َإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
(71)قولُهُ ـ جلَّ ذِكْرُهُ: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ} أيْ: إنْ أَرادَ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الأَسْرى خيانَتَكَ بالكُفْرِ بَعْدَ الإسْلامِ، فقد خانوا اللهَ مِنْ قَبْلُ إذْ كَفَروا بِهِ قَبْلَ أَسْرِهم، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: فقدْ خانوا بِخُروجِهم مَعَ المُشْرِكينَ، فقد قال إنَّها نَزَلَتْ في قومٍ تَكَلَّموا بالإسْلامِ، وقالَ مُقاتل: المعنى إنْ خانوكَ مَكَّنَكَ اللهُ مِنْهم فَقَتَلْتَهم وأَسَرْتَهمْ كَما مَكَّنَكَ مِنَ المُشركين في بَدْرٍ. وقالَ الزَجَّاجُ واللهُ عَليمٌ بخيانَتهم إنْ خانُوا حَكيم في تَدبيرِهِ عَليهم ومُجازاتِهِ إيَّاهم.
وفي الآية إنْذارٌ لهم بِسُوءِ المَصيرِ إذا ما لَجّوا في عِنادِهم وغَدرِهم، وفيها بِشارَةٌ مِنَ اللهِ تَعالى، لِرَسُولِهِ وللمُؤمنين بِأَنَّ العاقبةَ سَتَكونُ لهم. والمقصودُ بقولِهِ: "خِيَانَتَكَ" نَقْضُ ما عاهدوكَ عَليْه مِنْ إِعطاءِ الفِدْيَةِ، أَوْ أَنْ لا يَعودوا لِمُحارَبَتِكَ، ولا إلى مُعاضَدَةِ المُشرِكينَ. ويَجوزُ أَنْ يَكونَ المُرادُ: وإنْ يُريدوا نَكْثَ ما بايَعوكَ عَلَيْهِ مِنَ الإسْلامِ أو إنْ يريدوا الرِدَّةَ واسْتِحْبابَ دِينِ آبائهم. وَكان بَعْضُ أَسْرَى بَدْرٍ قد قال لِلنَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلَّم: آمَنَّا بِمَا جِئْتَ بِهِ وَنَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ، وَلَنَنْصَحَنَّ لَكَ عَلَى قَوْمِنَا. فَقَالَ اللهُ تَعَالَى لِلنَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلَّم: إنْ كَانُوا يُرِيدُونَ خِيَانَتَكَ فِيمَا أَظْهَرُوهُ لَكَ مِنَ الأَقْوَالِ، فَقَدْ خَانُوا اللهَ قَبْلَ بَدْرٍ بِكُفْرِهِمْ بِهِ، فهزمهم ونصركم عليهم.
قالَ العُلَماءُ: إنْ تَكَلَّمَ الْكَافِرُ بِالإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ وَبِلِسَانِهِ، وَلَمْ يُمْضِ بِهِ عَزِيمَةً لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا. وَإِذَا وُجِدَ مِثْلُ ذَلِكَ مِنْ الْمُؤْمِنِ كَانَ كَافِرًا إلاَّ مَا كَانَ مِنْ الْوَسْوَسَةِ الَّتِي لا يَقْدِرُ الْمَرْءُ عَلَى دَفْعِهَا، فَإِنَّ اللهَ قَدْ عَفَا عَنْهَا وَأَسْقَطَهَا.
قولُهُ: {فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ، وَأَظْفَرَكُمْ بِهِمْ، وأَقْدَرَكُمْ عَلَيْهِمْ، وَجَعَلَهُمْ فِي جُمْلَةِ الأَسْرَى، وَاللهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُ، حَكِيمٌ فِيهِ. ذُكِر أنَّ الذي أَسَرَ العَبَّاسَ هو أَبو اليُسْرِ كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو أَخو بَني سَلَمَةَ، وكانَ رَجُلاً قَصيراً، وكانَ العبَّاسُ ـ رضي اللهُ عنه، ضَخْماً طَويلاً، فلَمَّا جاءَ بِهِ إلى النَبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، قالَ لَهُ: ((لقد أَعانَكَ عَلَيْهِ مَلَكٌ)). وهذا تأويلُ قولِه تعالى: "فأَمْكَنَ مِنْهم".
قوله تعالى: {وَإِن يُرِيدُوا خيانتك} الضميرُ يَعودُ على الأَسْرى لأنهم أَقربُ مَذْكور. وقيلَ: يعود على الجانِحين للسَّلْمِ. وقيل: يعود على اليهودِ. وقيلَ: يعودُ على كُفّارِ قُرَيْشٍ. وجمْلَةُ "وإنْ يُريدوا" مَعطوفَةٌ على جَوابِ النِداءِ السابقِ. و "خِيانَة": جمعها خيائنُ، وكان يَجِبُ أَنْ يُقالَ: خَوائن، لأنَّهُ مِنْ ذَواتِ الوَاوِ، إلاَّ أَنَّهم فَرَّقوا بَيْنَهُ وبَيْنَ جمعِ خائنةٍ. ويُقالُ: خائنٌ وخُوّانٌ وخَوَنَةٌ وخَانَةٌ.
قولُهُ: {فأَمْكَنَ مِنْهم} يُقالُ أَمْكنَني الأَمرُ، أَيْ: أَمْكَنَني مِنْ نَفْسِهِ، ومَكَّنْتُهُ مِنَ الشيءِ تَمْكيناً وأَمْكَنْتُهُ جَعَلْتُ لَهُ عَلَيْهِ قُدْرَةً. فهذا الفِعلُ مَشْتَقٌّ مِنَ المَكانَ والهمزةُ فيهِ للجَعْلِ، ومعنى أَمْكَنَهُ مِنْ كَذا، جَعَلَ لَهُ مِنْهُ مَكاناً، أَيْ مَقَرّاً، وأَنَّ المَكانَ مَجازٌ أَوْ كِنايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ في تَصَرُّفِهِ كَما يَكونُ المَكانُ مَجالاً للكائنِ فِيه. و "مِنْ" التي يَتَعَدَّى بها فِعْلُ أَمْكَنَ اتّصالِيَّةٌ مِثْلُ التي في قولِهم: لَسْتُ مِنْكَ ولَسْتَ مِنّي. فقولُهُ تَعالى: "فأمكن منهم" حُذِفَ مَفْعولُهُ لِدَلالَةِ السِياقِ عَلَيْهِ، أيْ: أَمْكَنَكَ مِنْهُمْ يَومَ بَدْرٍ، أَيْ: لم يَنْفَلِتوا مِنْكَ. والمعنى: أَنّه أَتاكُمْ بِهم إلى بَدْرٍ على غَيرِ تَرقُّبٍ مِنْكمْ فَسَلَّطَكم عليهم.