إذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ، وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً، لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)
قولُهُ ـ تباركَ وتعالى: {إذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} أيْ: إِذَا كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ، وَبِمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ كُنْتُمْ مُرَابِطِينَ فِي أَقْرَبِ الجَانِبَيْنِ مِنَ الوَادِي إلَى المَدِينَةِ والعُدْوَةِ بتثَليثِ العَينِ: شاطئُ الوادي أو طَرَفُهُ أو شفيرُهُ، وَكَانَتْ قُرَيشٌ تُرَابِطُ فِي أَبْعَدِ جَانِبَيْ الوَادِي مِنَ المَدِينَةِ، وَكَانَتْ قَافِلَةُ قُرَيْشٍ (العِيرُ أَوْ الرَّكْبُ) أَسْفَلَ مِنَ المُسْلِمِينَ مِمَّا يَلِي البَحْرَ. ووادي بدرٍ آخذٌ بَينَ الشَرْقِ والقِبْلَةِ مُنْحَرِفٌ إلى البَحْرِ الذي هُوَ على مَسافَةٍ قَريبةٍ مِنْ ذلكَ الموقعِ، وكانَ أَبو سُفيانَ قدْ نَكِبَ بالقافلةِ عَنِ الطَريقِ خَوْفاً مِنَ النَبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ علَيْهِ وَسَلَّمَ، لما عادتْ إليْهِ عيونُهُ بَخبرٍ مفادُه أَنَّ محمَّداً وأصحابَهُ قدْ خَرَجوا مِنَ المدينةِ يريدون اعْتِراضَ سَبيلِ القافِلَةِ للسيطرةِ عليها وأخذِ ما فيها من أموالِ قريشِ مقابلَ ما أخذته قريشٌ من أموالهم التي تركوها في مكَّةَ حين أرغمتهم على الهجرةِ منها إلى المدينة المنوَّرة (يثرب) فراراً بدينهم. فحالَ جمعُ مُشْرِكي قُريشٍ، بينَ العيرِ وبينَ المُسْلِميَن. حينَ خَرجَ لِنَجْدَةِ القافلةِ بناءً على اسْتِنْجادِ أَبي سُفْيانَ بهم كما سَبَقَ شَرْحُهُ.
قولُهُ: {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} وَلَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَوَاعَدْتُمْ مَعَ قُرَيشٍ عَلَى هَذا اللِّقَاءِ، فِي مَكَانٍ مُعَيَّنٍ، وَفِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ لِلْقِتَالِ، لاخْتَلَفْتُمْ فِي المِيعَادِ، وَلَمَا كَانَ هَذا التَّوَافُقُ فِي الزَّمَانِ وَالمَكَانِ. أي: لَوْ كَانَ اللِّقَاءُ عَنْ مَوْعِدٍ مِنْكُمْ وَمِنْهُمْ، وَعَلِمْتُم بِقِلَّتِكُمْ وَكَثْرَتِهِمْ لمَا لَقيتُمُوهُمْ. أَوْ لاخْتَلَفْتُم بالقَواطِعِ والعَوارِضِ القاطِعَةِ المانعة بينَ الناسِ.
قولهُ: {وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً} وَلَكِنَّ اللهَ هَيَّأَ ظُرُوفَ هذا اللِّقَاءِ بين الفريقين، فأخرج المسلمين بدايةً طمعاً بما في القافلة من أموالٍ، وأخرج المشركين دفعاً عن القافلة التي فيها أموالُهم، ثمَّ نجَّى القافِلَةَ، وجعل المشركين في مقابل المسلمين وجهاً لِوَجْهٍ، حيث توجَّه الفريقان إلى ماء بدرٍ كلباً للسقيا، لِيَقْضِيَ بِقٌدْرَتِهِ إِعزَازَ الإِسْلاَمِ وَأَهْلِهِ، وَإِذْلاَلَ الشِّرْكِ وَأَهْلَهِ، وذَلِكَ بِلُطْفٍ مِنْهُ وفضلٍ، ليهون أمرُ قريش في عيون العرب الذين يحجمون عن الإيمان برسالة محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلم، رهبةً من قريشٍ، ويرفع من شأنِ المسلمين فيجعلهم مرهوبي الجانب، ومن طبيعة النفس البشريَّة دائماً أنّها تميل إلى القويِّ وتقف في صفّه.
قولُهُ: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} لقَدْ فَعَلَ اللهُ ذَلِكَ لِيَتَرَتَّبَ عَلَى قَضَاءِ هَذا الأَمْرِ هَلاكُ مَنْ هَلَكَ مِنَ الكُفَّارِ، أَيْ يموتُ مِنْهم مَنْ ماتَ بِبَدْرٍ عَنْ إعْذارٍ وعَنْ حُجَّةٍ عليه مُبَيَّنَةٍ مُشَاهَدَةٍ بِالبَصَرِ بٍبُطلانِ كُفْرِهِ وصِحَّةِ الإِسْلاَمِ ومبادئه، وَصِدْقِ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ. فأَنْجَزَ اللهُ تعالى وَعْدَهُ لِرَسُولِهِ وَالمُؤْمِنِينَ، لِتَنْتَفِي الشُّبْهَةُ، وَلاَ يَكُونَ هُنَاكَ مَجَالٌ لِلاعْتِذَارِ عَنْ عَدَمِ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ، وَليَعِيشَ مَنْ يَعِيشُ مِنَ المُؤْمِنِينَ عَنْ حُجَّةٍ شَاهِدَةٍ، فَيَزْدَادَ يَقيناً بِالإِيمَانِ، وَنَشَاطَاً فِي الأَعْمَالِ بعدَ أنْ شاهد البيانِ. وقيلَ: لِيَهْلكَ مَنْ يَكْفُرُ ويحيى مَنُ يؤمِنُ باللهِ ـ جلَّ وعلا. فالحياةُ والهَلاكُ عَلى هذا مُسْتَعارَانِ، والمَعْنى أَنَّ اللهَ تَعالى جَعَلَ قِصَّةَ بَدْرٍ عِبْرَةً وآيَةً لِيُؤمِنَ مَنْ آمَنَ عَنْ وُضوحٍ وبَيانٍ، ويَكْفُرَ أَيضاً مَنْ كَفَرَ عَنْ مِثْلِ ذلك من البرهان.
أَخْرَجَ ابْنُ إسْحقَ، وابْنُ أَبي حاتمٍ عَنْ عَبّادَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُبيرِ رَضِيَ اللهُ عَنهُما، في قولِهِ تعالى: "وهم بالعدوة القصوى" مِنَ الوادي إلى مَكَّةَ، "والركب أسفل منكم" يَعْني أَبا سُفيانَ وغيرُهُ، وهيَ أَسْفَلُ مِنْ ذلكَ نحوَ الساحِلِ، "ولو تَواعَدْتمْ لاخْتَلَفْتم في الميعادِ" أَيْ: ولو كان على مِيعادٍ مِنْكم ومِنْهُمْ، ثمَّ بَلَغَكَمْ كَثْرَةُ عَدَدِهم وقِلَّةُ عَددِكم، ما الْتَقَيْتم، "ولكنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أمراً كان مفعولاً" أَيْ: لِيَقْضِيَ ما أَرادَ بِقُدْرَتِهِ مِنْ إعزازِ الإِسْلامِ وأَهْلِهِ، وإذْلالِ الكُفْرِ وأَهْلِهِ، مِنْ غَيرِ مَلأ مِنْكم، ففعلَ ما أَرادَ مِنْ ذلك بِلُطْفِهِ، فأَخْرَجَهُ اللهُ وَمَنْ مَعَهُ إلى العِيرِ لا يُريدُ غيرَها، وأَخْرَجَ قُريْشاً مِنْ مَكَّةَ لا يُريدونَ إلاَّ الدَفْعَ عَنْ عِيرِهم، ثمَّ أَلَّفَ بَينَ القَومِ على الحربِ وكانوا لا يُريدونَ إلاَّ العيرَ، فقالَ في ذلك: "ليقضيَ اللهُ أَمْراً كان مَفْعولاً" لِيَفْصِلَ بينَ الحَقِّ والباطِلِ "لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ويَحيا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ" أَيْ: لِيَكْفُرَ مَنْ كَفَرَ بَعدَ الحُجَّةِ لما رَأَى مِنَ الآياتِ والعِبَرِ، ويُؤمِنَ مَنْ آمَنَ على مِثْلِ ذَلكِ.
قولهُ: {وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} وَاللهُ "سَمِيعٌ" لِدُعَائِكُمْ وَتَضَرُّعِكُمْ الذي طالما رفعتموه إِلَيْهِ، وقد تقدَّم أنَّ النبيَّ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ، قد بات ليلة بدر قائماً يصلي ويضرع إلى الله رافعاً يديه بالدُعاءِ إلى مولاه حتى سقط رداؤه عن كتفه. واللهُ ـ تبارك وتعالى، "عَلِيمٌ" بِأنَّكُمْ صَادِقُونَ في إيمانكم تَسْتَحِقُّونَ النَّصْرَ على أعدائكم.
قولُهُ تَعالى: {إِذْ أَنتُمْ بالعُدوةِ الدُنيا} إذْ: محلُّه النَصْبُ، إمَّا على أَنَّهُ مَفعولٌ لِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ بِ "اذْكُروا". أَوْ عَلى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ "يَومَ الفُرقانِ" أَيْضاً. أَوْ هُوَ مَنصوبٌ بالفُرْقانِ على الظَرْفِيَّةِ، أَيْ: فَرَقَ بينَ الحقِّ والباطِلِ إذْ أَنْتُم بالعُدْوَةِ. وقيلَ: هُوَ مَنْصوبٌ بِ "قديرِ"، على أنَّه ظرفٌ لَهُ وهذا لَيْسَ بِواضِحٍ، إذْ لا يَتَقَيََّدُ اتِّصافُهُ بالقُدْرَةِ بِِظَرْفٍ مِنَ الظُروفِ. و "أنتم" مبتدأٌ وخبرُهُ محذوفٌ و "بالعُدوةِ" مُتَعَلِّقٌ بمَحْذوفٍ على أنَّهُ خبرُ المُبْتَدَأِ، والباءُ بمَعنى "في" كَقَولِِكَ: زَيْدٌ بمَكَّةَ. وجملةُ "أنتم بالعدوة" في محلِّ جرٍّ بإضافةِ "إذ" إليه.
قولهُ: {والرَكب أَسْفَلَ مِنكُمْ} الأَحْسَنُ في هذهِ الواوِ، والواوِ التي قَبْلَها الداخِلَةِ على "هُمْ" أَنْ تَكونَ عاطفةً ما بَعدَها على "أنتم" لأنَّها مَبْدأُ تَقسيمِ أَحْوالهم وأَحوالِ عَدُوِّهم. ويجوزُ أَنْ تَكونا واوَيْ حالٍ. و "أسفلَ" مَنْصوبٌ على الظَرْفِ النائبِ عَنِ الخَبَرِ، وهُوَ في الحَقيقةِ صِفَةٌ لِظَرْفِ مَكانٍ محذوفٍ أَيْ: والرَكْبُ مَكَاناً أَسْفَلَ مِنْ مَكانِكم. والرَّكْبُ اسْمُ جمعٍ لِ "راكِب" وليسَ جمعَ تَكسيرٍ لَهُ خِلافاً للأَخْفشِ، لِقولِ الشاعرِ:
بَنَيْتُه مِنْ عُصْبَةٍ مِنْ مالِيا ................ أخشى رُكَيْباً أو رُجَيْلاً غاديا
فصَغَّرهُ عَلى لَفْظِهِ، ولو كانَ جمْعاً لَما صُغِّرَ على لَفْظِهِ.
قولُهُ: {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ} هذه الجملةُ في موضع الحال منَ {الْجَمْعَانِ} وعامل الحالِ فِعلُ {الْتَقَى} الآية: 41. أَيْ: في حالِ لقاءٍ على غيرِ مِيعادٍ، قد جاءَ أَلزَمَ ممّا لَوْ كان على مِيعادٍ، فإنَّ اللقاءَ الذي يَكونُ مَوْعوداً قدْ يُتَأَخَّرُ فيه أَحَدُ المتواعدين عَنْ وَقْتِهِ. والتلازمُ بين شَرْطِ "لَوْ" وجوابها خَفِيٌّ هُنا والوَجْهُ أَنَّ "لَوْ" هذِهِ مِنْ قَبيلِ "لو" التي لا يقصدُ منها رَبْطُ انْتِفاءِ مَضمونِ جوابها بانتفاء مضمون شرطها، أي: رَبْطُ حُصولِ نَقيضِ مَضمونِ الجوابِ بِحُصولِ نَقيضِ مَضمونِ الشَرْطِ، بَلْ يُقْصَدُ أَنَّ مَضْمونَ الجَوابِ حاصلٌ لا مَحالةَ، سَواءٌ فُرِضَ حُصولُ مَضْمِونِ شَرْطِها أَوْ فُرِضَ انْتِفاؤهُ، إمَّا لأنَّ مَضْمونَ الجَوابِ أَوْلى بالحصولِ عِنْدَ انْتِفاءِ مَضْمونِ الشَرْطِ، نحوَ قولِهِ تَعالى في سورة فاطر: {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} الآية: 14، وإمَّا بِقطعِ النَظَرِ عَنْ أَوْلَوِيَّةِ مَضْمونِ الجَوابِ بالحُصولِ عِنْدَ انْتِفاءِ مَضْمونِ الشَرْطِ، نحوَ قولِهِ تَعالى في سورة الأنعام: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} الآية: 28. ومُحَصِّلُ هَذا أَنَّ مَضْمونَ الجَزاءِ مُسْتَمِرُّ الحُصولِ في جميعِ الأَحْوالِ في فَرَضِ المُتَكَلِّمِ، فيأْتي بجُمْلَةِ الشَرْطِ مُتَضَمِّنَةً الحالةَ التي هِيَ عِنْد السامِعِ مَظَنَّةَ أَنْ يَحْصَلَ فيها نَقيضُ مَضْمونِ الجوابِ. ومِنْ هذا قولُ طُفَيْلٍ الغَنَوِيِّ:
أَبَوا أَنْ يَمَلُّونا وَلَوْ أَنَّ أُمَّنا ............... تُلاقي الذي لاقُوهُ مِنّا لَمَلَّتِ
أيْ فكيف بِغيرِ أُمِّنا. وهَذا البَيْتُ واحدٌ مِنْ ثلاثةِ أَبْياتٍ للشاعر تمثّلَ بها الصِدِّيقُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، لمّا انَشَغَلَ بَأَهْلِ الرِّدَّةِ فاسْتَبْطأتْهُ الأنْصارُ، فقال: إمَّا كَلَّفْتُموني أَخْلاقَ رَسُولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فواللهِِ ما ذَاكَ عِنْدي ولا عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ النّاسِ، ولَكنِّي واللهِ ما أُوتَى مِنْ مَوَدَّةٍ لَكمْ ولا حُسْنِ رَأْيٍ فِيكُم، وكَيْفَ لا نُحِبُّكُمْ! فوَاللهِِ ما وَجَدْتُ مَثَلاً لَنا ولَكُم إلاَّ ما قالَ طُفَيْلٌ الغَنَوِيُّ لِبَني جَعْفَرَ بْنِ كِلابٍ:
جَزَى اللهُ عَنّا جَعْفَراً حينَ أُزْلِقَتْ .......... بِنَا نَعْلُنا في الواطِئينَ فَزَلَّتِ
أَبَوْا أَنْ يَمَلُّونا وَلَوْ أَنَّ أُمّنا ............... تُلاقي الّذي لاقُوهُ مِنّا لَملَّتِ
هُمُ خَلَطُونا بالنُّفوسِ وأَلجؤُوا ............ إلى حَجَراتٍ أّدْفَأَتْ وأَظَلَّتِ
قولُهُ: {ولكنْ لِّيَقْضِيَ أمراً كان مفعولاً} لكن: لاستدراك، والتقديرُ: ولكنْ لم تَتَواعَدوا وجِئْتم على غيرِ ميعادٍ لِيَقْضيَ اللهُ.. . و "ليَقْضي" جارٌّ ومجرورٌ متعلِّقٌ بمحذوفٍ، أيْ: ولكن تَلاقَيْتُم لِيَقْضِيَ. وقدَّرَ الزَمخْشَرِيُّ ذلك المحذوفَ فقال: أيْ: لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كان واجباً أَنْ يُفْعلَ وهوَ نَصْرُ أَوليائهِ وقَهْرُ أعدائهِ دَبَّرَ ذلك. وقد نكَّرَ "أمراً" هنا للتعظيم، و "كان" يُحتَمَلُ أَنْ تَكونَ على بابها مِنَ الدَلالَةِ على اقْتِرانِ مَضْمونِ الجُمْلَةِ بالزَمانِ الماضي، فتَدُلُّ على تحققِ ثُبوتِ مَعنى خَبَرِها لاسْمِها مِنَ الماضي كقولهِ تعالى في سورة الروم: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} الآية: 47. أيْ: ثَبَتَ لَهُ اسْتِحقاقُ الحقيَّةِ عَلَيْنا مِنْ قَديمَ الزَمانِ، فمعنى "كَانَ مَفْعُولاً" أَنَّه ثَبَتَ لَهُ في عِلْمِ اللهِ أَنَهُ يُفْعَلُ. فاشْتُقَّ لَهُ صِيغَةُ مَفعولٍ مِنْ فَعَلَ للدَلالَةِ على أَنَّهُ حِينَ قُدِّرَتْ مَفْعُولِيَّتُهُ فقدَ صارَ كأنَّهُ فُعِلَ، فَوُصِفَ لِذلِكَ باسْمِ المَفْعولِ الذي شأنُهُ أَنْ يُطْلَقَ عَلى مَنِ اتَّصَفَ بِتَسَلُّطَِ الفِعْلِ في الحالِ لا في الاسْتِقْبال. ويجوزُ أَنْ تَكونَ بمَعنى صارَ، فَتَدُلَّ على التحوُّلِ أَيْ: صارَ مَفعولاً بَعدَ أَنْ لم يَكُنْ كَذلكَ.
قولهُ: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ} في مَوْضِعِ بَدَلِ الاشْتِمالِ مِنْ جملةِ: {لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} لأَنَّ الأَمْرَ هُوَ نَصْرُ المُسْلِمين وقَهْرُ المُشْرِكينَ وذلك قَدِ اشْتَمَلَ عَلى إِهْلاكِ المَهْزومين وإحياءِ المنصورين. و "لِيَهْلِكَ" هُوَ بَدَلٌ من: "ليقضيَ" بإعادَةِ العامِلِ فَيَتَعَلَّقُ بما تَعَلَّقَ بِهِ الأَوَّلِ. ودُخولُ لامِ التعليلِ على: "يَهْلِكَ" هو تأكيدٌ للامِ الداخلَةِ على: "يَقْضِيَ" في الجملة المُبْدَلِ مِنْها. أَوْ يجوزُ أَنْ يَكونَ "لِيَهلكَ" مُتَعَلِّقٌ بِقولِهِ: "مفعولاً"، أيْ: فِعْلَ هذا الأَمْرِ لِكَيْتَ وكيتَ. أوْ أَنَّهُ مُتَعلِّقٌ بما تعلَّق بِهِ "لِيَقْضِيَ" على سبيلِ العَطْفِ عَليهِ بحَرْفِ عَطْفٍ محذوفٍ تقديرُه: ولِيَهْلِكَ، فحَذَفَ العاطِفَ وهُوَ قليلٌ جِدّاً. و الموصولُ "مَنْ" فاعل في الجملتين. و "عَن بَيِّنَةٍ" جارٌّ ومجرورٌ متعلقٌ بِ "يَهْلِكَ" و "يَحْيَا". و "عَنْ" للمُجاوَزةِ المجازيَّةِ، وهيَ بمعنى بَعد، أيْ: بعدَ بيِّنَةٍ يَتَبَيَّنُ بها سببُ الأمرين: هلاكُ مَنْ هَلَكَ، وحياةُ مَنْ حَيَّ.
قرأَ نافع، وعاصم، وابْنُ عامرٍ، وحمزة، والكسائي: {بالعُدْوَةِ} بالضَمِّ فيهِما، وقَرَأَ ابْنُ كَثيرٍ وأبو عَمْرٍو "بالعِدوة" بِكَسْرِ العَينِ فيهما. وهما لُغتانِ في شَطِّ الوَادي وشَفيرِهِ وضِفَّتِهِ، سُمِّيَتْ بذلك لأنها عَدَتْ ما في الوادي مِنْ ماءٍ ونحوِهِ أَنْ يَتَجاوَزَها، أَيْ مَنَعَتْهُ. قالَ النابغةُ:
عَدَتْني عن زيارتها العَوادي ............... وحالَتْ دونَها حربٌ زَبُونُ
وبهذا البيتِ لُقِّبَ النابغةُ بالنابغةِ، أمَّا اسمُهُ فهو زِيادُ بْنُ مُعاوِيَةِ بْنُ جابر بْنِ ضَباب مِنْ بَني ذُبيانَ بْنِ بَغيضٍ بْنِ رَيْثٍ بْنَ غَطفان، شاعرٌ جاهِلِيٌّ يُكَنَّى أَبَا أُمامَةَ، وأَبَا عَقرَبٍ. وهذا البيتُ من قصيدةٍ له أوَّلُها:
نَأَتْ بِسُعادَ عَنْكَ نَوًى شَطُونُ ............... فبانَتْ والفُؤادُ بها رَهينُ
بِتَبْلٍ غيرِ مُطّلَبٍ لَدَيْها ....................... ولكنّ المَحايِنَ قَدْ تَحينُ
عَدَتْني عنْ زِيارتِها العَوادي ............... وحَالَتْ دُونَها حربٌ زَبونُ
وحَلَّتْ في بَني القَيْنِ بْنِ جسْرٍ ............. فقدْ نَبَغتْ لَنا مِنْهُمْ شُؤونُ
وقرأََ الحَسَنُ ابنُ أَبي الحسنِ، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وقتادَةُ، وعَمْرٌو بْنُ عُبَيْدٍ بالفتح، وكُلُّها لُغاتٌ بمعنى فيها وهي بمعنىً واحدٍ. هكذا قال جمهورُ اللُّغَوِيّين. على أَنَّ أَبا عَمْرٍو أَنْكَرَ الضَمَّ، ووافَقَهُ في ذلك الأَخْفَشُ فَقالَ: لم يُسْمَعْ مِنَ العَرَبِ إلاَّ الكَسْرُ. ونقل أبو عُبيد اللغتين إلاَّ أَنَّهُ قال: الضَمُّ أَكْثَرُهما. وقالَ اليَزيدِيُّ: الكَسْرُ لُغةُ الحِجازِ، وأَنْشَدَ عليه قولَ أَوْسِ بْنِ حِجْر:
وفارسٍ لم يَحُلَّ القومُ عِدْوَتَه ............. وَلَّوا سِراعاً وما هَمُّوا بإقْبالِ
وقد رويَ بالكَسْرِ والضَمِّ، فَلا وَجْهَ لإِنكار الضَمِّ ولا الكَسْرِ لِتَواتُرِ كُلٍّ مِنْهُما. ويُحْمَلُ قولُ أَبي عَمْرٍو على أَنَّهُ لمْ يَبْلُغْهُ ذلك. ويُحْتَمَلُ أَنَّ يُقالَ في قراءةِ مَنْ قرأ بفتحِ العَينِ أَنْ يَكونَ مَصْدَراً سُمِّيَ بِهِ المَكانُ. وقُرِئَ شاذّاً "بالعِدْيَةِ" بِقَلْبِ الواوِ ياءً لانكسارِ ما تَقَدَّمَها، ولا يُعْتبرُ الفاصلُ لأنَّهُ ساكِنٌ فهُوَ حاجزٌ غيرُ حَصينٍ عند أَهْلِ اللُّغةِ، وهذا كقولهم: هوَ ابْنُ عَمِّي دِنْيا. بِكَسْرِ الدالِ وهوَ مِنَ الدُنوِّ، وكذلك قِنْيَةٌ وصِبْيةٌ، وأَصْلُهُ السَّلامةُ كالذِّرْوَة، والصِّفْوة، والرِّبوةِ. وجاء في حَرْفِ ابْنِ مَسْعودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "إذا أَنْتم بالعُدْوَةِ العُلْيا وهُمْ بالعُدْوَةِ السُفْلى".
قولُهُ: {القُصْوى} تأنيثُ الأَقْصى. أيْ: الأبعد. والقَصْوُ: البُعْدُ. وللتصريفيين عبارتان أَغْلَبُهُما أَنَّ فُعْلى مِنْ ذواتِ الواوِ: إن كانتِ اسْماً أُبْدِلَتْ لامُها ياءً، ثمَّ يُمَثِّلون بِنَحْوِ الدُّنْيا والعُلْيا والقُصْيا، وهذِه صِفاتٌ لأنَّها منْ بابِ أَفعلَ التَفضيلِ، وكأَنَّ العُذرَ لهم أَنَّ هذِهِ وإنْ كانت في الأَصلِ صفاتٍ إلاَّ أَنَّها جَرَتْ مُجْرى الجَوامِدِ. قالوا: وإنْ كانت فُعْلى صِفةً أُقِرَّتْ لامُها على حالها نحوَ: الحُلْوى تَأنيث الأحلى. وقد نَصُّوا على أن القُصْوى شاذَّةٌ وإنْ كانَتْ لُغَةَ الحِجازِ، وأَنَّ القُصْيا قياسٌ، وهي لُغَةُ تميمٍ. وممَّن نَصَّ على شُذوذِ القُصْوى يَعْقوبُ بْنُ السِكِّيتِ. وقالَ الزَمخشريُّ: وأَمَّا القُصْوَى فكالقَوَدِ في مَجيئهِ على الأَصْلِ، وقدْ جاءَ القُصْيا إلاَّ أَنَّ استعمالَ القُصْوى أَكْثَرُ، كَما كَثُرَ اسْتِعْمالُ "اسْتَصْوَبَ" مَعَ مَجيءِ "اسْتَصابَ"، وأَغْيَلَتْ مَعَ أَغالَتْ.
وقَرَأَ زَيدُ بْنُ عليٍّ "بالعُدْوَة القُصْيا" فجاءَ بها على لُغةِ تميمٍ، وهيَ القياسُ عندَ هؤلاءِ كما تقدَّمَ. والعِبارةُ الثانيةُ وهيَ المغلوبَةُ القَليلةُ العَكْسِ، أَيْ: إنْ كانَتْ صفةً أُبْدِلت نحوَ: العُلْيا والدُنْيا والقُصْيا، وإِنْ كانَتِ اسْماً أُقِرَّتْ، نحوَ: حُزْوَى في قولِ ذيِ الرمَّة:
أَداراً بِحُزْوَى هِجْتِ للعينِ عَبْرةً ........ فماءُ الهوى يَرْفَضُّ أو يَتَرَقْرَقُ
وعلى هذا فالحُلْوى شاذَّةٌ لإِقرارِ لامِها معِ كونها صِفَةً، وكذا القُصْوَى أَيْضاً عَنْدهم لأنها صِفَةٌ. وقد تَرَتَّبَ على هاتينِ العِبارتينِ، أَنَّ "قُصْوى" على خِلافِ القِياسِ فيهِما، وأَنَّ "قُصْيا" هِيَ القِياسُ لأَنَّها عِنْدَ الأَوَّلينَ مِنْ قَبيلِ الأسْماءِ، وهُمْ يَقْلِبونَها ياءً، وعندَ الآخَرينَ مِنْ قَبيلِ الصِفاتِ وهُمْ يَقْلِبونَها ياءً أَيضاً، وإنَّما يَظْهَرُ الفَرْقُ في الحُلْوى وفي حُزْوى: فالحُلْوى عِنْدَ الأوَّلين تصحيحُها قياسٌ لكونِها صِفَةً، وشاذَّةٌ عِنْدَ الآخَرين لأنَّ الصِفةَ عندَهم تُقْلَبُ واوُها ياءً، والحُزْوَى عَكْسُها: فإنَّ الأوَّلين يُعِلُّون في الأسماءِ دون الصِفاتِ، والآخَرونَ عَكْسُهم. ومعنى الشُذوذِ شُذوذُ القِياسِ لا شُذوذُ الاسْتِعْمالِ، فإنَّ استعمالَ القُصْوَى مُتَواتِرٌ.
وقرأَ العامَّةُ: {أسفلَ} بالفتحِ، وقَرَأَ زيدُ بْنُ عَلِيّ "أسفلُ" بالرفعِ وذلك على سبيلِ الاتِّساعِ، فجَعَلَ الظَرْفَ نَفْسَ الرَكْبِ مُبالَغَةً واتِّساعاً. وأَجازَ الفَرّاءُ والأخفشُ والكسائي "أسفلُ" بالرَفْعِ على تَقديرِ محذوفٍ، أَيْ: مَوْضِعُ الرَكْبِ أَسْفَلُ. والتخريجُ الأوَّلُ أَبْلَغُ في المعنى.
وقرأَ العامَّةُ: {ليهلِكَ} بكسر اللامِ، وقَرَأَ الأَعْمَشُ وعِصْمَةُ عَنْ أَبي بَكْرٍ، عَنْ عَاصِمٍ: "لِيََهْلَكَ" بِفَتْحِها، وقياسُ ماضِيهِ "هَلِكَ" بالكَسْرِ. والمَشْهورُ إنَّما هُوَ الفَتْحُ، قالَ تَعالى في سورةِ النِساءِ: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} الآية: 176. وقال في سُورَةِ غافِرٍ: {حتى إِذَا هَلَكَ} الآية: 34.
وقرأ العامَّةُ: {من حيَّ} بإِدْغامِ الياءينِ. وقرأَ نافع، وأبو بكر عن عاصم، والبزّيّ عن ابنِ كثير: "مَنْ حَيِيَ} بالإِظهارِ، وهما في هذا النوع لغتانِ مَشهورتان: فإنَّ كلَّ ما كانَ آخرُهُ ياءينِ مِنَ الماضي أُولاهُما مَكْسورةٌ نحو: حَيِيَ وعَيِيَ. يجوزُ فيه الإدغامُ والإظهارُ. فمِنَ الإِدْغامِ قولُ المُتَلَمِّس:
فهذا أوانُ العِرْضِ حَيَّ ذُبَابُهُ ................ زنابيرُهُ والأزرقُ المتلمِّسُ
قولُهُ العِرْض: اسمُ وادٍ باليَمامَةِ. والمُتَلَمِّسُ: مِنَ المُلامَسَةِ، أَيْ المُجامَعَةِ، كما قالَ تعالى في سورةِ المائدة: {أَوْ لامَسْتُمُ النِساءَ} الآية: 6. وقد لُقِّبَ الشاعرُ جَريرٌ بْنِ عبدِ المَسيحِ، بالمُتَلَمِّسِ لهذا البَيْت. وقال عبيدُ بْنُ الأَبرصِ:
عَيُّوا بأمرِهِمُ كما ............................. عَيَّتْ ببيضَتِها الحمامَهْ
والعِيُّ: عَدَمُ الاهتداءِ إلى جهةٍ. ومنه العِيُّ في الكلامِ. فأَدغَم "عيُّوا"، ويُنْشَدُ: عَيَّتْ وعَيِيَتْ بالإِظهار والإِدغام. فَمَنْ أظهر فلأنه الأصلُ، ولأن الإِدغامَ يؤدِّي إلى تضعيفِ حرفِ العلةِ وهو ثقيلٌ في ذاته، ولأن الياءَ الأولى يتعيَّن فيها الإظهارُ في بعضِ الصور، وذلك في مُضارِعِ هذا الفِعْلِ لانْقِلابِ الثانيةِ أَلِفاً في "يَحْيَا ويَعْيَا"، فَحُمِل الماضي عليه، ولأَنَّ الحركَةَ في الثاني عارِضةٌَ لِزَوالها في نحو: حَيِيَتْ وبابِهِ، ولأَنَّ الحَرَكَتَين مختلفتان، واختِلافُ الحركتين كاخْتِلاف الحرفين، قالوا: لَحِحَتْ عَلَيه، وضَبِبَ المكانُ، وأَلِلَ السِّقاءُ، ومَشِشَتْ الدابَّةُ. قالَ سِيبَوَيْهِ: أَخْبرَنا بهذِهِ اللُّغَةِ يونُسُ. يَعني لُغَةَ الإِظْهارِ. وقالَ: وسمعتُ بعضَ العَربِ يَقولُ: أَحْيِياءُ، وأَحْيِيَةٌ، فيُظْهر. وإذا لم يُدْغَمْ مَعَ لُزومِ الحَرَكَةِ فمَعَ عُروضِها أَوْلى. ومَنْ أَدْغَمَ فلاسْتِثْقالِ إظهارِ الكَسْرَةِ في حرفٍ يُجانِسُهُ؛ ولأَنَّ حركةَ الثانيةِ لازِمةٌ لأَنَّها حَرَكةُ بِناءٍ، ولا يَضُرُّ زوالُها في نحو حَيِيْتُ، كما لا يضرُّ ذلك فيما يَجِبُ إدْغامُهُ مِنَ الصَحيحِ، نحوَ: حَلَلْتُ وظَلَلْتُ؛ وهذا كلُّهُ فيما كانَتْ حركتُهُ حركةَ بناءٍ، ولذلك قُيِّدَ بِهِ الماضي، أَمَّا إذا كانَتْ حَرَكَةَ إعْرابٍ فالإِظهارُ فقط لَهُ: يُحْيِيَ ولن يُعْيِيَ.