ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ
(51)
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} وَهذا العَذابُ الذي مِنْهُ ضَرْبُ الوَجْهِ والقَفا، أَوِ القُبُلِ والدُبُرِ، وغيرُهُ مِنْ أَلْوانِ العذابِ التي لا يَعْلَمُها إلاَّ اللهُ تَعالى ـ نَعُوذُ بِرِضاهُ مِنْ غَضَبِهِ، وبِعَفْوِهِ مِنْ عُقُوبَتِهِ، وما أنْتم فيه من ذلٍّ وهوانٍ وصغارٍ، إنَّما هُوَ بِسَبَبِ ما قدَّمْتمْ مِنْ كفرٍ وما ارْتَكَبْتُمْ مِنْ عصيانٍ لمولاكم العظيم. وهو مِنْ حديثِ المَلاَئِكَةُ مَعَ الكُفَّارِ وَهُمْ يَقْبِضُونَ أَرْوَاحَهُمْ، فَيَقُولُونَ لَهُمْ: إِنَّ هَذَا العَذَابُ الذِي يَنْزِلُ بِكُمْ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ مَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ، وَمَا عَمِلْتُمْ مِنْ سَيِّئَاتٍ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيا، وخُصَّتِ الأَيْدي بالذِكْرِ، للدَّلالَةِ على التَمَكُّنِ مِنَ الفِعْلِ وإرادَتِهِ، وأَنَّ أَكْثَرَ الأَفْعالِ يَكونُ عَنْ طَريقِ البَطْشِ بالأَيدي. ولأنَّ نِسْبَةَ الفِعلِ إلى اليَدِ تُفيدُ الالْتِصاقَ بِهِ، والاتِّصالَ بِذاتهِ.
قولُهُ: {وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلامٍٍ لِلْعَبِيدِ} فإِنَّ اللهَ تَعَالَى لاَ يَظْلِمُ أَحَداً مِنْ خَلْقِهِ، وَهُوَ الحَكَمُ العَدْلُ الذِي لاَ يَكونُ مِنْهُ ظُلْمٌ أَبَداً. فالظلمُ ممّا هُوَ مُسْتَحيلٌ في حَقِّ الأُلوهِيَّةِ. لأنَّ دافعَ الظلمِ إنما يكونُ لجلبِ نفعٍ له أو دفع ضررٍ عنه، وهو ـ سبحانه وتعالى، مُنَزَّهٌ عنهما. لأنَّهما يَعْنيانِ وجودَ نقصٍ فيمن يحتاجُ لجَلْبِ النَفْعِ أَوْ دَفْعِ الضَرَرِ. وفي صَحيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبي ذَرٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عنه، عَنْ رَسولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ اللهَ تعالى يقولُ: ((يا عبادي إني حَرَّمْتُ الظُلمَ على نفسي، وجعلتُه بينَكم مُحَرَّماً، فلا تَظالَمُوا، يا عبادي إنَّما هي أعمالُكم أُحْصيها لكم، فمَنْ وَجَدَ خيراً فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غيرَ ذَلك فلا يَلومَنَّ إلاَّ نَفْسَهُ)) والحديث طويل نفيس.
وسِرُّ التَعبيرُ بصيغةِ المبالغةِ "ظَلاَّمٍ"، مَعَ أَنَّ نفيَ المَصْدَرِ (الظُلْمِ) أَبْلَغُ، فنَفْيُ الكَثْرَةِ لا يَنْفي أَصَلَه. أَنَّ "ظلاّم" جمعُ حالاتٍ منِ الظُلْمِ ونفيُ الكَثْرَةِ، نَفْيٌ لِكُلِّ حالَةٍ منها. فإذا انْتَفى الكثيرُ، انْتَفى القليل، لأن الذي يَظْلِمُ إنما يفعلُ ذلك للانتِفاعِ بِهِ، فإذا تَرَكَ كَثيرَهُ، مَعَ زِيادَةِ نَفْعِهِ في حَقِّ مَنْ يَجُوزُ عَلَيْهِ النَفْعُ والضَرُّ، كان بقَليلِهِ أَزْهَد.
قولُهُ تعالى: {ذلك بما قدَّمت أيديكم} اسْمُ الإشارة "ذلك" مُبْتَدَأٌ وخَبَرُهُ جملَةُ "بما قدَّمت أيديكم"، و "بما" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بالخَبَرِ. والباءُ للسَبَبِيَّةِ. وتقديمُ الأَيْدي مجازٌ عَنِ الكَسْب والفِعْلِ.
قولُهُ: {وَأَنَّ الله} عَطْفٌ على "ما" الموصولة المجرورة بالباءِ، أيْ: ذلك بِسَببِ تقديمِ أَيديكم، وبِسَبَبِ أَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ للعَبيدِ، وقيلَ: "وَأَنَّ الله" خبرٌ لِمُبْتَدأٍ محذوفٍ.
قولُهُ: {ليس بظلام للعبيد} ليس فعلٌ ناسخٌ ناقصٌ مِنْ أَخَواتِ "كان" واسمها ضميرُ الحق تعالى، و "بظلامٍ" مجرورٌ بالباء لَفْظاً منصوبٌ محلاًّ على أنّه خبرُ "ليس" و "للعبيد" جارٌّ ومجَرورٌ متعلِّقٌ بالخبر، وهذه الجملةُ بِناءُ مُبالَغَةٍ. والباءُ في خَبَرِ لَيْسَ زائدةٌ. وهذه الجملةُ اعْتِراضٌ تَذييليٌّ مُقَرِّرٌ مَضْمونَ ما قَبْلَهُ. أيْ: ذلك الذي نَزَلَ بِكُمْ سَبَبُهُ ما قدمتْهُ أيدكم، والأمرُ أَنَّ اللهَ تعالى، ليس بمعذِّبٍ لِعبيدِهِ مِنْ غيرِ ذَنْبٍ جَنَوْهُ. ويجوزُ أَنْ يَكونَ مَعطوفاً على "ما" المجرورةِ بالباءِ. أي: ذلكَ بِسَبَبِ ما قدَّمَتْهُ أيديكم وأَنَّ اللهَ ليسَ بِظَلاّمٍ للعَبيدِ كما تقدَّم.