إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ
(55)
قولُه ـ تباركت أسماؤه: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} بَعدَ أنْ شَرَحَ ـ سبحانهُ، في الآيات السابقةِ أَحوالَ المُهْلَكين مِنْ شِرارِ الكَفَرةِ، شَرَع هنا في بَيانِ أَحْوالِ الباقين مِنْهُمْ وتَفْصيلِ أَحْكامِهم، و "الدَوابُّ" كلُّ ما يَدُبُّ على الأَرْضِ، جمعٌ مفردُه: دابَّةٌ. قال تعالى في سورة النور: {والله خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِّن مَّاءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي على رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ} الآية: 45. وإطلاقُ الدابَّةِ على الإِنْسانِ حقيقيٌّ، لأنَّها تُطلَقُ على كلِّ حَيَوانٍ ولو أَدَمِيّاً. فالدابَّةُ كُلُّ حَيوانٍ في الأرضِ مميِّزاً وغَيرَ مميزٍ. وشَرَّ هذه المَخْلُوقَاتِ التِي تَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ، منزلةً عِنْدَ اللهِ فِي مقتضى حُكْمِهِ وَعَدْلِهِ، هُمُ الكَافِرُونَ. وفي وصفِهم بأنَّهمْ شَرُّ الدَوابِّ لا شَرّ النّاسِ، إِشعارٌ بأنَّهم بِمَعْزِلٍ عَمّا يَتَحَلّى بِهِ النّاسُ مِنْ تَعَقُّلٍ وتَدَبُّرٍ للأُمورِ، لأنَّ لَفْظَ الدَوابِّ ـ وإنْ كانَ يُطْلَقُ على الناسِ، إلاَّ أَنَّه عِندَ إطْلاقِهِ يُلْقى في مخيِّلةِ السامعِ ظِلاً خاصّاً يجعلها تَتَّجِهُ إلى الدَوَابِّ التي لا عقلَ لها. والإنسانَ هوَ الوحيدُ مِنْ بَيْنِ المَخْلُوقات التي تدبُّ على هذه الأرض، الذي لَهُ ما ليسَ لها من عقلٍ يُبَصِّرُها الأُمورَ وعَواقِبَها، وإنَّما تُحَرِّكُها غَرائزُها. وهؤلاءِ الكُفَّارُ قَدْ عَمِلوا بما تُمْليهِ عَليهِمْ غَرائِزُهم، وتَرَكوا العقل الذي أكرمهم الله به جانباً، قلم يستعملوه في مجالِ اسْتِجْلاءِ حقائقِ الكونِ والتَبَصُّرِ في عَواقبِ الأمورِ، بَلْ اسْتَعْملوهُ في ابْتِداعِ أَنْواعِ الأَذى، واسْتِجلاء دروبِ الشِرْك وحُجَجِ سلوكها. لذلك كانوا شرَّ هذِهِ الدَوابِّ وأَسْوَأَ تِلْكَ المَخْلوقاتِ التي لا تعقل. ونظيرُ هذه الآيةِ ما سبق في هذه السورة من قوله: {إنَّ شرَّ الدوابِّ عندَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} الأنفال: 22.
قولُهُ: {فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} فهم لا يؤمنون رغم أنهم أُوتوا العقلَ الذي يوصلهم إلى ذلك، فلم يستعملوا عقولهم في معرفة الحقائق الإيمانية والتوصُّلِ إلى معرفة الله تعالى وعبادته وهي الوظيفةُ الأساسيةُ التي خلقَ اللهُ العقل من أجلها، بَلْ بالعَكْسِ فقد وَقَفَتْ نَزَواتُهم وغرائزُهُمُ الحَيَوانيَّةُ وشَهواتُهم في الطريق القويم لهذا العَقْلِ فحجبته عنه، ووَجَّهَتْهُ إلى غيرِ ما خُلِقَ لَهُ. ولذلك وَصَفَهم أَيْضاً في سُورةِ الفُرقانِ فقال: {إِنْ هُمْ إِلاَّ كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ} الآيةُ: 44. فحَكَمَ عليهم بِأَنَّ الأَنْعامَ أَهْدى سبيلاً مِنْهم، لأنَّها، وإنْ كانت تتحركُ بدوافعَ غَريزيَّةٍ إلاَّ أَنَّها، بِفِطْرَتِها، مُقرَّةٌ لله تعالى بالربوبيَّةِ مسَبِّحةٌ لَهُ، قال تعالى في سورةِ الإسراءِ: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} الآية: 44.
وجاءَ في سَبَبِ نُزولِ هذِهِ الآيةِ الكَريمَةِ ما أَخْرَجَه أَبو الشَيْخِ عنْ سَعيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: نَزَلَتْ: "إنَّ شَرَّ الدَوابِّ عِنْدَ اللهِ الذين كفروا فهم لا يؤمنون" في سِتَةِ رَهْطٍ مِنَ اليَهودِ مِنْهُم ابْنُ تابوت.
قولُهُ تعالى: { إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} الظرف "عند" متعلِّقٌ ب "شَرَّ"، و "الذين" خبرُ "إنَّ" و "شرَّ" اسمُها، وجملة "كفروا" لا محَلَّ لها.
قولُهُ: {فهم لا يؤمنون} الفاءُ للتَنْبيهُ، و "هم" مبتدأٌ خبرُهُ "لا يؤمنون" وجملَةٌ " فهم لا يؤمنون " مَعْطوفَةٌ على جُمْلَةِ الصِلَةِ.