يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ
(65)
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} بعدَ أَنْ بَيَّنَ سبحانَه، أنَّه سيؤيدُ رسولَه والمؤمنينَ معه بالإمْدادِ والنصرِ وأنَّه سيكفيهم كيدَ المعادينَ لهذا الدين، مِنَ الكفرة والمشركين، وسيردُّ عنهم مَكْرَ الماكرين، وخِِداعَ المُخادِعين، أُمَرَ نبيَّهُ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ بِتَرتيبِ مَبادئِ النَصْرِ والإمدادِ، فقد اقتضت حكمةُ الله تعالى أن يرتِّب على المسبَّباتِ على أسبابها، وأنْ يجعلَ لكلِّ أمرٍ سبباً يعلَّق عليه. لذلك فهو ـ تَعَالَى شأنُه، يَأْمُرُ في هذه الآيةِ المباركة نَبِيَّهُ ـ صلى الله عليه وسلَّمَ، بَالمبالَغَةِ فِي حَثِّ المُؤْمِنِينَ، وَتَحْرِيضِهِمْ عَلَى القِتَالِ، لِدَفْعِ عُدْوانِ الكَافِرِينَ عَلَى الإِسْلاَمِ وَالمُسلمين، وَلإِعْلاَءِ كَلِمَةِ اللهِ وَالحَقِّ وَالعَدْلِ وَأَهْلِهَا، عَلَى كَلِمَةِ البَاطِلِ وَالظُّلْمِ وَأَنْصَارِهِا.
وتَكريرُ الخِطابِ على الوَجْهِ المذكورِ "يا أيُّها النبيِّ"، لإظْهارِ كَمالِ الاعْتِناءِ بِشَأْنِ المَأْمورِ بِهِ وهو: تحَريضُ المؤمنين عَلَى القتال، ومعنى تَحْريضِهم على القتالِ: المبالَغْةُ في حثّهم عليهِ، وتَرْغيبُهم فيه، بِكُلِّ ما أَمْكَنَ مِنَ الأُمورِ المُرَغِّبَةِ التي أَوَّلُها أنَّ النَصْرُ سيكونُ حليفَهم. وأَصْلُ التَحريضِ مِنَ الحَرَضِ، وهُوَ أَنْ يُنْهِكَهُ المَرَضُ حتى يُشْفيَ على الموتِ، وكأَنَّهُ في الأَصْلِ إزالةُ الحَرَضِ وهو ما لا خَيْرَ فيهِ ولا يُعْتَدُّ بِه، فالأَوْجَهُ حِينَئذٍ أَنْ يُجْعَلَ الحرَضُ عبارةً عَنْ ضَعْفِ القَلْبِ الذي هُوَ مِنْ بابِ نَهْكِ المَرْضِ والإشْفاءِ علىَ الهَلاكِ. قال تعالى في سورة يوسفَ على لسانِ أبناءِ يعقوبَ ـ عليهِما السلامُ يخاطبونَ أباهم، يحثونه على نسيانِ أخيهم يوسفَ حتى لا يهلك أسى وحزنا: {قَالُوا تَاللهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حتّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين} الآية: 85. أي: حتى تُشرفَ على الهلاكِ أو تهلِكَ.
قولُهُ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} لمّا كانَ عُمومُ الجِنْسِ الذي دَلَّ عَليْهِ تَعريفُ القِتالِ يَقْتَضِي عُمومَ الأَحْوالِ باعْتِبارِ المُقاتَلينَ (بفتحِ التاءِ). وكان في ذلكَ إجمالٌ مِنْ الأَحْوالِ، وقد يَكونُ العَدُوُّ كثيرَ العَدَدِ، والمؤمنونَ أَقلَّ مِنْهم عَدَداً، فقد بَيَّنَ هذا الإجمالَ بِقولِهِ: "إنْ يَكنْ مِنكم عِشْرون صابرونَ يَغْلبوا مئتيْنِ". فأَخْبرَ اللهُ نَبِيَّهُ وَالمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ إِذَا وُجِدَ مِنَ المُؤْمِنِينَ عِشْرُونَ مُعْتَصِمُونَ بِالإِيمَانِ صابِرونَ مطيعونَ للهِ ولرَسولِهِ، فَإِنَّهُمْ يَغْلِبُونَ مِئَتَيْنِ، وَإِنْ وُجِدَ مِنْهُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الكُفَّارِ، فالضميرُ في "مِِنكم" خطابٌ للنَبيِّ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وللمؤمنين.
و لمّا جُعِلَتْ جملةُ "إنْ يَكُنْ مِنْكم عِشْرونَ صابرون" بياناً لإجمالٍ، فُصِلَتْ لأنَّها كانتْ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنافاً بَيانِيّاً، ولأنَّ الإجمالَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُثيرَ سُؤالَ سائلٍ عَمّا يَعْمَلُ إذا كانَ عدَدُ العَدُوِّ كَثيراً، فقدْ صارَ المَعْنى: حَرِّضِ المؤمنين على القِتالِ بهذِهِ الكَيْفِيَّةِ، وعلى هذه الحالِ.
أَخْرَجَ البُخاريُّ، وابْنُ المُنذِرِ، وابْنُ أَبي حاتم، وأبو الشيخ، وابْنُ مردويْهِ، والبَيْهَقِيُّ في شُعَبِ الإِيمانِ، مِنْ طَريقِ سُفيان عنْ عَمْرٍو بْنِ دينارٍ، عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قال: لمَّا نَزَلَ قولُهُ تعالى: "إنْ يَكُنْ مِنْكم عِشْرونَ صابِرونَ يَغْلِبوا مِئَتيْنِ، وإنْ يَكُنْ مِنْكم مِئةٌ يَغْلَبوا أَلْفاً" فَكُتِبَ عَليهم أّنْ لا يَفِرَّ واحدٌ مِنْ عَشَرَةٍ، وأَنْ لا يَفِرَّ عِشْرونَ مِنْ مِئتينِ، ثمَّ نَزَلَتْ: {الآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكم . . . } الآية. فَكُتِبَ أَنْ لا يَفِرَّ مئةٌ مِنْ مئتين، قال سُفيانُ: وقالَ القاضي ابْنُ شُبْرُمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: وأَرى الأَمْرَ بالمَعْروفِ والنهيَ عَنِ المُنْكَرِ مِثلَ هذا، إنْ كانا رَجُلين أَمَرَهُما وإنْ كانا ثلاثةً فهو في سَعَةٍ مِنْ تَرْكِهم.
وذُكِرَ في جانِبِ جَيْشِ المُسْلِمينَ في المرّتينِ عَدَدُ العِشرينَ وعَدَدُ المئة، وفي جانِبِ جَيْشِ المُشْرِكينَ عَدَدُ المئتينِ وعددُ الأَلْفِ، إيماءً إلى قِلَّةِ جَيْشٍ المُسْلِمين في ذاتِهِ، مَعَ الإيماءِ إلى أَنَّ ثَباتَهم لا يَخْتَلِفُ باخْتِلافِ حالَةِ عَدَدِهم في أَنْفُسِهم، فإنَّ العادَةَ أَنَّ زِيادَةَ عَدَدِ الجَيشِ تُقَوِّي نُفوسَ أَهْلِهِ، ولو مَعَ كونِ نِسْبَةِ عدَدِهم مِنْ عَدَدِ عَدوّهم غيرَ مختلِفَةٍ، فجَعَلَ اللهُ الإيمانَ قُوَّةً لِنُفوسِ المُسلمين تَدْفَعُ عَنهُم وَهَنَ اسْتِشْعارِ قِلَّةِ عَدَدِ جَيْشِهم في ذاتِهِ.
وأَمَّا اخْتِيارُ لَفْظِ العِشْرينَ للتَعْبيرِ عَنْ مَرْتَبَةِ العَشَراتَ دُونِ لَفْظِ العَشَرَةِ: فلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّ لَفْظَ العِشْرينِ أَسْعَدُ بِتَقابُلِ السَكَناتِ في أَواخِرِ الكَلِمِ، لأنَّ للفْظَةِ مئتينِ مِنَ المُناسَبَةِ بِسَكَناتِ كلِماتِ الفَواصِلِ مِنْ السُورَةِ، ولذلك ذَكَرَ المئةَ مَعَ الأَلْفِ، لأنّ بَعْدَها ذِكْرَ مُمَيِّزِ العَدَدِ بِأَلفاظٍ تُناسِبُ سَكَناتِ الفاصِلَةِ، وهُوَ قولُهُ: "لا يفقهون" فَتَعَيَّنَ هَذا اللَّفْظُ قَضاءً لِحَقّ الفَصاحَةِ.
وكذلك فقد كانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، يَبْعَثُ السَّرايا، ما بَيْنَ العِشرينَ والمئةَ، في الغالِبِ، لهذا ذَكَرَ اللهُ هذيْنِ العَدَدَيْنِ. وإنَّما جاء هذا الكلامُ عَلى وِفْقِ الوَاقع.
وقولُهُ: "صابرون" أيْ: ثابتونَ في القِتالِ، لأنَّ الثَباتَ صَبرٌ علىَ الالآمِ، وأَصْلُ الصَبْرِ تَحَمُّلُ المَشاقِّ، والثباتُ مِنْهُ، قال تعالى في آخر سورةِ آلِ عمران: {يا أَيُّها الذين آمَنوا اصْبِروا وصابِروا ورابِطوا} الآية: 200، وقد تَقَدَّمَ في الحديثِ الشَريفِ قولُهُ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ لاَ تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَاسْأَلُوا الله الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حديثِ عبدِ اللهِ بْنِ أَبي أَوْفى، وجاءَ في وصفِ الأَنْصارِ مِنْ خُطبةِ سَعْدِ بْنِ مُعاذٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، ردّاً على سؤالِهِ ـ صلَّى اللهُ عَليْه وسَلَّمَ، يومَ بَدْرٍ: ((أَشيروا عليَّ)) فقامَ سَعْدٌ فقالَ: (.. ولقدْ عَلِمَتِ العَرَبُ أَنَّنا لَصُدُقٌ في الحَرْبِ، صُبُرٌ عِنْدَ اللقاءِ، ولَيُرِيَنَّكَ اللهُ مِنَّا ما تَقَرَّ بِهِ عَيْنُكَ). ومما جاء في الصَبْرِ على قِتالِ العَدوِّ والثَباتِ لَهُ قولُ نابِغَةِ بَني ذُبْيانَ:
تجنَّبْ بَني حُنَّ فإنّ لقاءَهُم ................ كَريهٌ وإنْ لم تَلْقَ إلاّ بِصابِرِ
وقولُ زُفَر بْنِ الحارِثِ الكِلابيِّ:
سَقَيْناهُمُ كأْساً سَقُونا مِثلَها .......... ولكنّهم كانوا على الموتِ أَصْبرا
والمعنى: أنّهم عُرِفُوا بالصَبْرِ والمَقْدِرَةِ عَلَيْهِ، وذلكَ باسْتيفاءِ ما يَتَطلَّبُهُ مِنْ أَحوالِ الجَسَدِ وأَحوالِ النَفْسِ، وفيه إيماءٌ إلى تَوَخِّي انْتِقاءِ الجَيْشِ، فيكونُ قيْداً للتَحريضِ، أَيْ: حَرّضِ المُؤمنينَ الصابرينَ الذينَ لا يَتَزَلْزَلونَ، فالمَقْصودُ أَنْ لا يَكونَ فيهم مَنْ هُوَ ضَعيفُ النَفْسِ فيَفْشَلَ الجَيْشُ، لذلك قالَ طالوتُ لجيشِهِ مختبراً صبرَهم على العطشِ: {إنَّ اللهََ مُبْتَليكم بِنَهْرٍ فمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فلَيْسَ مِنِّي، ومَنْ لمْ يَطْعَمْهُ فإنَّهُ مِنّي} سورة البقرة، الآية: 249. لأنَّ مَنْ لا يصبرُ على العطشِ لا يصبرُ على الشدائد في لقاءِ عدوِّه، فهو اختبارٌ لهم وتدريبٌ على الصبر، وهي من جملةِ حكمةِ الصومِ الذي فرَضَه اللهُ تعالى على عباده، تدريبهم على الصبرِ وتربيتهم عليه.
وهذا الخَبرُ كَفالةٌ للمُسْلِمين بِنَصْرِ العَدَدِ مِنْهم على عَشَرَةِ أَمْثالِهِ، مِنْ عَدَدِهم وهُوَ يَسْتَلْزِمُ وُجوبَ ثَباتَ العَدَدِ مِنْهم، لِعَشَرَةِ أَمْثالِهِ، وبِذلك يُفيدُ إطْلاقُ الأَمْرِ بالثَباتِ للعَدوّ الواقِعِ في قولِهِ: {يا أَيُّها الذين آمنوا إذا لَقيتم فئةً فاثْبُتوا} الآية: 45 من هذه السورة، وإطلاقُ النَهْيِ عَنِ الفِرارِ الواقِعِ في قولِهِ قبل ذلك: {فلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبارَ} الآية: 15 كما تقدّمَ. وهو مِنْ هذِه الناحيةِ التَشْريعيَّةِ حُكْمٌ شَديدٌ شاقٌّ اقْتَضَتْهُ قِلَّةُ عَدَدِ المُسْلِمين يَومَئِذٍ وكَثْرَةُ عَدَدَ المُشْرِكين، ولم يَصِلْ إلَيْنا أَنّ المُسْلِمين احْتَاجوا إلى العَمَلِ بِهِ في بَعْضِ غَزَواتِهم، وقُصارَى ما عَلِمْنا أنَّهم ثَبَتُوا لِثَلاثَةِ أَمْثالِهم في وَقْعَةِ بَدْرٍ، فقدْ كانَ المُسْلِمونَ زُهاءَ ثلاثمئةٍ وكان المشركون زُهاءَ الألفِ، ثمَّ نَزَلَ التَخْفيفُ بعدَ ذلكَ. والمرادُ بهذا الخبرِ الأَمْرُ، والمعنى: إِنْ يَكُنْ مِّنكُمْ عِشْرُونَ فليَصْبروا ولْيَجْتَهِدوا في القِتالِ حَتَّى يَغلبُوا مئتيْنِ، ولو أَرادَ الخبرَ لَقالَ: لم يَغْلِبْ قَطُّ مئتان مِنَ الكُفَّارِ عِشْرين مِنَ المؤمنين، ثمَّ إنَّ قولَهُ بعدَها: {الآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنكُمْ} نَسْخٌ والنَسْخُ لا يَكونُ إلاَّ للأَمْرِ. ومِنْ ثمَّ فقد قيلَ إنَّ قولَهُ تَعالى: "إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ" يَدُلُّ على أَنَّهُ تَعالى ما أَوْجَبَ هذا الحُكْمَ إلاَّ بِشَرْطِ كونِهِ صابِراً قادِراً على ذلكَ، وإنَّما حَصَلَ هَذا الشَّرُطُ عندَ حُصولِ أَشْياءَ، منها: أَنْ يَكونَ شَديدَ الأَعْضاءِ، قويّاً جَلْداً، وأَنْ يَكونَ قويَّ القَلْبِ شُجاعاً غَيرَ جَبانٍ، وأَنْ يَكونَ غيرَ مُتَحَرِّفٍ إلاَّ لِقتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئةٍ؛ فعندَ حُصولِ هذِهِ الشَرائِطِ كانَ يجِبُ على الواحِدِ أَنْ يَثْبُتَ للعَشَرَةِ. وإنَّما حَسُنَ هذا التَكليفُ؛ لأنَّه مَسبوقٌ بقولِهِ: {حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} سورةُ الأنفال، الآية: 64. فلَمَّا وَعَدَ المؤمنين بالكِفايَةِ والنُّصْرةِ كان هذا التَكليفُ سَهْلاً؛ لأنَّ العالمَ كلَّه لا يَقْدِرُ أنْ ينال ممَنْ تَكَفَّلَ اللهُ بِنَصْرِهِ.
قولُهُ: {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} أيْ: لأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَفْقَهُونَ مَا تَفْقَهُونَهُ أَنْتُمْ مِنْ حِكْمَةِ الحَرْبِ، وَمَا يُرَادُ بِهَا مِنْ مَرْضَاةِ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، وَلاَ يَنْتَظِرُونَ هُمْ مَا تَنْتَظِرُونَ أَنْتُمْ مِنَ الحَرْبِ: نَصْراً مِنَ اللهِ أَوْ فَوْزاً بِالشَّهَادَةِ وَرِضْوَانِ اللهِ. والفِقْهُ فهمُ الأُمورِ الخَفِيَّةِ، والمُرادُ نَفْيُ الفِقْهِ عَنْهم مِنْ جانِبِ مَعْرِفَةِ اللهِ تَعالى بِقَرينَةِ تَعليقِ الحُكْمِ بهِمْ بعدَ إجراءِ صِلَةِ الكُفْرِ عَلَيْهم. وإنّما جَعَلَ اللهُ الكُفْرَ سَبَباً في انْتِفاءِ الفَقاهَةِ عَنْهم لأنَّ الكُفرَ مِنْ شأنِهِ إنْكارُ ما لَيْسَ بِمَحْسوسٍ، فَصاحِبُهُ يَنْشَأُ على إهمال النَظَرِ، وعَلى تَعطيلِ حَرَكاتِ فِكْرِهِ، فهم لا يُؤمنونَ إلاَّ بالأَسْبابِ الظاهِرِيَّةِ، فيَحْسَبونَ أَنَّ كَثْرَتَهم تُوجِبُ لهم النَّصْرَ على الأَقلّينَ لِقَولِهم: (إنَّما الغرَّةُ للكاثِرِ)، ولأنّهم لا يُؤمنون بما بَعْدَ الموتِ مِنْ نَعيمٍ وعَذابٍ، فهم يَخْشَوْنَ المَوْتَ، فإذا قاتَلوا لا يُقاتلون إلاّ في الحالَةِ التي يَكونُ نَصْرُهُم فيها أَرْجَحَ، والمؤمنون يُعَوِّلونَ على نَصْرِ اللهِ، ويَثْبُتون للعَدُوَِّ رَجاءَ إعْلاءِ كَلِمَةِ اللهِ، ولا يَهابونَ الموتَ في سَبيلِ اللهِ، لأَنّهم مُوقِنونَ بالحياةِ الأَبَدِيَّةِ السعيدةِ بعدَ الموتِ.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} يا: أَداةُ نِداءٍ، و "أَيُّ" مُنادى نَكِرْةٌ مَقْصودَةٌ مَبْني على الضَمِّ في محَلِّ نَصْبٍ على النداءِ، و "ها" للتَنْبيهِ، و "النَبيُّ" عَطْفُ بيانٍ أو بدلٌ من "أيُّ". أمَّا مَذْهَبُ الأَخْفَشِ ف "أيّ" اسمٌ مَوْصولٌ و "النبيُّ" خبرٌ لِمَحذوفٍ، والجمْلَةُ صِلَةٌ وعائدٌ، والتقدير: (يا مَنْ هُوَ النَبِيُّ).
قوله : {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} أَثْبَتَ في الشَرْطِ الأَوَّلِ قيداً وهوَ الصَبرُ وحَذَفَ مِنَ الثاني، وأَثْبَتَ في الثاني قيداً وهو كَونُهم مِنَ الكَفَرَةِ وحَذَفَ مِنَ الأَوَّلِ. والتقدير: مئتينِ مِنَ الذين كفروا ومِئَةُ صابرة، فحذف من كلٍ منهما ما أثبتَ في الآخر وهو في غاية الفصاحة. وجملةُ الشَرْطِ هذه مُسْتَأْنَفَةٌ في حَيِّزِ جَوابِ النِداءِ، و "عشرون" اسْمُ "يكن"، وحُذِفَ تمييزُ العَدَدِ.
وعِشْرونَ، وثلاثونَ، وأَرْبَعون، كلُّ واحدٍ مِنْها اسْمٌ مَوْضوعٌ على صُورَةِ الجَمْعِ لهذا العَدَدِ. ويجري هذا الاسْمُ مُجْرى فِلَسْطين. فإنْ قيلَ: لِمَ كَسَرَ أَوَّلَ "عِشْرينَ" وفَتَحَ أَوَّلَ "ثلاثين" وما بَعْدَهُ إلى "ثَمانين" إلاَّ "ستين"؟ فالجوابُ عِنْدَ سِيبَويْهِ أَنَّ "عِشرين" مِنْ "عَشَرَةٍ" بمنزلَةِ "اثْنَيْنِ" مِنْ "واحد"، فَكُسِرَ أَوَّلُ "عِشرين" كَما كُسِرَ "اثْنانِ". والدليل على هَذا قَولُهم: "سِتّون" و "تِسْعون"، كما قيلَ: "سِتَّةٌ" و "تِسْعَةٌ".
قولُهُ: {يغلبوا مئتين} يغلبوا: مجزومٌ جواباً للشرط وعلامةُ جزمِهِ حذفُ النون لأنَّه من الأفعال الخمسة. و "مئتين" مَفعولٌ بِهِ مَنْصوبٌ.
قولُه: {من الذين كفروا} جارُّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِنَعْتٍ ل "ألفًا"،
قولُهُ: {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} الباءُ للسببية، و "أنهم" أنَّ واسمُها، و "قومٌ" خبرها، و جملةُ "لا يفقهون" نَعْتٌ ل "قوم".
وقرأَ الكُوفِيُّونَ: {وإن يكنْ منكم مئة يَغْلبوا} و {فإن يكنْ منكم مئة صابرة} بِتَذْكيرِ "يَكُنْ" فيهما. وقرأ نافعٌ، وابْنُ كَثيرٍ، وابْنُ عامرٍ، بِتَأْنيثِهِ فيهِما، وقرأ أَبو عَمْرٍو في الأُولى كالكُوفِيّينَ، وفي الثانيةِ كالباقين. فَمَنْ ذَكَّرَ فللفَصْلِ بينَ الفِعْلِ وفاعِلِهِ بِقولِهِ "منكم"؛ ولأنَّ التأنيثَ مَجازِيٌّ، إذِ المُرادُ بالمِئَةِ الذُّكورُ. ومَنْ أَنَّثَ فَلأَجْلِ الفَصْلِ، ولم يَلْتَفِتْ للمَعْنى ولا للفَصْلِ. وأَمَّا أَبو عَمْرٍو فإنَّما فَرَّقَ بَينَ المَوْضِعَيْنِ فَذَكَّرَ في الأَوَّلِ لِِمَا ذُكِرَ، ولأنَّهُ لحَََظَ قولَهُ "يَغْلبوا"، وأنَّثَ في الثاني لِقُوَّةِ التَأْنيثِ بِوَصْفِهِ بالمؤنَّثِ في قولِهِ: "صابرة".
وأَمَّا "إنْ يكنْ منكم عشرون" و "إن يكنْ منكم أَلْفٌ"، فبالتَذْكيرِ عِنْد جميع القُرَّاءِ إلاَّ الأَعْرَجَ فإنَّهُ أَنَّثَ المُسْنَد إلى "عشرون".
وقَرَأَ الأَعْمَشُ: "حَرِّصْ" بالصادِ المُهْمَلَةِ، وهُوَ مِنَ الحِرْص، ومَعناهُ مُقارِبٌ لِقراءَةِ العامَّةِ.