فيض العليم من معاني الذكر الحكيم
موسوعة قرآنية
تفسير، أحكام، أسباب نزول، إعراب، تحليل لغة، قراءات
تأليف: عبد القادر الأسود
سورة الأنفال، الآية: 24
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
(24)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ}
كرَّرَ سبحانه النِداءَ لعبادهِ المؤمنين بِصِفتِهم الإيمانِيَّةِ لِحَثِّهم على الإقْبالِ عليه، والامْتِثالِ لأَمْرِهِ بما يَرِدُ بَعدَ النداءِ مِنْ أَوامِرَ، وتنبيهاً على أنَّ فيهم ما يوجِبُ ذَلكَ، فقد أْمَرهم، سبحانه وتَعَالَى، بِالاسْتِجَابَةِ لدَعْوَتِهِ، وما يُبَلِّغُهم إيّاه رَسُولُهُ ـ صلى الله عليه وسلمَ، عنه. والاسْتِجابةُ: الإجابةُ، فالسينُ والتاءُ فيها للتَأْكيد، وإنَّما تَكونُ الاسْتِجابةُ للهِ بحُسْنِ الطاعةِ، وللرسول بالسَّمْعِ له والطاعةِ وحسنِ الاتباعِ والاقتداء.
قولُه: {إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} فإنّ في الاستجابة لله ورسولِه حياةً طيبةً في الدنيا والآخرة، وتَزكيةً لنُفُوسِهم وَتطهيراً لها رِفَعةً إلَى مَرَاتِبِ الكَمَالِ لِتَحْظَى بِرِضَا اللهِ تعالى. أَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وعَبْدُ بْنُ حميدٍ، وابْنُ جَريرٍ وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وأبو الشيخ، عَنْ مجاهِد ـ رَضِيَ اللهُ عَنْه في قوله: "إذا دعاكم لما يحييكم" قال: هو هذا القُرآنُ فيهِ الحياةُ والثقةُ والنجاةُ والعِصْمَةُ في الدنيا والآخِرَةِ. وأَخْرجَ ابْنُ إسْحقَ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، عَنْ عُروةَ بْنِ الزُبيرِ رَضِيَ اللهُ عَنهما، في قولِهِ تعالى: "إذا دعاكم لما يحييكم" أَيْ للحَرْبِ التي أَعَزَّكُمُ اللهُ بها بَعْدَ الذُلِّ، وقَوَّاكُم بها بَعْدَ الضَعْفِ، ومَنَعَكم بها مِنْ عَدوِّكم بَعدَ القَهرِ مِنْهمْ لَكم. وإطلاقُ الحياةِ على العَقائِدِ والأَعْمالِ وعلى الجِهادِ إمَّا اسْتِعارَةٌ أوْ مجازٌ مُرْسَلٌ بإطْلاقِ السَبَبِ على المُسَبِّبِ. وقد اسْتَدَلَّ ببعضُ الفُقَهاءِ بهذِهِ الآيةِ الكَريمةِ عَلى وُجوبِ إجابَتِهِ ـ صَلى اللهُ عليه وسَلَّم، إذا نادى أَحَداً وهُو في الصَلاةِ، وإنّ ذلك لا يُبْطِلُ الصلاةَ عند الشافعيِّ ـ رضي اللهُ عنه، لأنها أيضاً إجابة، وقال بعضُهُمْ تَبْطُلُ، وقيلَ: إنَّهُ يَقطْعُ الصَلاةَ إذا كانَ الدُعاءُ لأَمْرٍ يَفُوتُ بالتَأْخيرِ كَما إذا رَأَى أَعْمى وَصَلَ إلى بِئْرٍ ولَو لم يُحَذِّرْهُ لهَلَكَ، وأَيَّدَ القولَ بالوُجوبِ بما أَخْرجَهُ التِرْمِذِيُّ. والنَسائِي ُّعَنْ أَبي هُريرَةَ ـ رضي اللهُ عنه، أَنَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، مَرَّ على أُبيٍّ بْنِ كَعْبٍ وهُوَ يُصَلِّي فدَعاهُ فعَجَّلَ في صَلاتِهِ ثمَّ جاءَ فقال: ما مَنَعَك مِنْ إجابَتي؟ قال: كُنْتُ أُصَلّي. قال: أَلَمْ تُخْبَرْ فيما أُوحِيَ: "اسْتَجيبوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ" قال: بَلى ولا أَعُودُ إنْ شاءَ اللهُ تَعالى، ثمَّ إنَّه ـ صلى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قال له: لأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً أَعظَم سورةٍ في القرآنِ {الحمدُ للهِ رَبّ العالمين} الفاتحة، هِيَ السَبْعُ المَثاني. وقد تقدّمَ ذلك مفصّلاً في تفسير سورة الفاتحة. وروى البُخاريُّ عنْ أَبي سعيدٍ بْنِ المُعلَّى ـ رضي اللهُ عنه، قال: كنتُ أُصلِّي في المَسْجِدِ فدَعاني رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَلَمْ أُجِبْهُ، ثمَّ أَتَيْتُه فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إني كنتُ أُصَلِّي. فقالَ: ((أَلمْ يَقُلِ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ: "اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ" وذكر الحديث. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ورُوِيَ أَنَّهُ وَقَعَ نحوَهُ مَعَ حُذَيْفَةَ بْنِ اليَمانِ في غَزْوَةِ الخَنْدَقِ، فَتَكونُ عِدَّةُ قَضايا مُتَماثِلَةٍ ولا شَكَّ أَنَّ القَصْدَ مِنْها التَنْبيهُ على هَذِهِ الخُصوصِيَّةِ لِدُعاءِ الرَسولِ ـ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قولُه: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} ثُمَّ يُعْلِمُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُ قَائِمٌ عَلَى قُلُوبِ العِبَادِ يُوَجِّهُهَا كَيْفَ يَشَاءُ، فَيَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَبَيْنَ قَلْبِهِ، فَيُمِيتُ الإِحْسَاسَ وَالوِجْدَانَ وَالإِدْرَاكَ فِيهِ، فَتُشَلُّ الإِرَادَةِ، وَيَفْقِدُ الإِنْسَانَ سَيْطَرَتَهُ عَلَى أَعْمَالِهِ، وَيَتْبَعُ هَوَاهُ، فَلاَ تَعُودُ تَنْفَعُ فِيهِ المَوَاعِظُ وَالعِبَرُ. وَاللهُ تَعَالَى هُوَ وَحْدَهُ القَادِرُ عَلَى أَنْ يُنْقِذَهُمْ مِمَّا تَرَدَّوْا فِيهِ، إِذَا اتَّجَهُوا إلَى الطَّرِيقِ المُسْتَقِيمِ. فالآيَةُ نَظيرُ قولِهِ تعالى في سورة (ق): {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد} الآية: 16. وقالَ الرمَّانيُّ (عليّ بْنُ عيسى) وهو معتزليُّ المذهب: إنَّ معنى يحولُ بين المرءِ وقلبه، هُوَ أَنْ يَتَوَفّاهُ، لأَنَّ الأَجَلَ يَحولُ بَيْنَهُ وبَينَ أَمَلِ قَلْبِهِ. وقيل: يحولُ بينَ المؤمِنِ وبينَ المَعاصي التي يَهُمُّ بها قَلبُهُ بالعِصْمَةِ والحفظ، وقيلَ: معناهُ أَنَّهُ يَطَّلِعُ على كُلَّ ما يَخْطُرُ ببالِ المرءِ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ضَمائِرِهِ، فكأنَّهُ بَيْنَهُ وبَينَ قَلْبِهِ، واخْتَارَ الطَبريُّ أَنْ يَكونَ المَعنى أَنّ اللهَ أَخْبَرَ أَنَّه أَمْلَكُ لِقُلوبِ العِبادِ مِنْهُمْ، وأَنَّهُ يحولُ بَيْنَهم وبَيْنَها إذا شاءَ حتى لا يُدْرِكَ الإنْسانُ شَيْئاً إلاَّ بِمَشِيئَتِهِ تَعالى. وفي هذا حَثٌّ على انتهازِ الفرصةِ قبلَ الوفاةِ التي هُو واجدُها، وهي التَمَكُّنُ مِنْ إخلاصِ القلبِ ومُخالجةِ أَدوائهِ وعِلَلِه ورَدِّه سليماً كَما يُريدُهُ اللهُ القائلُ في سورة الشُعراء: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ ولا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} الآيتان: 88 ، 89. فاغتنموا هذه الفرصة وأخلصوا قلوبكم لطاعةِ اللهِ ورسولِه، وفيها تَنْبيهٌ على أَنَّهُ تَعالى مُطَّلِعٌ من مَكنوناتِ القلوبِ على ما قَدْ يَغْفُلُ عَنْهُ أَصْحابُها، وفي الآيةِ حَثٌّ على إخلاصِِ هذه القلوبِ وتَصْفِيَتِها، من كلِّ ما نهى الله عنْه مما يُعدُّ أمراضاً خفيةً كالحقدِ والحَسَدِ والرياءِ والنِفاقِ والتعلُّقِ بغيرِهِ سبحانه، والاعتمادِ على ما سِواهُ، فمَعنى يحول بَيْنَهُ وبينَ قَلْبِهِ يُميتُ هذا القلبَ فتفوتُه فُرْصَةُ التَمَكُّنِ مِنْ إخلاصِ القَلْبِ ومُعالجةِ أَدوائهِ وعِلَلِهِ وهي كثيرة أجداً، وإنَّ معاصيه أخطر من معاصي البدن، فإنَّ ذرةً من رياءٍ مثلاً تحبط الأعمال العظيمة وتضيِّعُ الجهودَ الدؤوبة، كما أنَّ مثقال حبَّةٍ من خردلٍ من كِبْرٍ كفيلة بحرمان صاحبها من الجنَّةِ كما أخرج عدد كبيرٌ من الأئمةُ عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعودٍ وغيره من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين أنّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: ((لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ وَلا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ)). رواه الترمذيُّ. وَفِي الْبَاب عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ وَأَبِي سَعِيدٍ وقَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. فقد شبَّهَ سُبْحانَهُ عِمارَةَ القُلوبِ بالطاعةِ بالحياة والطاعات القَلْبِيَّةِ كالإيمان بالله وما جاء من عنده وحُبِّ اللهِ ورسولِهِ والمؤمنين، وذكرِ اللهِ ومُراقَبَتِهِ، وغيرِ ذلك، وشَبَّهَ المَوتَ بالحيلولة بين المرْءِ وقَلْبِهِ الذي بِهِ يَعْقِلُ في عدمِ التَمَكُنِ مِنْ عِلْمِ ما يَنْفَعُهُ عِلْمُهُ وارتكاب ما نهى الله عنه من أعمال القلوب التي ذكرناها آنفاً.
وفي هذه الآيةِ الكريمةِ اسْتِعارَةٌ تمثيلِيَّةٌ لِتَمَكُّنِهِ تَعالى مِنْ قُلوبِ العبادِ فيَصْرِفُها كَيْفَ يَشاءُ بما لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ صاحِبُها فيشدُّ من عزيمتِهِ أو يوهِّنُ، ويغيِّرُ مَقاصِدَهُ، ويُلْهِمُهُ رُشْدَهُ ويزيغ عن الصراط السَوِيِّ قلبُهُ ويُبَدِّلُه بالأَمْنِ خَوْفاً وبالذِكْرِ نِسْياناً، وذلك كَمَنْ حالَ بين شَخْصٍ وما يبتغيه مما يَنْفَعُهُ، فإنَّهُ القادِرُ على التَصَرُّفِ فِيهِ دونَهُ، وهذا كما وردَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ـ رضي اللهُ عنها، وقد سَأَلَتْ رَسولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، عَنْ إكثارِهِ الدُعاءَ ب ((يا مُقَلِّبَ القُلوبِ ثَبِّتْ قَلبي على دينِكِ)) فقالَ لها: ((يا أُمَّ سَلَمَةَ إنَّهُ ليسَ آدَميٌّ إلاَّ وقلبُهُ بين أُصْبعينِ مِنْ أَصابِعِ اللهِ تَعالى فَمَنْ شاءَ أَقامَ ومَنْ شاء أَزاغَ)). أخرجه الإمامُ التِرْمَذِيُّ في صحيحه: (5/538، رقم:3522) وقال: حَسَنٌ. وأَخرجه أيضًا: الإمامُ أحمد في مسنده: (6/301، رقم: 26618). لذلك فإنَّ دأب المؤمن الخشيةُ من أن يضلَّ سعيه ويزيغ قلبه ولذلك فهو يكثر من هذا الدعاء والخشيةُ تعشش بين جوانحه. فقد وأَخْرَجَ الإمامُ أَحمدُ في الزُهْدِ، وابْنُ المُنْذِرِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. أَنَّهُ سمِعَ غُلاماً يَدْعُو: اللّهُمَّ إنَّكَ تَحُولُ بَينَ المَرْءِ وقَلْبِهِ فَحُلْ بَيْني وبَينَ الخَطايا فلا أَعْمَلُ بِسُوءٍ مِنْها. فقالَ له: رحمكَ اللهُ، ودَعا لَهُ بخيرٍ.
وأخرجَ ابنُ أبي حاتمٍ عنِ ابْنِ عباسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: يحولُ بينَ المُؤمِنِ وبَينَ مَعْصِيَتِهِ التي تَسْتَوْجِبُ بها الهَلَكَةُ، فلا بُدَّ لابْنِ آدَمَ أَنْ يُصيبَ دُونَ ذلك، ولا يُدْخِلَ على قَلْبِهِ المُوبِقاتِ التي يَسْتَوْجِبُ بها دارَ الفاسِقين، ويحولُ بينَ الكافِرِ وبَينَ طاعتِهِ ما يَسْتَوْجِبُ ما يُصيبُ أَوْلياءَهُ مِنَ الخَيرِ شيئاً، وكان ذلك في العلم السابق الذي يَنْتهي إليه أَمْرُ الله تعالى، وتَسْتَقِرُّ عِندَهُ أَعْمالُ العِبادِ. وعنه ـ رضيَ اللهُ عنه، قال: قدْ سُبِقْتُ بها عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، إذْ وَصَفَ لهم عَنِ القَضَاءِ، قالَ لِعُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وغيرِهِ ممَّنْ سَأَلَهُ مِنْ أَصْحابِهِ: ((اعْمَلْ فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ. قال: وما ذاكَ التَيْسيرِ؟ قال: صاحِبُ النّارِ مُيَسَّرٌ لِعَمَلِ النَّارِ، وصاحِبُ الجَنَّةِ مُيَسَّرٌ لِعَمَلِ الجَنَّةِ)).
وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ وحَشيشُ بْنُ أَصْرَمَ في الاستقامة، وابْنُ جَريرٍ الطبريُّ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وأَبو الشيخِ، والحاكمُ وصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عبّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، في قولهِ تعالى: "واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه" قال: يحولُ بينَ المؤمِنِ وبينَ الكُفْرِ ومَعاصِي اللهِ، ويحولُ بَينَ الكافِرِ وبَينَ الإِيمانِ وطاعةِ اللهِ.
وأَخْرَجَ عبدُ بْنُ حميدٍ، وابْنُ جريرٍ، عَنِ الحَسَنِ البصريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، في قولِهِ تعالى: "يحول بين المرء وقلبه" قال: في القُرْبِ مِنْهُ.
قولُه: {وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} ثُمَّ يَحْشُرُ اللهُ العِبَادَ إِلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ لِيُحَاسِبَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَيَجْزِيهِمْ عَلَيْهَا بِمَا يَسْتَحِقُّونَ. فهو سبحانه، المُتَصَرَّفُ في قلوبكم في الدُنْيا ولا مَهْرَبَ لَكُمْ عَنْهُ في الآخِرَةِ فَسَلِّمُوا الأَمْرَ إلَيْهِ ولا تُحَدِثُوا أَنْفُسَكُم بمُخالَفَتِهِ ومَعْصِيَتِهِ، بَلْ عَلى المَرْءِ أَنْ يَطْرُدَ وَساوِسَ الشَيْطانِ وشَهَواتِ النَفْسِ مِنْ قَلْبِهِ إذا كانَت في ما حَرَّمَ اللهُ، وذَلكَ بِكَثْرَةِ الاسْتِغْفارِ والإكثارِ من ذِكْرِ اللهِ تَعالى والصلاةِ على خاتم أنبيائه وخيرِ خَلْقِهِ، حَتى لا تُهَيْمِنَ خواطِرُ السوء على قلبه وتَتَمَكَّنَ مِنْهُ فَتَشْغَلهُ عَنْ ربّهِ وصالح نفسه، وتحرِفه عَنِ الطريق القويم، والسراط المستقيم، فتحرمه من كلِّ خير.
قولُهُ تعالى: {استجيبوا للهِ وللرسولِ} إعادةُ حَرْفِ اللامِ بَعْدَ وَاوِ العَطف في قوله: "وَلِلرَّسُولِ" للإشارةِ إلى اسْتِقْلالِ المجرورِ بالتَعْلَّقِ بِفِعْلِ الاسْتِجابَةِ، تَنْبيهاً على أَنَّ الاسْتِجابَةَ للرَسولِ ـ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، أَعَمُّ مِن الاسْتِجابَةِ للهِ، لأنَّ الاسْتِجابَةَ للهِ لا تَكونُ إلاَّ بِمَعْنى المَجازِ، وهوَ الطاعةُ، بخِلافِ الاسْتِجابَةِ للرَسُولِ فإنَّها بالمَعنى الأَعَمِّ الشامِلِ للحَقيقَةِ وهوَ اسْتِجابَةُ نِدائِهِ، وللمَجازِ وهوَ الطاعةُ، فأُريدَ أَمْرُهُم بالاسْتِجابَةِ للرَسُولِ بالمَعْنَيَيْنِ كُلَّما صَدَرَتْ مِنْهُ دَعْوةٌ تَقْتَضي أَحَدَهُما.
قولُه: {إذا دعاكم} دعا: تَعدَّى باللامِ، كما هُوَ في قَوْلِ طَرَفَةَ بْنِ العبدِ في مُعَلَّقَتِه الشَهيرةِ:
وإِنْ أُدْعَ للجُلَّى أَكُنْ مِنْ حُماتِها ..... وإِنْ تَأْتِك الأَعْداءُ بالجَهْدِ أَجْهَدِ
ومن ذلك ما أَنشْد سِيبَوَيهِْ في شواهده لِشاعِرٍ مِنْ بَني أَسَدٍ:
دعوتُ لِما نابني مِسْوَراً ...................... فَلَبِّيْ فَلَبَّيْ يَدَيْ مِسْوَرِ
يَقولُ نَابَنِي، أَيْ: أَصَابَنِي، فَلبَّى: قالَ: لَبَّيكَ وهو فِعْلٌ ماضٍ (فلبَّيْ يَدَيْ مِسَور) أَيْ أَجَبْتُهُ إجابَةً بَعدَ إجابةٍ إذا سَأَلَني في أَمْرٍ يَنُوبُهُ.
وإفراد ضمير "دَعَاكُمْ" لأن الدعاء من فعل الرسول مباشرة، كما أفرد الضمير في قوله: {وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ}. من الآية السابقة.
قولُه: {لما يحييكم} اللام للتعليل، أيْ دَعاكم لأَجْلِ ما هُوَ سَبَبُ حياتِكمُ الرُوحِيَّةِ. وقيل: اللام بمعنى "إلى" ويتعلّق ب "استجيبوا" فلذلك قُدِّرَ ب "إلى" حتى يَتَغايَرَ مدلولُ اللامِ فيَتَعَلَّقَ الحرفان بفعلٍ واحدٍ.
قولهُ: {وأَنَّهُ} يجوزُ أَنْ تَكونَ الهاءُ ضَميرَ الأَمْرِ والشَأْنِ، وأَنْ تَعودَ على اللهِ تَعالى، وهو الأحسنُ لعدمِ مُناسَبَتِهِ، ولإجراءِ أُسلوبِ الكلامِ على أُسلوبِ قولِهِ: "أَنَّ اللهَ يَحُولُ ..} الخ.
قرأَ العامَّةُ: {واعلموا أنَّ اللهَ يحولُ بَيْنَ المَرْءِ وقلبِهِ} بفتح ميمِ
"المرء"، وقرأ ابْنُ أَبي إسْحاقَ بِكَسْرِها على إتْباعِها لحركةِ الهَمْزَةِ وذلك لأنَّ في "المَرْء" لُغَتَينِ أَفصَحُهُما على فَتْح الميمِ مُطْلَقاً. والثانية بإتباع الميم لحركة الإِعراب، فتَقولُ: هذا مُرْءٌ بِضَمِ الميمِ ورأَيْتُ مَرْءً بِفَتْحِها، ومرَرْتُ بمِرْءٍ بِكَسْرِها. وقرَأَ الحَسَنُ والزُهْرِيُّ بِفَتْحِ المِيمِ وتَشديدِ الراءِ. وتوجيهُها أَنْ يَكونَ نَقَلَ حَرَكَةَ الهَمْزَةِ إلى الراءِ، ثمّ ضَعَّفَ الراءَ وأَجْرى الوَصْلَ مُجْرى الوَقْفِ. وكثيراً ما تفعل العَرَبُ ذلك في كلامها، فإنَّها تُجْرِي الوَصْلَ مُجْرى الوَقْفِ.