يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
(29)
قولُهُ ـ تباركت أسماؤه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} نداء جديد منه سبحانه لعباده المؤمنين يُأمُرُهم فيه بأن يتَّقُوا غَضَبَهُ وعذابَهُ، وقدْ تَقدََّمَ غيرَ مَرَّةٍ تَعريفُ التَقْوَى مُفَصَّلاً. وبالمُوجَز فإنَّ مَعنى التقوى تَجَنُّبُ كُلِّ ما لا يَرْضَى سُبْحانَهُ، مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، والقيامُ بِكُلِّ ما أَمَرَ بِهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ على قَدرِ الاسْتطِاعَةِ. فَمَنِ اتَّقاهُ جَعَلَ لَهُ مَوْلاهُ مِنْ كلِّ هَمٍّ فَرَجاً، وَمِنْ كلِّ ضِيقٍِ مَخْرَجاً، وَجَعَلَ لَهُ نُوراً وَهُدًى وبصيرةً يَفْرِق بِها بَيْنَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ، وَيُميِّزُ بينَ الخَيْرِ وَالشَّرِّ، قالَ مُزْرَدُ بْنُ ضِرارٍ:
بادَرَ الأفقَ أن يغيبَ فلمَّا ................... أظلم الليلُ لم يَجِدْ فُرْقانا
وقال آخر:
ما لك مِنْ طولِ الأَسى فُرْقانُ ................ بعد قَطينٍ رحلوا وبانُوا
وقال آخر:
وكيف أُرَجِّي الخلدَ والموتُ طالبي ....... وما ليَ من كأسِ المنية فرقانُ
ويجوزُ أَنْ يَكونَ الفُرْقانُ هُنا نَصْراً يُفرِّقُ بَيْنَ المُحِقِّ والمُبْطِلِ؛ يعِزُّ المؤمنين ويُذِلُّ الكافرين، وهو تأويلٌ يواكبُ السِياقَ هُنا لأنَّ السُورَةَ إنَّما نزلت في معركة بدرٍ التي فَصَلَ اللهُ فيها بين الحقِّ والباطلِ فأعَزَّ المؤمنين وأَذَلَّ الكافرين وق سماها الحق ـ تبارك وتعالى في هذه السورةِ بِ {يوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} الآية: 41. وقيل: يجعل لكم مخرجاً مِنَ الشُبُهاتِ، أوْ نجاةً ممَّا تحْذرونَ في الدارين مِنْ مكروهاتٍ، أوْ ظُهوراً يُشْهِرُ أَمْرَكُم ويَنشُرُ صِيتَكم، وهو مِنْ قولهم: فُرقانُ الصُبْحِ، أَيْ نُورُهُ. وقيل: الفُرْقانُ هو النورُ الذي يُلقيهِ اللهُ في قلوبِ المُتَّقينَ المتوجّهين إلى ربِّ العالمين وهو نُورُ الوارداتِ الإلهيَّة، التي تَرِدُ على القُلوبِ مِنْ حَضْرَةِ علاّمِ الغُيوبِ، وهيَ ثَلاثةُ أَقْسامٍ:
ـ واردُ الانْتِباهِ مِنَ الغَفْلَةِ إلى اليَقَظَةِ، ومنَ الكَسَلِ والبَطالَةِ إلى النَشاطِ والنُهُوضِ إلى الطاعَةِ، فيَتْرُكُ غفلَتَهُ وهَواهُ، ويَنْهَضُ إلى طاعَةِ سيِّدهِ ومَوْلاه.
ـ وواردُ الإقبالِ على اللهِ: وهو نورٌ يًفْرُقُ بِهِ بَينَ الوُقوفِ مَعَ ظُلْمَةِ الحِجابِ عن ربِّ الأربابِ ومسبِّبِ الأسبابِ، وبينَ السيرِ إلى شُهودِ الأَحبابِ.
ـ ووارِدُ الوِصالِ: وهو نُورٌ يَفْرُقُ بِهِ بينَ ظُلْمةِ الأَكْوانِ، ونُورِ شُهودِ الديّانِ، أو بَينَ ظُلْمَةِ سَحابِ الأثَرِ وشُهودِ شمسِ العِرْفانِ. وكلُّ ذلك تحْتَمِلُهُ تَأْويلُ هذِهِ المُفْرَدَةُ البَليغَةُ العظيمة.
قولُه: {وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} يَعِدُ اللهُ تعالى عِبادَهُ المؤمنين إضافة لما تقدّم من الفرقان، بأنْ يكفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ، أي يَسْتُرها فلا يَفْضَحُها فالتكفيرُ المبالغةُ في الكَفْرِ، وهو السَترُ والإخفاء والتغطيةُ وقد بينا ذلك غيرَ مرةٍ أيضاً في مواضع كثيرةٍ، مما سبقَ تفسيره من كتاب الله ـ جلَّ وعَلا، وَيغْفِرُ لهم ذُنُوبَهُمْ، وغفرُ الشيءِ إصلاحُ أَمْرِهِ بما يَنْبَغي.
قولُه: {وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} وَاللهُ عَظِيمُ الفَضْلِ وَالإِحْسَانِ، جَزِيلُ الثَّوَابِ، يُثيبُ عَلَى القَلِيلِ الكثيرَ، وَيَتَجَاوَزُ عَنِ الكَثِيرِ. ففضلُهُ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ. وفيهِ تَنْبيهٌ على أَنَّ ما وَعَدَهُ لهم عَلى التَقوَى تَفَضُّلٌ مِنْهُ وإحْسانٌ، لا أَنَّ تَقْواهُم أَوْجَبَتْ ذلك عَلَيْهَ، فالسَيِّدُ إذا ما وَعَدَ عبدَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ شيئاً في مُقابِلِ عَمَلٍ أَمَرَهُ بِهِ مما هُوَ واجِبٌ عَلَيْهِ لا محيدَ لَهُ عَنْهُ، فهُوَ تفضُّلٌ منه عليه وامْتِنانٌ.