وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ
(62)
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ} وَإِنْ يُرِدِ الكَافِرُونَ، بِجُنُوحِهِمْ لِلسِّلْمِ، خِيَانَتَكَ وَخِدَاعَكَ، وَالمَكْرَ بِكَ، وَانْتِظَارَ الفُرْصَةِ وَالغِرَّةِ لِلْغَدْرِ بِكَ، أَوِ اغْتِنَامِ حَالَةِ السِّلْمِ لِلاسْتِعْدَادِ لِلْحَرْبِ حِينَمَا تَسْنَحُ لَهُمُ الفُرْصَةُ المُوَاتِيَةُ، فَإِنَّ اللهَ كَافِيكَ أَمْرَهُمْ فِي دَفْعِ خَدِيعَتِهِمْ، وَنَاصِرُكَ عَلَيْهِمْ. فاجْنَحْ إلى السِلْمِ وما عليكَ مِنْ نِيَّاتِهمُ الفاسِدةِ، فإنَّ حَسْبُكَ اللهُ، وهو كافيكَ ومُعْطيكَ نُصْرًة عليهم وإظْهاراً. وهذا وَعْدٌ محضٌ منه تعالى لنبيِّه ـ صلى الله عليه وسلَّم. لكنْ طالما أنهم طلبوا الصلحَ فعليكم أن تستجيبوا لهذا الطلبِ لأنَّ الغاية التي سعى إليها دين الرحمة إحلالُ السلمِ محلَّ القتل والعدل مكان الظلم والهدى مكان الضلالِ، فعليكم أن تَأْخذوا بما بدر منهم أَمّا إذا كانوا يبطنون غير ذلك فلسوف يتولَّى اللهُ أمرهم وينصركم عليهم، قال تعالى في سورة فاطر: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِه} الآية: 43. وعليكم الالتزامُ بالعَهْدِ إلى مُدَّتهِ طالما هُمْ مُلتَزِمونَ بِهِ. وهذا الأَصْلُ، وهُوَ أََخْذُ الناسِ بِظَواهِرِهِمْ، شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ دِينِ الإسلامِ، قالَ تعالى في سورة التوبة: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} الآية: 4. وفي الحديث الذي أَخْرَجَهُ البُخاريُّ، ومُسْلِمٌ، والترمذيُّ، والنَسائيُّ عَنْ أَبي هُريرَةَ ـ رَضيَ اللهُ عنه، عنِ النَبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، قال: ((آيةُ المُنافِقُ ثلاثٌ: إذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا وَعَدَ أَخْلَفَ، وإذا ائْتُمِنَ خانَ)). ومِنْ أَحْكامِِ الجهادِ عِنْد المُسْلِمين أنْ لا يُخْفَرَ للعدوِّ بِعَهْدٍ".
قولُه: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} أيّدكَ بِنَصْرِهِ؛ تحقيقاً، وبالمؤمنين؛ تشريفاً، أو أيَّدك بِنَصْرِهِ قُدْرَةً، وبالمؤمنين حكمةً، والقُدْرَةُ والحِكْمَةُ مِنْهُ وإليْه، وَمِنْ دَلاَئِلِ عِنَايَتِهِ تعالى بِكَ أَنَّهُ أَيَّدَكَ بِالمُؤْمِنِينَ وَنَصَرَكَ. فلا دَليلَ عَليْه للمُعْتَزِلَةِ الذين نَسَبُوا الفِعلَ للعبدِ، وقالوا: العَطْفُ يَقتَضي المُغايَرَةَ.
أخرج ابْنُ مردويْهِ عَنِ النُعمانِ بْنِ بَشيرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْه، في قولِهِ تعالى: "هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين" الآية، قال: نَزَلَتْ في الأَنْصارِ. وأَخرجَ أيضاً عَنِ ابْنِ عبّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما مِثلَهُ، وكذلك فقد أَخْرجَ ابْنُ أبي حاتمٍ عَنِ السُدِّيِّ ـ رضي اللهُ عنه، أَنَّهمُ الأَنْصارُ. وأَخْرَجَ ابْنُ عَساكِر عن أبي هريرةَ ـ رضي اللهُ عنه، أنّه عليٌّ بنُ أبي طالب ـ رضي اللهُ عنه، لكنَّ الآيةَ جاءتْ بالجَمْعِ: "المؤمنين" لذلك فإنَّ المقصودَ همُ الأنصارُ بقرينةِ قولِهِ بعدها: {وأَلَّفَ بين قُلوبِهم} الآية. وهذِهِ إِشارةٌ إلى العَداوةِ التي كانتْ بينَ الأَوْسِ والخَزْرَجِ في حُروبِ بُعاثَ فأَلَّفَ اللهُ تَعالى قلوبَهم على الإسْلامِ، ورَدَّهم مُتَحابِّينَ في الله. وذُكِرتْ هذه النِعْمَةُ تَأْنيساً لقلبِ محمَّدٍ ـ صلى الله عليه وسلّم، أيْ: كما لَطَفَ بِكَ رَبُّكَ أَوَّلاً فكذلك يَفْعَلُ آخراً. فإنَّ الأقربَ للصَوابِ أَنَّهمُ الأنصارُ، وهذا ما يقتضيه السياقُ. ثمَّ إنَّ الصَحابةُ جميعاً ـ رضوانُ الله عليهم، كانوا أَنْصاراً لِرَسُولِ اللهِ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ، ولهذا الدين الحنيف، وهم جميعاً زَادوا عنه وحموا بيضتَه ونشروه في أصقاع الدنيا. والأرجح أنّهم جميعاً مشمولونَ بهذه الآيةِِ، لقولِ ابْنِ مَسْعودٍ ـ رضيَ اللهُ عنه: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيةُ في المُتَحابِّينَ في اللهِ إذا تَراءى المُتحابّانِ فَتَصافَحا وتَضاحَكا تحاتَتْ خَطاياهما، فقالَ لَهُ عَبْدَةُ بْنُ أَبي لُبابَةَ إنَّ هذا لَيَسيرٌ، فقالَ لَهُ لا تَقُلْ ذلك فإنَّ اللهَ يَقولُ {لو أَنْفَقْتَ ما في الأرضِ جميعاً ما أَلَّفتَ بين قُلوبِهم} قالَ عَبْدَةُ: فعَرَفْتُ أَنَّهُ أَفْقَهُ مَِنّي. وهذا كُلُّهُ من التمَثُّلِ الحَسَنِ بالآيةِ لا أَنَّها نَزَلَتْ في ذلك. فالذهابُ إلى عُمومِ المؤمنين في المهاجرين والأنصارِ، وجعلُ التآلُفِ بين القلوبِ ما كانَ بينَهم جميعاً مِنَ التَوادّ، فتَكونُ أُلْفَةُ الأَوْسِ والخَزْرَجِ جُزْءً مِنْ ذلكَ له ما يسوِّغُهُ، وكلُّ تآلُفٍ في اللهِ تابعٌ لذلكَ التَأْليفِ الذي حصلَ في صَدْرِ الإسْلام، وقد رَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ ـ رضي اللهُ عنه، عَنِ النَبيِّ ـ صَلّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، أنَّهُ قال: ((المُؤْمِنُ مَأْلَفَةٌ، لا خَيرَ فيمَنْ لا يَأْلَفُ ولا يُؤْلَفُ)). أخرجه الطبرانيُّ.
وقال النَقَّاشُ: نَزَلَتْ هذِهِ الآيةُ بالبَيْداءِ في غَزْوَةِ بَدْرٍ قبلَ القتالِ، وحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وغيرُهُ أنَّها نَزَلَتْ في الأَوْسِ والخَزْرَجِ خاصَّةً، كما تقّدَّمَ،
وقالَ ابْنُ عُمَرَ وأَنَسٌ: إنَّها نَزَلَتْ حين أَسْلَمَ عُمَرُ ـ رضي الله عنهم أجمعين، وكَمُلَ المُسْلِمونَ أَرْبعين، فهي على هذا مَكِيَّةٌ، واللهُ أَعْلم.
قولُهُ تعالى: {وإن يُريدوا أن يخدعوك} يُريدوا: الواوُ ضَميرُ رفعٍ متَّصلٌ دالٌّ على الجَماعَةِ في محلِّ رفعِ فاعلٍ، وهو عائدٌ على الكُفَّارِ الذينَ قِيلَ فيهم: {وإنْ جَنَحوا} الآية: 61. السابقة. وعُدِّيَ فعلُ "يَخْدَعُوكَ" إلى ضَميرِ النَبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم، باعْتِبارِ كَوْنِهِ وليَ أَمْرِ المُسلمين.
قولُهُ: {فَإِنَّ حَسْبَكَ الله} حَسْبُ: صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ بمعنى اسْمِ الفاعِلِ، أي: حاسبُكَ، أيْ: كافيك، والكافُ في محلِّ جَرٍّ مُضافٍ إليه، كما نَصَّ عَليْهِ غيرُ واحدٍ قال جريرٌ:
إنّي وَجَدْتُ مِنَ المَكارِمِ حَسْبَكُمْ ...... أَنْ تَلْبَسوا حُرَّ الثِيابِ وتَشْبَعوا
وقال لبيد:
إذا كانتِ الهيجاءُ وانشَقَّتِ العَصا .... فَحَسْبُكَ والضحاكُ سيفٌ مُهَنَّد
انْشَقَّتِ العَصا بين القومِ أَيْ: وَقَعَ الخلافُ بينهم.
وقال الزجاج: إنَّهُ اسْمُ فِعْلٍ بمَعنى كَفَاكَ والكافُ في محلِّ نَصْبٍ، وخطأَهُ فيه أَبو حيّانَ الأندلُسيُّ لِدُخولِ العَوامِلِ عليْهِ وإعْرابِهِ في نحوِ: بِحَسْبِكَ دِرْهَمٌ. ولا يَكونُ اسْمُ فِعْلٍ هَكَذا.
قولُهُ: {هو الذى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ} استئنافٌ مَسُوقٌ لِتَعْليلِ كِفايَتِهِ تَعالى إيَّاهُ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وقوله: {وَبِالْمُؤْمِنِينَ} عَطْفٌ على "بِنَصْرِهِ" وأُعيدَ حرفُ الجَرِّ بعدَ واوِ العَطْفِ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنْ يَكونَ مَعْطوفاً على اسْمِ الجَلالةِ فيُوهِمَ أَنَّ المَعنى: ونَصَرَ المُؤمنينَ، مَعَ أَنَّ المَقصودَ أَنَّ وُجودَ المُؤمنينَ تَأْييدٌ مِنَ اللهِ لِرَسُولِهِ.