ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ
(47)
قولُهُ ـ تبارك وتعالى: {ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا} يَتَضمَّنُ الطعن على المشركين بطريق تنبيه المسلمين وتحذيرهم من أن يسلكوا طريقهم ويتصفوا بصفاتهم، بعد أنْ أمرهم بطاعة الله ورسوله والثبات في ساحة المعركة، والإكثار من ذكره تبار وتعالى. ومما بكَّت الله به كفرة قريش أَنهم خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ بَطَراً وطُغْيَاناً، وَفَخْراً وَأشَراً، بِمَا أوتُوا مِنَ النَّعْمَةِ، لأنَّ أبا سفيان كان قد أرسل إليهم يعلمهم بنجاةِ القافلةِ، فارتأى العقلاء منهم العودةَ إلى مكَّة لكن كبراءَهم وطُغاتهم، وعلى رَأسِهم أبو جهل، أَخْزاهُ اللهُ، أَصَرَّوا على الخروجِ إلى ماءِ بَدْرٍ والإقامةِ هناك، ونحرِ الجزورِ، وشرب الخمور، وعزفِ القِيانِ، وضَرْبِ الدُفوفِ حتى يَسْمَعَ أَهْلُ الحِجازِ وكلِّ العَرَبِ، بمسيرهم وتحدِّيهم للرَسولِ وأَصْحابِهِ، فتزدادُ هَيْبَتُهم في العَرَبِ، فَلا يجرُؤُ أَحَدٌ عَلى الإيمان بمُحَمَّدٍ وتصديقِ رِسالَتِهِ.
أخرج ابْنُ أَبي حاتمٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَباسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما في قولِهِ تَعالى: "ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس} يَعني المُشْرِكين الذين قاتلوا رسولَ اللهِِ ـ صَلى اللهُ عَليْهِ وسلَّمَ، يومَ بَدْرٍ. وأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ الطبريُّ عَنْ مُحَمَّدٍ بْنِ كَعْبٍ القرَظِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: لما خَرَجَتْ قُريشٌ مِنْ مَكَّةَ إلى بَدْرٍ، خَرَجوا بالقِيانِ والدُفوفِ، فأَنْزَلَ اللهُ تَعالى: "ولا تكونوا كالذين خرجوا من دِيارِهِم بَطَراً" الآية. وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وابْنُ المُنْذِرِ عَنْ مجاهدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، في قولِهِ تعالى: "ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً" قال: أَبو جَهْلٍ وأَصْحابُه يَوْمَ بَدْرٍ. وعلى هذا إجماعُ المفسرين.
قولُهُ: {وَرِئَاءَ النَّاسِ} وكان خُروجُهم مِنْ مَكَّةَ إلى بَدْرٍ مُرَاءَاةً لِلنَّاسِ لِيُعْجَبُوا بِهِمْ، وَيُثْنُوا عَلَيْهِمْ بِالغِنَى وَالقُوَّةِ وَالشَّجَاعَةِ .. فإنَّهم لمَّا ورَدَوا الجَحْفَةَ بَعَثَ الحَقَّافُ الكِنانيُّ إلى أبي جهلٍ ـ وكانَ صَديقاً لهُ، بهدايا مَعَ ابْنٍ لَهُ، فلمَّا أَتاهُ قال: إنَّ أَبي يُنْعِمُكَ صَباحاً ويَقول لك إنْ شِئْتَ أَنْ أُمِدَّكَ بالرجالِ أَمْدَدْتُكَ، وإنْ شِئْتَ أَنْ أَزْحَفَ إليكَ بِمَنْ مَعي مِنْ قَرابَتي فَعَلْتُ، فقالَ أَبو جَهْلٍ: قُلْ لأَبيكَ جَزاكَ اللهُ والرحم خيراً، إنْ كُنَّا نُقاتِلُ اللهَ كَما يَزْعُمُ مَحَمَّدٌ فَوَاللهِ مَا لَنا باللهِ مِنْ طاقَةٍ، وإنْ كُنَّا نُقاتِلُ النَّاسَ، فوالله إِنَّ بِنا عَلى النَّاسِ لَقُوَّةٌ، واللهِ ما نَرْجِعُ عَنْ قِتالِ محمَّدٍ حتى نَرِدَ بَدْراً فَنَشْرَبَ فيها الخُمورَ، وتَعْزِفَ عَلَيْنا فِيها القِيانُ، فإنَّ بَدْراً مَوْسِمٌ مِنْ مَواسِمِ العَرَبِ، وسُوقٌ مِنْ أَسْواقِهم، حتى تَسْمَعَ العَرَبُ بهذِه الواقعةِ. فساقاهمُ اللهَ كؤوسَ المنايا بدلاً من كؤوس الخمر، وناحت عليهمُ النوائحُ عوضاً عن عزف القيان، وسمعت العربُ بخزيهم وذلهم.
أَخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أَبي حاتمٍ، وأَبو الشَيْخِ عَنْ قَتادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، في هذه الآيَةِ قولَه: كانَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ الذين قاتلوا نَبِيَّ اللهِ ـ صَلى اللهُ عليه وسلَّمَ، يومَ بَدرٍ خَرجوا ولهم بَغْيٌ وفَخْرٌ، وقد قيلَ لهم يومئذٍ: ارْجِعوا فقدِ انْطَلَقَتْ عِيرُكُمْ وقدَ ظَفرتم، فقالوا: لا واللهِ حتَّى يَتَحَدَّثَ أَهْلُ الحِجازِ بِمَسيرِنا وعَدَدِنا، وذُكِرَ لَنا أَنَّ نَبِيَّ اللهِ قالَ يَومِئِذٍ: ((اللَّهًمَّ إنَّ قُريشاً قد أَقْبَلَتْ بِفَخْرِها وخُيَلائها لِتُجادِلَ رَسُولَكَ)).
قولُهُ: {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} وَهُمْ إِنَّمَا يَقْصِدُونَ بِخُرُوجِهِم الصَّدَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ سبحانه، وَمَنْعَ النَّاسِ مِنَ الدُّخُولِ فِي الإِسْلاَمِ، وَالحَدَّ مِنْ انْتِشَارِهِ. بتَحَدِّيهم لِرَسُولِ اللهِ وصَحابَتِهِ الكرام، وإظهارِ قُوَّتهم وشَكيمَتِهم، حتى يخافَهُمُ الناسُ، لا سِيَّما العربُ في شِبْهِ الجَزيرَةِ العَرَبِيَّةَ كلِّها، لأنَّ قريشاً كانوا سَدَنَةَ الكَعْبَةِ التي يُقدِّسُها جميعُ العَرَبِ، ويحجُّون إليْها، فلا يجرُؤُ أحدٌ منهم على الإيمانِ بُمحَمَّدٍ واتِّباعِ دِينِه.
قولُه: {وَاللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} وَاللهُ مُحِيطٌ بهم وبِأَعْمَالِهِمْ، وما يكيدون ويدبّرون، لاَ يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ شَيءٌ، وهو ـ سبحانَه وتعالى، الذي يستدرجهم، وهو الذي يُدبِّرُ لهم لِيُهلكَهم، ويُذلَّهم في الدنيا، وَسَوْفَ يُجَازِيهِمْ فِي الآخِرَةِ، بكفرِهم وطُغيانهم وفُجورِهم وفسوقهم وسُوءِ عَمَلِهم.
قولُهُ تعالى: {بَطَراً وَرِئَاءَ الناسِ} مَصْدرانِ في مَوْضِعِ نَصْبٍ على الحالِ مِنْ فاعلِ "خَرَجوا" أَيْ: خَرَجُوا بَطِرين ومُرائين. أَوْ هما مَنصوبان على المفعولِ لأجلِهْ، و "رئاء" مصدرٌ مُضافٌ لمفعولِه. "وَيَصُدُّونَ" فعلٌ مضارع من الأفعال الخمسة حذف مفعولُه للدلالة عليه، أو تَناسيهِ. وقيلَ هوَ عَطْفٌ على "بَطَراً" و "رَئاءً" في الوجهين المتقدِّمين. لأنَّهُ مُؤوَّل بالحالِ، أَيْ: بَطرِين ومُرائين وصادِّين الناسَ، أوْ أَنْ يَكونَ قولُهُ: "بَطَراً وَرِئَاء" بمنزِلَةِ يَبْطرون ويُراؤونَ. لكنَّ عطفَ الفعل على الاسم أو العكس غيرُ مستملحٍ لأنَّه تارةً يُقامُ الفِعْلُ مَقامَ الاسْمِ، وأُخرى يُقامُ الاسْمُ مَقامَ الفَعْلِ، لِيَصِحَّ كونُ الكَلِمَةِ مَعْطوفَةً على جِنْسِها، لذلك فالأفضلُ أَنْ يَكونَ "وَيَصُدُّونَ" اسْتَئنَافاً. لأنَّ الاسْمَ كما قال الجرجانيٌّ يَدُلُّ على التَمكينِ والاسْتِمرارِ، ومثالُهُ في الاسْمِ قولُهُ تَعالى في سُورَةِ الكَهْفِ: {وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوصيد} الآية: 18. وذلك يَقْتَضي كونَ تِلْكَ الحالةِ ثابتةً راسخةً. والفعلُ يدلُّ على التَجَدُّدِ والحُدوثِ، كما هو في قولِهِ تَعالى في سُورة يونُس ـ عليه السلامُ: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السَماءِ والأرض} يونس: 31. فإنَّ ذلك يَدُلُّ على أَنَه تعالى يوصل الرزق إليهم ساعة فساعة. وقد كان أبو جهل ورهطُهُ وشِيعَتُه مجبولين على البَطَرِ والمُفاخَرَة والعُجْبِ، وأَمَّا صَدُّهم عَنْ سبيلِ اللهِ فإنَّما حَصَلَ في الزمان الذي ادَّعى محمَّدٌ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ النبوَّةَ. ولهذا السَبَبَ ذُكِرَ البَطَرُ والرئاءُ بِصيغَةِ الاسْم، وذُكِرَ الصَدُّ عَنْ سَبيلِ اللهِ بِصِيغَةِ الفِعْلِ واللهُ أَعْلَمُ.