وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
(28)
قولُهُ ـ تباركت أسماؤه: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} لما كانَ سَبَبُ الخِيانَةِ غالِباً مَحَبَّةُ المالِ أَوِ الوَلَدِ أو كِلَيْهِما، وكان سببَ نُزولِ هذه السورةِ أَموالُ الأنفالِ ـ كما سَلَفَ بيانُه، وكان مِنْ أَعْظَمِ الخيانَةِ في الأَنْفالِ الغُلولُ، وكان الحاملَ على الغلولِ المحنةُ بحبِّ جمعِ المالِ إمَّا تَلَذُّذاً بِهِ أَوْ لإنفاقِهِ على محبوبٍ، والولَدُ هو أَعَزَّ محبوبٍ؛ لذلك كلِّهِ فقد حَسُنَ كلَّ الحُسْنِ أن يلي ذلك كلَّه قولُهُ: "وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ" و "وَاعْلَمُوا" هي كلمةٌ يُنَبَّهُ بها السامعُ على أنََّ ما بعدَها مُهِمٌّ جِداً و "فتنة" أيْ سببُ الفتنةِ، فالأموالُ والأولادُ هم سببها. فلا يحمِلَنَّكُم حبُّ الأموالِ والأولادِ على مخالَفَةِ أَمْرِ اللهِ سبحانه، فتَهلكوا. فإِنَّ اللهَ تَعَالَى أَعْطَاكُمُ الأَمْوَالَ وَالأَوْلاَدَ اخْتِبَارٌ وَابْتِلاَءٌ، لِيَخْتَبِرَ إِيمَانَكُمْ، وَلِيَرَى هَلْ تَشْكُرُونَ رَبَّكُمْ عَلَيْها، وَتُطِيعُونَهُ فِيهَا، أَمْ تَشْتَغِلُونَ بِهَا عَنْهُ، وَتَعْتَاضُونَ بِهَا مِنْهُ؟ وَثَوابُ اللهِ وَعَطَاؤُهُ وَجَنَّاتُهُ خَيْرٌ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ، فَالأَوْلاَدُ قَدْ يَكُونُ مِنْهُمْ عَدُوٌّ لَكُمْ، وَهُمْ عَلَى كُلِّ حَالٍ لاَ يُغْنُونَ عَنِ الإِنْسَانِ شَيْئاً يَوْمَ القِيَامَةِ. ولَعَلَّ الفِتْنَةَ في المالِ أكثر مِنْها في الوَلَدِ ولذلك قدَّمَ الأَمْوالَ على الأَوْلاد في الذكر.
أَخْرَجَ ابْنُ جريرٍ الطبريُّ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وأبو الشيخ، عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، في قوله: "واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة" قال: فِتنةُ الاخْتِبارِ، اخْتَبَرَهُم. وقَرَأَ قولَهُ تعالى في سورة الأنبياء: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} الآية: 35.
وأخرج ابنُ أبي حاتمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعودٍ ـ رضي اللهُ عنه، ما منكم مِنْ أَحَدٍ إلاَّ وهُوَ مُشْتَمِلٌ على فِتْنَةٍ لأنَّ اللهَ سبحانَهُ يَقول: "واعلموا أَنَّمَا أموالكم وأولادُكم فتنة" فمَنِ اسْتَعاذَ مِنْكمْ فَلْيَسْتَعِذْ باللهِ تَعالى مِنْ مُضِلاتِ الفِتَنِ؛ وجاءَ مِثلُ ذلك عَنْ عليٍّ كَرَّمَ اللهُ وجْهَهُ.
قولُهُ: {وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} وَلَدَى اللهِ الثَّوَابُ الجَزِيلُ الذِي يُغْنِي الإِنْسَانَ عَنِ المَالِ وَالوَلَدِ. عاجلاً وآجِلاً لمنْ وَقَفَ عِنْدَ حُدودِهِ، فيَحْفَظُ لَهُ مالَهُ وأولادَهُ ويُبارِكُ لَهُ فيهم، مَعَ ما يُدَّخَرُ لهُ في الآخرةِ دارِ السَعادةِ، فأَقْبِلوا بجميعِ هِمَمِكم إليهِ تَسْعَدوا. ولا يحملنكم حبِّ المالِ والولِدِ على الخيانة كما حصل لأبي لبابة، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.