غَيْرِي، تَرَكْتُه وشِرْكَه) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وابْنُ ماجةَ عنْ أَبي هُرَيْرَةَ، عبد الرحمن ابنِ صخرٍ الدَوْسِيِّ الأَزْدِيِّ اليَمانيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وقدْ تَقَدَّمَ في هذا الموضوعِ مزيدُ تفصيلٍ.
قولُهُ: {وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} هو السبَبُ الثاني لعدم قبولِ أَعْمالِ هؤلاء المنافقين من صدقةٍ وصلاةٍ وغير ذلك. فهم لاَ يُؤَدُّونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى لاَ حَمَاسَةَ لَهُمْ فِي أَدَائِهَا، وَلاَ يُنْفِقُونَ نَفَقَةً فِي مَصَالِحِ الجِهَادِ وَغَيْرِهَا إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ. وهذا يُفْسِدُ أَعْمالَهم لأنَّ اللهَ طيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلاَّ طَيِّباً، كما وردَ في الحديثِ الشَريفِ عَنْ سَيِّدِنا رَسولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فيما أَخْرَجَ مُسْلمٌ عَنْ أبي هُريرَةَ أَيْضاً.
وأَداءُ العَمَلَ بِكَسَلٍ وكَراهيةٍ دليلُ النِفاقِ، فالمؤمِنُ يَحِبُّ ربَّهَ سبحانَه وتعالى، والمحِبُّ إذا كَلَّفَه مَنْ محبوبُهُ بِأَمْرٍ قامَ إليْهِ بِنَشاطٍ وأَدَّاهُ بِرَغْبَةٍ طيِّبَةً بِذلِكَ نَفْسُهُ، أَمَّا غيرُ المحبِّ فإنَّه على العكسِ. يكونُ الطلبُ عليه ثقيلاً وإذا قامَ به، كان ذلك بتكاسلٍ وتثاقلٍ وعلى كراهية مِنْهُ.
قولُهُ تعالى: {أَن تُقْبَلَ} المصدرُ المنسبكُ منه، هو مَفْعولٌ ثانٍ ل "منع": إمَّا على تقديرِ إسقاطِ حَرْفِ الجَرِّ، أيْ: مِنْ أَنْ تُقْبَلَ، وإمَّا لِوُصولِ الفِعْلِ إليْهِ بِنَفْسِهِ، لأنَّك تَقول: مَنَعْتُ زَيْداً حَقَّهُ ومِنْ حَقِّهِ.
ويجوزُ أن يكونَ نصبُ على البدلِ مِنْ "هم" في "مَنْعَهم"، أيْ بَدَلَ اشتمالٍ. ولا حاجَةَ إلى هذا.
والظاهرُ أنَّ فاعِلَ "مَنَعَ" قولُهُ: "إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ" الجملة، أيْ: ما مَنَعَهم قبولَ نَفَقَتِهم إلاَّ كُفْرُهم. ويجوزُ إنْ يكونَ الفاعلَ ضَميرُ اللهِ تَعالى، أَي: وما مَنَعَهمُ اللهُ، ويكونُ "إلاَّ أَنَّهم" منصوباً على إسْقاطِ حرفِ الجَرِّ، أَي: لأنهم كفروا.
قولُهُ: {إِلاَّ وَهُمْ كُسالى}، جمْلَةُ "وهم كسالى" حالٌ مِنَ الواوِ في "يَأْتونَ".
وقولُه: {إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} هذه الجملةُ حالٌ مِنَ الواوِ في "ينفقون".
وقرأ الجمهورُ: {تُقبَلَ نفقاتُهم} بالمُثَنَّاتِ الفوقِيَّةِ، وقرَأَ حمزةُ والكِسائيُّ: "يُقْبَلَ" بالمثنَّاةِ التَحْتِيَّةِ، لأنَّ جمعَ غيرِ المؤنَّثِ الحَقيقيِّ يَجوزُ فيهِ التَذْكيرُ والتَأْنيثُ.
وقرأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ كالأَخوينِ، إلاَّ أَنَّه أَفْرَدَ النَفَقَةَ. وقرَأَ الأعْرَجُ: "تُقْبلَ" بالتاءِ مِنْ فوق، و "نفقتُهم" بالإِفراد.
وقرَأَ السُّلَميُّ: "يَقبل" مَبْنَيَّاً للفاعلِ وهُوَ اللهُ تعالى. وقُرئَ: "نَقْبل" بِنونِ العَظمَةِ، و "نَفَقَتَهم" بالإِفراد.